أجمل ما فيك لا يقبل الترجمة
صابر العبسي
محمد الهادي الجزيري
كعادته ..بالمشاكسة والجرأة المعهودة فيه ..يفتتح مجموعته الجديدة ب ” لا ” في قصيدة أولى بعنوان ” كما لو أنّني في غابة ” ، تخفي خلفها أجمل شيء يحتاجه المرء للكتابة، تخفي الحرية والرغبة في الانتماء إلى موطن طبيعي مثل غابة أو صحراء أو ساحل بحر يكون فيه حرّا طليقا تماما كما خُلق..، ليكتب أو لينقش أو ليرسم ما شاء ..لا أحد يتدخّل فيه أو يراقبه ويمارس عليه سلطة ما، فالكتابة اسم من أسماء الحريّة, وهذا ما وعاه صابر العبسي ..واختار أن يمهّد لمتنه الشعري الجديد بهذه الأسطر الشعرية حتّى يحدّد العلاقة بينه وبين القارئ … وهذا ما فهمته من خلال قراءتي لهذا المقطع:
” لأكْتبَ
حين أشْطبُ
بلْ لأنْزعَ كُلّ أقْنعتي،
وأثْوَابي،
وأخْرجَ عاريّا،
حُرًّا كمَا لوْ أنّني في غابَةٍ…”

في قصيدة ” مذياع ” تتكسّر ذات الشاعر وتعترف بفداحة اللحظة التاريخية التي تمرّ بها، فهي طافحة بما لا يحصى من أصوات المطبّلين والمكذّبين لما آلت إليه أوضاعنا وما ضجّت به نفوسنا من نكبات وهزائم ومحن عديدة..، وهي أيّ الأصوات أو شبكات التواصل من إذاعات وتلفزات وأنترنات ..ظلّت كما نعرفها أبدا مكذّبة لكلّ هزيمة حضارية وكلّ انحدار مجتمعي ..تردّد مع الجميع شعارات ممجوجة أكل الدهر عليها وشرب..، وملّتها النفس التائقة للعلاج هي ومجتمعها ..، لكنّها تظلّ محاصرة بالترّهات والزيف حتّى وإن ألقت المذياع من الطابق العالي ..فيتهشّم لكنّه يظلّ له طنين فادح في النفس:
” قدْ تشظّى
ولكنّه الوغْدُ مثلَ الذّبابة
ظلّ يحوّم
داخلَ رأْسي وحولي يطنُّ
سنرْجع يوما،
سنرْجعُ،
بغداد مقبرةٌ للمغول الجديد،
فلسطينُ تحْيا
ويحيا الزّعيم الرّفيقُ المفدَّى ”
أبدع وأحلى وأعمق قصائد مجموعة ” أجمل ما فيك لا يقبل الترجمة ” هي قصيدة ” المجد للأشياء ” المهداة للمنصف الوهايبي شاعرنا الكبير وعنوان التواضع والمعرفة ..، لماذا أقول هذا لأنّ الشاعر المريد لخّص في نصّه الشعريّ كائنا حيّا شاهقا وعظيما اسمه المنصف الوهايبي ..قد قضّى طوال عمره في استنطاق الكلمة ..وتركها بمفردها تتحدّث باسم الأشياء جميعها ..وقد سبق صابر العبسي العديد من الشعراء بقصيدته ” المدحية ” التّي يستحقها رجل كرّس حياته في خدمة الثقافة والشعر والأدب ..ونرجو أن يطيل الله عمره لكي يضيف إلى المدونة الشعرية العالمية :
” لكنّ مُفْتقديه من زوّاره
في جيْبِ ستْرته من الكشْمير
قد عثَروا على برقيّة كُتبتْ بكلّ بساطةٍ
قد أوجدته وحْدَها الأشْياءُ،
ثُمّ اسْترْجَعتْه بغْتةً
هي وحْدَها الأشيَاءُ تُدْركُ
إنّهُ متحدّثٌ أبدا بملْء لِسانِها
هي وحدها الأشْياءُ تُدْركُ
أنّه لَوْنٌ
ورَائحةٌ
ومُوسيقى
وذَاكرةٌ لَهَا.”
كأغلب الشعراء الحداثيين حاول الشاعر إعادة الخلق من جديد، بأن أتى بذكر وأنثى من لغته وحروفه وسرّحهما في العالم / الورقة، ولكنّه سرعان ما اصطدم بالواقع المرير..الواقع المعاش البعيد كلّ البعد عن أحلامنا وهلوستنا ..، فيكتب ما يراه وما يتجرعه من حسرات …
حدث هذا الأمر في قصيدة بعنوان ” اللحاف ” التي أرادها فسحة للإنسان بعيدا عن الدمار الشامل الذي يتخبّط فيه ..ولكنّه يجد نفسه في قوقعة عظيمة ..عبارة عن متاهة كبرى فيعود ليشتكي من قدره وزمنه ..وذاك هو الكائن الهشّ المسمّى الإنسان……….
” في البدْء
مستشفياتٌ
ولا عمْلة ٌصعْبَةٌ
أوْ معادنُ غيرُ العواطفِ
عذراءَ بيضاء، ملْتحمَان
أمامَ الطّبيعة والله
لا يمْلكان سوَى الأرْضِ
متخمة بالنّدى غرْفةً للرّؤى
للمحبّات رقْراقة والنّجوم فوانيسُها
عاريان كمَا شفرةُ الفأس
في الماء مشْتعلان
وما من لحاف يغطّيهما غيْره الحبُّ ”
صابر العبسي ( طفل/ كبير ) يعيش داخل عزلته، مهووس بالقصيدة ..يكتبها ويلتهم الكتب حتّى يعثر عليها..، حقيقة إن واصل بمثل هذا الجهد ونأى بنفسه عن الجماعات والمقاهي سيكون له شأن وسمعة ..فالشعر أن تعتزل العالم وأنت فيه..وهذا ما فهمه الشاعر …