د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح واقع بعض الممارسات غير المسؤولة من حيث استغلال الوظيفة العامة في تحقيق أغراض شخصية ومكاسب مادية، وقضايا التجاوزات الحاصلة في المال العام، التي وصلت حسب تصريحات الادعاء العام في عام 2018 إلى ( 124 ) قضية وفي عام 2017 (133) قضية، والتي ترد عبر جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة ومبادرات من الجهات الحكومية الأخرى للإبلاغ عن تلك التجاوزات والاختلاسات المالية، يطرح البحث في بناء مسارات آمنة تضمن تمكين المواطن من أن يسهم بدور أكثر مهنية تحفظ لمال العام وموارد الوطن المادية والمالية من أن تمتد إليها أيدي العبث أو التفكير في استغلالها بطرق غير مشروعه يجرمها القانون، وبالتالي الدور الاستراتيجي الذي يفترض أن يؤديه التعليم في سبيل رعاية مقدرات الوطن وموارده وحماية ثرواته ، بما يغرسه في نفوس الأجيال والقائمين على هذه الموارد( قيادات ومسؤولين وموظفين ومؤتمنين) من مسؤولية بناء أرصدة النجاح والتميز والإدارة والكفاءة والمصداقية والمهنية بما يعزز قدرتهم على إدارتها ورفع سقف انتاجيتها وتثميرها للصالح العام، بالإضافة إلى ما يسهم به التعليم من تحصين هذه الكفاءات والقدرات البشرية وتعميق روح المسؤولية والإخلاص والأمانة والنزاهة فيها، وتأصيل قيم الولاء والانتماء والمواطنة الإيجابية، وتعميق روح المسؤولية وبناء الضمير ومنهجية العمل من أجل الوطن، بالشكل الذي يضمن خفض درجات القلق المجتمعي حول موارده وممتلكاته، بحيث تضع هذه الموارد نصب اهتمامها وفي ضمير مسؤولياتها وأخلاقياتها، وتعمل على التثمير فيه والابتكارية في أدواتها وتحقيق الاستدامة والتنويع فيها ليصل إلى الأجيال القادمة في قوة، بحيث يشعر أن موارده ترعاها ايدي امينه أخذت من نهج التعليم وقيمه مبادئه واخلاقه وارصدة نجاحاته، ما يؤسس فيها انتاج القوة ويصقل فيها القيم والأخلاق، ويصنع منها قدرات ناهضة وقدوات مضيئة تترك بصمات نجاح ، وتعيد صياغة الواقع في ظل تخطيط وتنظيم وإدارة ورقابة ومتابعة وتصحيح ، تأخذ من أساسيات العلم وركائزه ما يقوي نوازع الخير، ويبني قيم الأمانة والإخلاص والصدق ويؤطرها بنهج الموضوعية في المعالجة والعدالة في القرار، بالإضافة إلى قدرته على توجيه المتعلم على حسن الاستخدام وطريقة التصرف نحو هذه الموارد وامتلاكه أدوات صقلها والمحافظة عليها، بما يكسبه الثقة فيما يمكن أن يقدمه التعليم من استراتيجيات في الأداء الرصين.
وبالتالي ما يكسبه هذا التحول في الممارسة التعليمية المجتمع من شعور قوي بقدرته على امتلاكه أدوات المحافظة على هذه الموارد فيقل درجة القلق لديه حول مستقبل التنمية لأنها في قراراته سوف تكون في أيدي امينة من المتعلمين وحملة الشهادات المخلصين، وأصحاب الهمم والمبادرات ، والذين يمتلكون ناصية المعرفة وترسخت لديهم مناهج العمل وأدوات التخطيط والثقافة الرصينة والعلم النافع ، وصقلوا تعليمهم بالخبرة العملية والتجربة الناصعة والاستفادة من تجارب الآخرين، واطلعوا على الكثير من النظريات والمقارنات، وعرفوا العديد من الاتجاهات الفكرية والمدارس المعرفية ، فكانت بذلك لهم حصنا حصينا يمنعهم من سوء المقصد في استغلال موارد التنمية، وبالتالي ما يفترض أن يحمله التعليم في برنامجه من أبعاد وقائية ورقابية وتصحيحية تضمن تحقيق معدلات أكبر من الأمان للمجتمع على موارده وممتلكاته العامة والخاصة والحفاظ على ثرواته وخيراته، في ظل حزمة المبادئ والميزات التنافسية التي يمتلكها التعليم ويفترض أن تنطلق منها منظومة أدائه واستراتيجيات عمله، فهو من جهة مطلوب منه أن يمارس دورا استثنائيا في الحفاظ على رصيد التنمية واستدامته للأجيال القادمة، وفي الوقت نفسه مطالب بأن يؤسس قدرات وطنية تحمل في مسؤوليتها تحقيق نوعي يفخر به المجتمع .
