فضاءات

شفاه مثقوبة… الثريّا رمضان

شفاه مثقوبة… الثريّا رمضان
شفاه مثقوبة… الثريّا رمضان شفاه مثقوبة… الثريّا رمضان

 

محمد الهادي الجزيري

وأنا أستمع إليها وهي تتلو قصائدها ..ظننت لوهلة أنّي أنصت للشاعرة التونسية فاطمة بن فضيلة وجرأتها على اللغة الميتة والتعبيرات المستهلكة ….لكني رأيت أمامي كائنا آخر..ينحت الكلمات ويعجن المعنى حتّى يبين معدنه الشعريّ ..هذا الكائن الحرّ الجديد عليّ هو الثريا رمضان وعلمت فيما بعد أنّها بدأت مسيرتها في التسعينيات من القرن الماضي ..وتخلّل مسيرتها راحة إجبارية خدمة للعائلة ..ثمّ انطلقت في الإصدارات حتّى أهلّت على القراء بمجموعة شعرية بعنوان ” شفاه مثقوبة ” ..هي كاتبة ساردة تائقة للتحرّر في زمن شبيه بالسجن الجماعيّ ..لا يفرّق بين الرجل والمرأة ..وإن كانت الشاعرة مهمومة بمطالب الأنثى ومشغولة بعذاباتها ..، المهمّ أنّنا اكتشفنا جرحا آخر في مشهدنا الثقافي ..وهو جرح يشي بأوجاع شتّى ويعد بقصائد رائعة ..كهذه المجموعة التي تحصّلت على جائزة عليسة للإبداع الأدبي لهذه السنة ..فلنطلع عليها …

كم من امرأة تحمل على كتفيها البلاد وتنأى بها ، والرجال العاطلون عن الحياة ينظرون إليها بشماتة أو قل بحياد..، ونفس المعنى المبثوث في قصائد الثريّا نجده مستورا في مجاميع أخرى نسائية ..ولكن الشاعرة تصرّح به وتعلنه على مسمع من الجميع ..نعم تجاهر بعذاباتها وتقول بشفاه مصلوبة وليست مثقوبة ..تقول ذاتها وأرقها وحزنها الشديد ..، نقرأ في مطلع قصيدة ” بلاد ” جرحا يضمّد وطنا مثخنا وينزف أحلاما عديدة وآمالا كثيرة:

” لا خدر يحملني

كلّ الرجال غارقون في سبات

وأنا على جرح البلاد ألفّ ضمائدي.

أمرّر إصبع الأرق على لحاف أحمر

ما زال يرفل في فمي..”

ما أكثر المجاميع النسائية المكوّمة في مكتبتي ..وما أقلّ الجرأة فيها ..ونقصد بالجرأة قول الباطن وتعرية المسكوت عنه ..ولكني أجد في هذا الركام الفوضوي ..يد تلوّح لي بقوة وإصرار كبيرين ..إنّها يد الشاعرة الثريّا رمضان التي تصفع الآخرين وتكتب في مواضيع شتّى بحريّة وشجاعة وعفوية ..ولا أرى تعريفات أخرى للكتابة ..، لقد أيقنت الشاعرة أنّ القصيدة ملجأ من لا ملجأ له ..ففي قصيدة بعنوان ” موائد أحبّك ” تبوح بما في النفس من ضيق واتّساع ..لما فيها من حرائق مخفية وحدائق موارية :

” الحبّ قصيدة

تربّت على أكتاف الحمقى…

يسألونك عن انزياحاتها قل:

هي شهيّة في الليل…

دافئة كرماد التنور..

باردة،

في صباحات الصيف الشريدة..”

هذا نصّ كبير..أو نصوص كلّ ما فيها مترابط فالكاتبة هي نفسها ..تكتب لها ولنا ما يؤرقها وما يؤلمها ..تكتب وطنا مرهقا وذاتا محمومة ..ولم تلجأ إلى من يقدّمها كبعض البالونات المنفوخة الطائرة في الهواء ..، فلا شيء هنا إلاّ النصّ الصافي ..وشفاه مثقوبة تنزف شعرا ومعنى وصورة ومجازا ..، يجد قارئ الكتاب ..على ظهره منقوشا هذا النصّ ونختار منه هذا المقطع :

” عدني أن نخيط آثامنا

ونصنع منها ثوب جنّة

قال…

كيف للآثام أن تغفر؟

قلت…

هكذا

مثلما يغفر قلب خافقيه

وشجونه

وبنات الوجد يرقصن بلا هدف

في مقلتيه

ثمّ يزغرد صعلوك على جلده المسبي

في أظفار حزن…”

في ختام هذه الإطلالة على تجربة الثريا رمضان ..نشير إلى نصّ جميل وطافح في الدلالات والرموز التائقة إلى الخروج على كلّ قيد أو حاجز ..ولا سقف له إلاّ الحرية ..وأترككم مع مقتطف منه في انتظار تفتّح أزهار أخرى في حقول هذه المرأة التونسية اللاهجة باسم الانعتاق :

” آخر الليل

….
أردّ الباب على عزلتي


و……..
أغصّ بجرعة كلام…
بكماء حروفي…
لكنّك تسمعها…
خلف الأبواب الموصدة…
في رائحة بورجوازيتي المقيتة…
بين كراتين الفوضى…”




نسيت أن أضيف أمرا واحدا هو لا تكذّب شاعرا أو شاعرة ..والسلام:

” يقالُ أنّي أحبّك..

لا تصدّق

إشاعات المتحذلقين في الحبّ

أو الخائبين

أو الذين أخفقوا

في تجميع نتف القطن من السماء

ليصنعوا وسائد حبّ طريّة “

Your Page Title