د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
يطرح تناولنا للموضوع جملة من التساؤلات التي تشخص الحالة التعليمية وتوجه المسار حول نقطة البداية التي تؤسس التحول وتصنع الفارق: هل يمكن أن تتحول نظرتنا للتعليم من المساحة الاستهلاكية الضيقة إلى الفرصة الانتاجية الاستثمارية الواسعة؟، وكيف يمكن تصحيح النظرة إليه عند الحديث عن الموازنات العامة للدول؟، ولماذا على الرغم من ظهور نتائجه الايجابية في المجتمعات العالمية ما زالت نظرتنا نحوه تقاس بميزان الربح والخسارة والعائد المادي السريع؟، هل كان لهذه النظرة الضيقة للتعليم من منظور الاقتصاد المادي السريع أثرها في أوضاع التعليم ومدى فاعليته في المنافسة العالمية؟، وهل ستعطي المراجعة الوطنية للتعليم هذا البعد أهميته مع تنوع الجهود التي يقوم مجلس التعليم في ظل استعراضه للموقف التنفيذي لاستراتيجية التعليم ، وهل ستتعاطى مؤسسات التمويل والاستثمار معه على أنه أولوية وطنية؟، ما الذي ينبغي على القائمين على الاقتصاد فهمه ، وأين تضع المؤشرات الاقتصادية العالمية التعليم كأداة نوعية لاستثمار وتقدم وطني؟.
تساؤلات ونقاشات وحوارات من الأهمية أن تتناولها جهود التعليم وتتفاعل معها مؤسساته كمحطات استراحة في اطار رؤيتها للمورد البشري كاستثمار استراتيجي بعيد المدى، وقراءتها لنواتج استراتيجيات الاستثمار فيه ، وتستدعي في الوقت نفسه الاتفاق على مبادئ واضحة وأولويات محددة لبناء رؤية وطنية متكاملة تتوافق مع الحالة العمانية وتستجيب للطموحات المجتمعية في التعامل مع الاستثمار التعليمي، وهي معادلة يتجه العمل فيها في خطين متوازيين، يقوم الأول فيها على مرتكز الجودة في التعليم والتنافسية في مخرجاته، بمعنى كيف يمكن أن نجعل من التعليم: أدواته واساليبه ووسائله وموارده وامكانياته واختصاصاته وبرامجه التدريبية ومناهجه وموجهاته التخطيطية وبرامج الاحصاء وأنظمة التقييم والمتابعة والتقويم والاعتماد، منطلق لاستثمار البعد النوعي المتعلق بجودة التعليم وتعميق أثره المستمر وحضوره الفعلي في برامج التنمية وبناء الإنسان، وهو ما يمكن أن يظهر في مهارات وقدرات واستعدادات وكفاءة المخرجات التعليمية، والممكنات المهارية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية والابتكارية التي يحملها المنتج التعليمي، وكفايات القائمين على التعليم والممارسين له من معلمين وادارات المدراس ومشرفين وأكاديميين وصناع السياسة التعليمية ، بحيث يمتلك التعليم صلاحيات الاعتراف في كونه بيت خبرة وطني، بما يمتلكه من خبرات معززة بالمواقف والتجارب ونماذج المحاكاة في انتاج الفكر الاستراتيجي وتقديم منتج بشري يعزز كفاءة الاداء في منظومة عمل مؤسسية فاعلة تتسم بالمرونة والديناميكية والتفاعلية؛ أما الخط الآخر فيقوم على تأكيد القيمة المضافة التي تمثلها مؤسسات التعليم من مدارس وجامعات ومراكز بحث وتدريب وغيرها من المؤسسات التي تمتهن التعليم في نظامها وتمارسه في صلاحياتها، بما تمتلكه من مورد مادي ومتعلقات عينية ثابته ومنقولة وبيئات استثمارية اقتصادية، تعزز الاستثمار الوقفي فيها، وبما يستدعيه ذلك من إيجاد حزم تطويرية تأخذ بالاستثمار كمسار انتاجي قادم للتعليم في مواجهة ظاهرة الاستهلاك التي باتت تفصح عن الحاجة إلى إعادة انتاج المسار التعليمي بطريقة أخرى تتوافق مع مبدأ التعليم المنتج، وتتناغم مع توجهات السلطنة المؤصلة في رؤية عمان 2040 واستراتيجية تطوير التعليم، وبالتالي إيجاد صناديق استثمارية تعليمية، وتعميق البنية الانتاجية لها، عبر إشراك القطاع الخاص ورجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية المعتمدة المستوفية لشروط العمل في الدخول في قطاع التعليم.
