أثير – أدونيس
– I –
يَحار الإنسانُ عندما يقرأُ أفكارَ « اليسار العربيّ-الإسلاميّ، أو الإسلاميّ-العربيّ »، وأعمالَه، منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، حتى اليوم.
المقامُ الأوّل في مسيرة هذه الحيرة هو التعرّف والمشاهدة، وهو أنّ أصحاب هذا « اليَسار » لم يَسيروا، فكراً وممارسةً، على مدى ما يقرب من قرنٍ كاملٍ،-(قَرْن التفتّحات، والانقلابات المعرفية، والتمرّدات، والتّطلّعات، والتغيّرات)، إلّا من سيئٍ إلى أسوأ، في جميع المجالات، وعلى جميع المستويات، وفي مختلف الصُّعد.
المقامُ الثاني في هذه المسيرة هو السّؤال: لماذا؟ أهناك سِرٌّ يستعصي على الكشف؟ أهناك، بين مَنْ بقي من هذا « اليسار »، ساهِراً، مُتابِعاً، من يتكرّم علينا، نحن الفقراءَ إلى الضَّوء، بإضاءةٍ ما؟
المقام الثالث في هذه المسيرة هو التأمّل في « نتائجَ » هذه « الثورة » التي قام بها هذا « اليسار » :
المسلمون العرب، اليوم، يعيشون في « خرابٍ » شبه شامل فكريّاً، واجتماعيّاً، واقتصاديّاً.
باسم هذه الثورة، وبفعلها، صارت بعض البلدان العربيّة الغنية، « فقيرة »، وبعض البلدان المتخمة « جائعة »، وبعضُ البلدان « الموحّدة » شَذرَ مَذرَ.
وعلى الرّغم من هذا كلّه لم يتنبّه أيّ من أصحاب هذا اليسار،حتى الآن إلى أنه قد يكون أحدٌ منهم أخطأ، أو أنّ الثّقافة الإسلامية العربية السّائدة استنفدت كلياً طاقاتِها التجديديّة المغيّرة، وبخاصّةٍ في جوانبها الرّساليّة، وأنّها لم تعد قادرةً أن تنتج إلا مواعظ الإستعباد والتبعيّة، إضافة إلى الحِكَم العالية في الخلاص من أوثان الإبداعات والحريّات وفي القَتْلِ والإبادة، إضافةً إلى الشهادة.
المقام الرابع في هذه المسيرة هو الاعتبار. وهو أنّه لم يعد كافياً أن نموّه و نحجبَ، أن نخطب أو نكتب، وإنما صار ضروريّاً وملحّاً أن ننقل أنظارَنا إلى آفاقٍ أخرى، وأن نبني أحلاماً أخرى وأخلاقيات أخرى، وأن نخرج من الطريق الوحيدةِ الواحدةِ، ونفتح طرقاً متعدّدة ومتنوّعة. وهو أنّه لا يزال أهلُ هذا اليسار مجروفين بجنون الوصول إلى السّلطة، كيفما كان، بأيّ ثمنٍ كان، حتى ولو وصلوا إليها على جثث بلدانهم، وفي « الآتِ » أعدائها – ثقافياً، وتاريخياً، وإنسانياً. وفيما هم ينجرفون، ينشقّ بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً.
وهو أنّه لم يتضح لهؤلاء حتى الآن، في لُجّةِ انجرافهم بجنون الوصول إلى السّلطة، أنّ « الثورة » لا تكون، لا تبدأ إلّا بإعادة النظر جذريّاً وعلى نَحوٍ شاملٍ، فكراً وعملاً، في المجتمع الذي يزعمون أنهم يعملون من أجله. وأنه لا يمكن تغيير المجتمع بمجرّد تدمير نظامه القائم، أو تدمير هذا النظام بمجرّد عزل أو قتل القائمين عليه، لأنه، ببساطة، جزء أساسيّ من تكوين المجتمع ذاته، ومن مكوّناته، وأنّه – تبعاً لذلك، لا بُدّ من تدمير الأسس التي يقوم عليها والتي لم يتجرأ أحدٌ منهم حتى الآن على التلفّظ بها، أو الإشارة إليها.
والمقام الخامس هو أنّ علينا أن نبحث عن معنى آخر لحياتِنا، وعن آفاقٍ مَعْرفيّةٍ وإنسانية عالية لوجودنا ومصيرنا، وعن الأعمال الخلّاقة، المحبّة، المغيّرة. وهو أنه علينا، قبل أن نطلب من الآخرين أن يتغيّروا، أن نتغيّر نحن، أولاً، أن نقولَ ما لم نتجرّأ أبداً على قوله، وما لا معنى لأيّ فكر، ولأي عمل إلّا بدءاً من قوله.
وهو أن نفقه اللّغة التي بها نخطب ونكتب، لكي نعرف كيف نبتكر بها فكراً جديداً، ولكي نتعلّم كيف نقولُه، وأين نقوله، ومتى نقوله.
*
*
– II –
شرارات
-١-
الحيْرَةُ – أنّ الحَيْرَةَ فَجْرٌ، حيناً،
لَيْلٌ حيناً.
-٢-
كيف أنَامُ، وحولي
كلُّ المَوْتَى أَيقاظٌ؟
-٣-
أَخذَ البحرُ جُرْحي
وسافَر فيهِ.
-٤-
لم أكن مُخْطئاً
حين أصْغَيت لِلنَّحل يقرأ أشعارَهُ
على هُدْهُدٍ.
-٥-
هل تَحدَّثتَ يوماً عن عذابِكَ مع آخَرٍ؟
– آخرٍ؟ لا أظنُّ. تحدّثتُ مع ورَقٍ أبيضٍ
ومع لحظةٍ لا تُقالْ –
كلّما رُحْتُ أسأل عنها، يقول السُّؤالْ
كيف تَسأل من سوف يسأَلُ؟ هذي
ساعَةُ الرَّمْلِ: بَيْتٌ
لِلُغاتِ الرَّحيلِ وآفاقهِ المليئة والمُفْرَغةْ
وأعرفُ: لا فَرْقَ في اللَّغْوِ بين المقيمِ ومَنْ يترحَّلُ. قُلْ لِيَ: هل كان هذا حديثاً
عَنْ عَذابيَ أو عن عذابِ اللُّغَةْ؟