د.هدى بنت عبدالرحمن الزدجالية- باحثة في التاريخ
إن الأدب الشعبي العربي زاخرٌ بالعديد من الحكايات والسير الشعبية، ولعل أهم ما تمثله تلك السير أنها تكشف لنا عن واقع تاريخي محدد عاشه الشعب العربي في مراحل كفاحه ونضاله عبر العصور إلى جانب أهميتها الاجتماعية والتاريخية خاصة إذا انتقلت بين الحضارات والشعوب وصارت قاسما مشتركا بينها، وليس بالغريب أن نجد ذلك التأثير والتأثر في مناحٍ مختلفة من التراث كالشعر، والعادات والتقاليد، والموروثات، واللهجات والمفردات العامية المحلية وغيرها من أشكال التراث.

وأبرز مثال لذلك كلمة “البطلوس” التي مثلت تمازجا مشتركا بين التراث الشعبي العُماني والمصري، فهي عدا عن كونها كلمة قديمة تُستخدم على نطاق ضيق في بعض ولايات السلطنة خاصة في ولاية صحار وتحديدًا في مجيس، ويقصد بها الإشارة إلى ذلك الصبي أو الشاب الذي يأتي بأفعال غريبة وشقية في آن واحد، والأغرب من ذلك أن هذه الكلمة استُخدمت في ولايات عُمانية أخرى عند شعراء “فن الميدان” بمعانٍ مختلفة وإشارات حضارية وتاريخية تقودنا إلى جمهورية مصر العربية، ومنها قول الشاعر عيسى النوبي:
لي حد لطريج بن دوسه * ولدك شكى العوق وهو مابه
يوصفوا حل الوزن لي بارز* بطلوس انا وعود لي بارز
وكل فارسن عود بندوسة * لب جف وريولنا مابه
وأما الشاعر العُماني مبارك فيقول :
جينا الى هواكم خاضعين الروس * ناصر وربع ناصر خجلوا بنا
من قادي ما حماها البهنسه البطلوس* لون يهد بسيفه ويهز القنا
والغريب أن هذه الأبيات الشعرية السابقة تصف لنا حادثة شهيرة ومعارك حربية أرختها مصادر التاريخ كفتوح الشام للواقدي تتمثل في أسطورة مدينة البَهْنَسَا «بهاء النساء» الواقعة في مركز بني مزار في محافظة المنيا بجمهورية مصر العربية وهي جزء من التراث الشعبي المصري الإسلامي كما أنها تعد كنزا أدبيا تاريخيا .

تلك الحرب التي دارت رحاها بين العرب والروم متمثلة في ملك البهنسا (البطلوس) الروماني وبين قائد الجيش العربي (خالد بن الوليد) في ملحمة حربية حمي وطيسها، ولم تجد محادثات الصلح بين الطرفين سبيلا لإنهائها فدارت المعارك وسقط شهداء من جيش خالد بن الوليد وطال حصار البهنسا، ولم يستطع الجيش العربي اقتحام أبوابها، إلا بالمكيدة، وبأسلوب الملاحم العربية في وصف النصر العربي الإسلامي قال الراوي: «فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا ساعة، حَتَّى وَلت الرُّوم الأدبار وَركنوا إِلَى الفرار لا يلوي بعضهم على بعض وَتبعهم الْمُسْلِمُونَ يقتلون وَيأسرون»، وأنشد خالد الوليد قائلا:
فويل يا بطلوس من سيف خالد* إذا اشتدت الهيجاء والحرب يرفع
فلا رحم الرحمن بطلوس كافرا*ويلعنه كل الملائك أجمع
إن مثل هذا التقارب الثقافي يُعدّ أساسا في دراسة الأدب الشعبي والدراسات التاريخية؛ إذ يأتي ليقدم نصا شعبيا يتناول فتح العرب لمصر تناولا يمزج بين الحقيقة والخيال في طابع الإبداع الفولكلوري ليحكي بطولات وملاحم انتقلت للأدب العُماني الشعبي في شكل شعر الميدان، وفي شكل كلمات استخدمت في اللهجة العمانية العامية الدارجة.
ويُعدّ هذا التفاعل الثقافيّ وليد الانفتاح والتواصل بين الحضارتين والتأثير والتأثر حيث يلعب هذا التفاعل الثقافي في عصرنا دورا مُهما في توطيد التواصل والحوار بين الشعوب والحضارات، الأمر الذي يُعزز قوة مبدأ السلم العالمي الذي تتوق لتحقيقه البشرية عبر العصور.
المراجع:
-أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي، فتوح الشام (باب فتوح البهنسا ونزول الصحابة وقتل البطريق)، ص 275 وما بعدها .
-عمرو عبدالعزيز منير، الصراع الإسلامي البيزنطي في السير الشعبية العربية ، مجلة آفاق التراث والثقافة، مركز جمعه الماجد للثقافة والتراث.
-عمرو عبدالعزيز منير، أسطورة مدينة «بهاء النساء» في التراث الشعبي المصري، جريدة الحياة، 2013م.
– أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في كتابة الإنشا ، ج3.
– أبي عبدالله محمد المقرى، ، فتوح بهنسا و ما وقع للصحابة مع البطلوس.