على أن تحقيق هذا التحول في التعامل مع الاستثمار في التعليم، يرتبط بالحاجة إلى تغيير القناعات حول التعليم ذاته والتي ما زالت تقرأ في التعليم مساحات أوسع للاستهلاكية والاستنزاف للموارد والهدر التعليمي، وتغيير هذه القناعات في فكر رجال الاعمال ومؤسسات الاستثمار بحاجة إلى مبادرات عملية يصنعها الميدان التعليمي وتعززها جهود القطاع الخاص وتصقلها مؤسسات التعليم وتنميها مراكز البحث العلمي والدراسات الاستراتيجية ، وتؤطرها منظومة العمل الوطني نحو البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال ومستوى اقترابها من هذه الرؤية الإنتاجية ، وأن ما تقدمه هذه المؤسسات المعنية بالبحث العلمي والابتكار والريادة وغيرها إنما يعكس حرصها على الاستثمار في الرأسمال الاجتماعي البشري، وأن الممارسة الحاصلة فيها وما تتيحه للعنصر البشري الوطني من احتواء وتمكين وصقل وتدريب وصلاحيات وحوافز، تعكس حجم ما تقدمه هذه المؤسسات للعنصر البشري في إدارة المحتوى المعرفي فيها ، وقدرته على إعادة هندسة المنتج المتحقق منها بطريقة تصنع فارقا في ميدان المنافسة وواقع التطبيق. بطبيعة النظر للتعليم نفسه، ومع أن واقع الحال ما زال يتجه بالمنظومة إلى عقدة الاستهلاكية وفجوة المواءمة خاصة عندما يقيم جهد تكوين العنصر البشري وصناعته في عالم اليوم وفق المساحة المالية الممنوحة في المؤسسات والتي تحظى بعدم الثبات وتضييقها المستمر بالتقليص والتقليل دون مراعاة لحجم ما يقدم منها لصناعة نجاح المورد البشرية أو تأسيس كفاءات وطنية مجيدة، لذلك يجب أن نعترف بأننا ما زلنا نمارس في منظومتنا التعليمية سلوك الاستهلاك، فالتحديات المالية تفرض تأثيرها في تقليص حجم الجهد المبذول في نطاق المنظومة، ويواجه القرار التعليمي تحديات المال في الوصول إلى توقعات المجتمع أو تحقيق أحلام العاملين في منظومة التعليم وطموحاتهم، بالاضافة إلى تقليص المصروفات الجارية والرأسمالية الممنوحة في سبيل جودة إدارة الانشطة والبرامج التدريبية والمسابقات والدراسات والبحوث وغيرها في مؤسسات التعليم المدرسي والجامعي والعالي وأنواع التعليم الأخرى، وهو ما يعني أن البحث عن أي مدخل في تناول الموضوع يقتضي تغيير منطق الفهم السائد حول التعليم كمنظومة استهلاك، واتخاذ اجراءات تشريعية وتنظيمية وتوعوية، تسهم في تحويل النظرة الضيقة في ظل عالم الفضاء الواسع الذي يضع التعليم أمام تحديات كبيرة عليه أن يجند قدراته ويوسع مساراته ويوجه غاياته وأهدافه نحو بلوغها ليحقق المنافسة وليصمد أمام التحديات الأخرى والتأثيرات المجتمعية والخارجية التي باتت تصنع أجيال اليوم، وبالتالي قدرة التعليم على إعادة انتاج هذا الواقع بطريقة أكثر احترافية يضمن ثقة الأجيال فيه ، ويوفر لقوافل الخريجين مسارات عمل على شكل وظائف ومشروعات اقتصادية وابتكارية وانتاجية وشركات طلابية وغيرها، باعتبارها معطيات لبناء الرؤية الانتاجية الاستثمارية الواسعة التي تصنع من التعليم محطات إعداد وتأهيل وإنتاج واستثمار وصناعة للمنتج الوطني، ليصبح التعليم المؤسسة الأم والمنهج الذي يرسم مستقبل الشعوب وتفوقها، ويصبح رهانها الذي تعتمد عليه في معالجة تحديات الواقع، وتتكاتف الجهود بشأنه في التعامل مع المعطيات والمستجدات الحاصلة.
