لا أثرَ لكفّكَ فوق الجدار
محمد ياسين صبيح
” الموت ليس للفناء ..هو لتعلّم الحزن “
محمد الهادي الجزيري
أوّل احتكاك لي بقصيدة النثر ( المشرقية ) كان منذ عشرين سنة وبالعراق تحديدا، لم أكن مؤمنا سوى بقصيدة التفعيلة وبأقلّ درجة القصيدة العمودية، كنت متعصبا لما أعتقده ..وجلست مع أصدقاء عرب في تلك السنة واستمعت لهم..وكانوا في أغلبهم كتّاب قصيدة نثر، ولم أستوعب منهم مجازاتهم ولا استعاراتهم ولا أيّ شيء، كان شيئا جديدا عليّ ..وفي السنة الموالية أعدت الإنصات لهم ..وبدأت أستلطف ما يعرض عليّ..واليوم زال عنّي تزمّتي وصرت قابلا للشكل الجديد في الشعر..، أقول هذا وأمامي مجموعة شعرية لمحمد ياسين صبيح بعنوان ” لا أثر لكفّك فوق الجدار ” أحاول قراءتها وتمحيصها وفهم محتواها ومضامينها ..بصعوبة شديدة ذكّرتني بالأيام الأولى بالعراق..، إذ أنّ الصور والتشابيه والمعاني العميقة للنصوص..تظلّ مغلقة وغير متاحة…، فقارئ قصيدة النثر يحتاج صبرا ودراية ومعرفة لسبر أغوار هذا الفنّ…………..

أوّل مقطع لفت انتباهي تابع للقصيدة التي أهدت عنوانها للمجموعة ..، فقد اعترف الشاعر لنفسه أولا وللقارئ أيضا بأنّ لا أثر لكفّه على الجدار أو لا بصمة ليده على الطاولة..، طاولة اللعب ..طاولة الوجود والعدم..، يقول لا يبقى إلا تأمّلات للروح أو للعقل أما هو فإلى زوال مثل أوراق الخريف..، ولا يبقى سوى كفّ لا تحسن التلويح والمناداة ..، إنّها النهاية التي يباغتنا بها الشاعر منذ البداية …
” لا أثرَ لكفّك على
الجدار.
سوى بعض تأمّلات
وأوراق خريف ناقصة
وكفّ لم تتعلّم التلويحْ..”
ثمّة قصيدة حاول فيها الشاعر تعريف بعض الأسماء كالموج والغضب والانتظار وافتتحها بتعريف ما لا يعرّف ..، وأقصد طبعا الحبّ ..، نحن نعرف أنّه حريق يشبّ في العاشق ..لكنّ محمد ياسين صبيح يأخذنا إلى الجحيم ..فنراه هو وحبيبته من مخلفات النار الموقدة..هذا هو الحبّ الجهنمي كما يحسّه ويجسّه ويراها:
” الحبّ..
أن تدخل الجحيم
وأنت ترقص فوق
سيقان من خشب
وعيون من رماد..
ثمّ تعشق بقايا محبوبتك
بعد البركان..”
في قصيدة بعنوان ” الحرب لعبة منجل مكسور ” ..بعد أن يسرد تباعا أوصافا للحرب ويعريها ويدينها بشدّة ..، يصفها في هيئة بنت أو صبية ضائعة بين النوافذ المغلقة في وجهها والرمال المتفشية في الهواء ..، إلى أن يصل إلى ضفائرها التي صارت سلّما لوليدها المتعلّق بها قصد الصعود للجنّة ..، ويا له من مصير مشئوم ينتظر كلّ مولود عربي يرى بأمّ عينيه كلّ هذه الفوضى المرعبة ……..
” الحرب…
صبية نذرت نفسها
للنوافذ الموصدة
وعينيها للرمال الهائجة
وصوتها لدويّ الطبول
الفارغة..
وضفائرها سلّما لصغيرها
ليصعد إلى الجنة “
اعتراف آخر نقرأه في قصيدة بعنوان ” يكتب الليل بياضه “، يقرّ الشاعر مرّة أخرى بعبثية الكتابة فلا يصمد منها غير لعثمة الحمام أو لنقل غير صدى حفيف فستان تاه في وسط الزحام ..ليست الكتابة غير وهم باذخ :
” تضيق الجدران إلى
حروفي
ولا يبقى غير لعثمةِ
الحمام على ظلّ النافذة “
في الختام أحرص على الاعتراف بصعوبة الفهم لكلّ قارئ لهذه المجموعة ..مقارنة بالقصّ الذي يحترفه محمد ياسين صبيح ..نظرا لبحثه عن أدوات جديدة للشعر…للمجازات والوصف ولفنّ القول عموما ..، على كلّ أشدّ على يده الكاتبة التي أهدت للشعر هذه القصائد ..وننهي هذه القراءة باختيار هذا المقطع :
” من يحلم بالتخمة
لم ينهل من الأحرف
اللبنية
سوى رائحة السطور
وبقايا الورق القديم “.