وتبقى قدرة التعليم على تحقيق التوازن الفكري والعاطفي بين حاجات الفرد واستيعابه لجوانب التحول الحاصلة في عالم المتعلم، فيبني فيه الضمير الحي الممتنع عن الإساءة إلى مقدرات وطنه باستغلال أو اختلاس أو سرقة أو رشوة أو سلب أو تزوير وغيرها، ويؤسس فيه الأدوات والمنهجيات والأساليب التي يستعين بها في الوصول للحق وبلوغه، وصون الفكر من كل المؤثرات الداخلية الخارجية، وإنهاض الوعي ونهوض مسارات التفكير العليا والحدس والالهام لديه، ويقرأ ما بين السطور ويمتلك ناصية المبادرة وحافز الاجتهاد، ليصنع منها انسانا قادرا على فهم أولوياته، وادراك حقوق المجتمع عليه، ويجد في نفسه أن عليه أن يعمل بكل اخلاص ومهنية لنيل استحقاقات العلم والعمل به. الطريق الذي ينبغي على القائمين على التعليم اليوم أن يضعوه في نصب اهتمامهم ومسؤولياتهم القادم، فلم تعد كفاءة الممارسة التعليمية في وجود المعلم الملقن والشارح للدروس ومن يعطي الطلبة كما وافيا من المعلومات، ثم يطلب منه ترديدها كالببغاء في أوراق الإجابة، ، بل أن يساهم ويشارك في بناء ذات الانسان وتقديمه إلى المجتمع فكرا متنورا وروحا واعية وعقلا متفتحا وانجازا طموحا وانتاجا مستمرا وابتكارا يقف شامخ البنيان وهو يحمل في علامته التجارية” صنع في عمان” ، ويعمل على صناعة الانسان الناضج الذي يجد في موارد هذا المجتمع وثرواته وخيراته ومشروعاته وبرامجه في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأراضي والمزارع والمياه والمطارات والموانئ والأسواق والطرقات والسدود وغيرها كثير، وما تختزنه في أرضها من معادن وغيرها، باعتبارها خط أحمر لا يصح تجاوزه، وحق للأمة العمانية جميعها وللأجيال القادمة، لا يجوز النيل منه أو شخصنة الانتفاع به لفئة معينة.
وعليه كيف يمكن للتعليم العمل على استدراك هذه المعاني في بنيته الفكرية ومحتواه المعرفي واستراتيجيات تدريسه، ويستحضر وجود هذه القناعة في سلوك وممارسات القائمين على التعليم والداخلين في المنظومة ومن يتحملون مسؤولية رعاية النشء والقائمين على إدارة المنظومة التعليمية، بالشكل الذي يعزز في المجتمع ثقته بقدرة التعليم على إعادة انتاج الممارسة وتقليل حالة الهدر المادي والاستنزاف للموارد في شكليات التعليم دون جوهره، وحالات القلق النفسي والتذبذب الفكري التناقضات التي يعيشها واقع الباحثين عن عمل ، في ظل مستقبل مجهول تظلله سحابات قاتمة في تخصصات مطروحة يرفضها ميدان العمل وتتقاذف الكرة فيها مؤسساته الخاصة والعامة، ومخرجات تعليمية تشهد تكدسا غير مبرر في تخصصات معينة وشح في أخرى في ظل ضآلة أعداد المقبولين منهم، وفجوة توافق معدلات العرض مع الطلب لتشهد الأخيرة انحسارا كبيرا في ظل اقتصاد ريعي لا يحتاج إلى ذوي الشهادات العليا بقدر حاجته إلى الخبرة والمهارة في حين أن مخرجاتنا التعليمية من حملة مؤهل جامعي فأعلى في الإناث الباحثات عن عمل لوحدها(47%)، والتي باتت تزيد من درجة القلق لدى المجتمع حول موارده وثرواته وطريقة الاستثمار فيها ؟