الطوفان
(إحساس بأنّ فرص الموت والإعاقة في هذه البلاد
أكثر من فرص الحياة )
مبارك سالمين
محمد الهادي الجزيري
أعرفه من زمان ..منذ كان طالبا في علم الاجتماع بكلية 9 أفريل للعلوم الانسانية والاجتماعية في تونس، ربطتني به صداقة متينة وتواصلت في مدن وعواصم عربية حين كنّا نمثّل اتحاداتنا للكتّاب ..، على كلّ صدرت روايته المعنونة ” الطوفان ” وإنّي سعيد بتقديمها لأثير …

الجرأة التي تتخلّل الرواية مأتاها اليمن في سبعينات القرن الماضي ..حين كان تائقا للحرية ووثّابا إليها ….وطامحا للفوز بها في نوعية من الشباب المفتوحة أمامه الفلسفات والعلوم والأحزاب المتعددة المشارب والمقاصد …، حين كان اليمن قبل أن يقتلوه ……
يستعرض مبارك سالمين في الفصل الأوّل من الرواية المحدّد ما بين سنتي 1977 و1983 سنوات الجامعة بكلّ بهائها وطيشها وحماسها وجنونها ..ومن البداية يحصر الأنوثة والسحر على امرأة غاية في الجمال ..لعلّها كما قال حرفيا من مخلوقات النصّ … ولعلّها ذهبت بقلبه وعقله ولم تمرّ مع الزمن ..بل هي ثابتة فيه ..وقائمة إلى زوال الجسد ..، أنصتوا ماذا يقول فيها ..:
” ( جميلة ) العدنية هي من مخلوقات النصّ والمدينة، لهذا فهي لا تشبه جميلة محدّدة، تأخذ من هذه وتلك لتشبه في آخر المطاف عدن في تلك الأيام، يحاول النصّ أن يكتبها جميلة من لحم ودم محسوسة وممسوسة بتدّفق الحياة وزخمها ”
سيرة ذاتية/ عدنية إن جاز القول ……مبحث في الطفولة والشباب ..وثمّة تحسّر على جيل اليوم الذي طحنته الأزمات والحروب ..ولم تترك له مجالا للتفكير في ما هو فنّ وموسيقى وشعر وغيرها من الحاجات الأساسية للإنسان ..حاجات ضرورية كالماء والخبز ..لكنّهم حوّلوا وجهته للفقر المادي والروحي …، سأتوقّف عن القراءة الآن لأقتطع مقطعا ( دمّرني ) فقد أثار فيّ زمن بهيّ ولّى وانتهى، عاد بي مبارك سالمين إلى السبعينات في الوطن العربي حيث كان الخير والوفرة والنماء..، أعادني إلى الوظيفة التي كانت سهلة ..والأخوّة بين الناس فالعالم كان جنّة لكلّ مجتهد …أترككم معه وهو يسترجع الأيام الجميلة:
” كان صاحبه شخصية مرنة اجتماعيا وقد فتح ما يشبه ( السجل ) للبيع بالدين لمعارفه ومنهم بعض طلاّب السنة الأخيرة في كلّية التربية الذين سيتعينون بالضرورة ، في أكتوبر القادم من كلّ عام ، ( لا توجد في تلك الأيام بطالة من حملة الشهادات الجامعية ) كمدرّسين بمراتب محترمة ”
فرصة رائعة قدّمها لي مبارك سالمين بإهدائه لروايته لشخصي ..فقد أمكنني من معرفة اليمن وعدن خاصة ..في سبعينات القرن الماضي فما فوقها ..، إذ تجوّلت فيها عبر الكلمات وعاصرت شابا بنفس سنّي واكتشفت مغامراته العاطفية ..وعاينت الحكم المطلق للحزب الواحد ..إذ لا يعلو صوت فوق صوت الحزب..، وسافرت معه للتدريس وهو لم يزل طالبا إذ استوجب الأمر ..إذ أنّ الحكومة اليمنية قرّرت ذلك ..لتعويض نقص الأساتذة المصريين الذين ثمّ التخلّي عنهم في نوفمبر سنة 1977 إثر إعلان الرئيس المصري استعداده لزيارة إسرائيل….، ثمّة الفصل الثاني الذي حدّده مبارك سالمين من 1984 إلى 1986 ..وتطرقّ إلى أشياء كثيرة من ضمنها اقتتال الرفاق في يناير 1986 ولبس عدن الحدّاد وهي معبودة القاصّ ..وكذلك زواجه الذي أنقذه من نفسه………
رواية ” الطوفان ” متن سرديّ حميمي .. مكثّف إذ لا تطول أكثر من سبعين صفحة ..يهمّ كلّ من يريد معرفة التاريخ المعاصر لليمن ..كيف كانت الحياة فيها ..سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ..، فتشعر بألم كبير وخيبة لما آل إليه ( اليمن السعيد ) وتأمل في المستقبل ..، ختاما أوجّه الشكر لمبارك سالمين على هذه الشهادة القيّمة …عسى أن ينهض اليمن من كبواته ..وينطلق نحو المجد ..نحو الحريّة ..فهو يعرفها كما شهد بذلك ابنها….