عليه فإن تصحيح هذه النظرة، إنما يأتي عبر الاستراتيجيات التي تعتمدها الدولة في التعامل مع منظومة التعليم من خلال تشجيع منحى الاستثمار في التعليم والتوسع فيه ، وإعادة تصحيح الممارسات المالية الحاصلة ؛ وبالتالي إلى أي مدى تتجه مرونة الموازنة إلى تعميق القيمة المضافة لاستثمارات المؤسسية التعليمية في مجالات التدريب والتثقيف والبحث العلمي والمسابقات والتنويع في الانشطة والدراسات التقييمية وبرامج الانماء المهني والبنية التقنية للتعليم والخطط وبناء المؤشرات والمعايير، بحيث تصبح هذه الموجهات إطارا عمليا تدور حوله المعالجات المقترحة والقراءات التحليلية المعمقة، بشكل أكثر مرونة وديناميكية لبلوغ جودة تعليمية متوازنة في المدخلات والمنتج والعمليات الداخلية للتعليم، فمع التأكيد على القيمة المضافة للاستثمار في التعليم، إلا أن أي توجه نحو طرح مسار الخصخصة في التعليم ومؤسساته، يجب أن يسير في إطار فهم معمق لمستوى التأثير المتحقق منها على المدى البعيد من حيث الاستيعاب والتكيف، في ظل اقترابها او تناغمها مع مسارات الوعي والاستحقاقات الوطنية والحقوق والواجبات والمبادئ التعليمي كتكافؤ الفرص التعليمية ومجانية التعليم المدرسي وحق التعليم للجميع ؛ ومدى استيعاب خصخصة التعليم لطموحات الإنسان العماني والسلوك الاجتماعي المرتبط بها، وإدراكه لمنظومة القيم الاجتماعية والاقتصادية والهويات، وقدرته على التعامل مع التحديات المرتبطة بالقبول والثقة، في ظل ما تبرزه التجربة الحالية في المدارس الخاصة من حاجة إلى ضبط هذا القطاع وإيجاد آليات أكثر صرامة وفاعلة في التعامل مع مسألة الجودة التنظيمية والإدارية والبنية المعرفية والفكرية ومستوى الثبات والديناميكية وآلية التعامل مع الرسوم الدراسية وحجم المساحة المتاحة في ذلك، والمعايير التي اكتسب من خلالها التعليم المدرسي استحقاقات دولية في هذا الجانب، والتغييرات التي يجب يحدثها التعليم الخاص في مستوى التنظيم والمال والرسوم والمناهج والإدارة والكادر الوطني، كمعايير واشتراطات للجودة ، وإشكاليات ضيق الأفق في نظرة القطاع الخاص لتحقق الاستدامة المطلوبة، وأثرها في أوضاع التعليم، وبالتالي كيف يمكن أن تسهم هذه التحولات في منظور الاستثمار في التعليم في تغيير قناعات القائمين على الاقتصاد ومستوى استيعابهم لما يمكن أن ينتجه التعليم على المدى البعيد، في ظل وجود مؤشرات اقتصادية عالمية تضع التعليم كأداة نوعية لاستثمار وطني وتقدم استراتيجي، وما يمكن أن نستلهمه هنا في عمان من جهود البحث في ايجاد سياسات تعليمية ترتبط بمنظومة اقتصادية متوازنة عبر تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودور شركات الانتاج الطلابية بالمدارس والجامعات كنواة مرحلة جديدة في تصحيح هذه النظرة، وتأكيد دور التعليم كاستثمار مستدام، تسعى للتقريب بين لغة التعليم والاقتصاد مع الحفاظ على خصوصيته، عبر نماذج حقيقية تعكس هذا التمازج والحوار فيما يريده الاقتصاديون وما يريده التعليم ، ومسؤولية التعليم في المقابل بوضع هذه المنطلقات في أولوياته، عبر تعدد مساراته وتنوع مداخل وأشكال عمليات الاستثمار.
من هنا فإن إزالة اللبس والأخذ والرد الحاصل، يحتاج إلى فعل وطني تجتمع فيه مؤسسات التعليم والاقتصاد والتشغيل، تناقش فيه طبيعة الاستثمار الذي يتكيف مع الحالة العمانية ويستجيب له المواطن في ظل الظروف الحالية، بحيث تحدد شكل المشاركة وأطرها وطبيعة الاستثمار وتقييم التوجهات المرتبطة بها في الجامعات والمدارس الخاصة مع الاستفادة من أفضل الممارسات الاستثمارية التعليمية المعتدلة في العالم، إذ من شأن هذا التفاعل الوطني الجاد، أن يسهم في بناء أُطر واضحة وقرارات استراتيجية نافذة، تستند إليها رؤيتنا القادمة في خصخصة التعليم والاستثمار فيه، وفي التعامل مع موازناته المالية، ويبقي الحكم على قدرة التعليم على سبر هذا المسار وتعميق الفهم والوعي به، مرهون بما يمتلكه التعليم : سياساته وخططه وبرامجه وأدواته من موجهات لتحقيق معادلة الإنتاجية في التعليم، القائمة على استيعاب التعليم لمتطلبات بناء العنصر البشري وتأكيد حضوره في مواقع الإنتاج والمنافسة، وتوجيه الممارسة التعليمية والعمليات الداخلية في التعليم نحو صناعة العنصر البشري الذي تحتاجه السلطنة في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية الحاصلة بالعالم والمنطقة، إذ هو الرهان القادم الذي يجب أن تتجه له مسارات التعليم، وأن يعمل مجلس التعليم الموقر على وضعه ضمن رؤيته في إعادة هيكلة الممارسة التعليمية وضبط الحالات التي باتت تقلل من هذا الجهد، بحيث تمنح له مساحات أفضل للقاء والنقاش والحوار وزيادة المنصات التفاعلية الوطنية بشأنه من جهة وتوفير منافذ التسويق والترويج لخبراته وتجاربه والتعريف بنجاحاته وتبني مبادراته ودعم مشروعاته، وتقوية فرص تقدمه وابتكاراته.