د. رجب بن علي العويسي-خبير الدراسات الاجتماعية والاجتماعية في مجلس الدولة
يطرح واقع التعليم اليوم في ظل أحداث جائحة كورونا كوفيد 19، تحولات جذرية ينبغي أن تطال فلسفته ومناهجه وتضبط أدواته وآلياته، وتراجع مراجعة جادة سياساته وخططه وبرامجه ، ويتجه فيها دوره إلى تكييف كل هذه الموجهات والممكنات للعيش في الظروف الصعبة، لصناعة متعلم قادر على التعامل مع معطيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه بكل إيجابياته وسلبياته وظروفه واستثناءاته؛ وبالتالي أن يستفيد من حالة التعثر التي عايشها في بعض مكوناته والتغيرات التي برزت في حياة المجتمع في أساليب العيش وآليات العمل وأدوات التعامل، وأسهمت في زيادة التعقيدات في التعاطي مع هذه الأحداث على المستوى الشخصي والمجتمعي على حد سواء نظرا لإيقاف وتعليق الكثير من الأنشطة الاقتصادية التي يحتاجها المواطن، والزامه بالبقاء في المنزل، كإجراءات وقائية وتدابير احترازية للحد من انتشار المرض.
لقد كشفت أحداث كورونا عن ثغرات في التعليم وسقطاته في معالجة الواقع الاجتماعي والقصور البيّن في دوره في قراءة مسارات الحياة، والفجوة التي تعيشها برامجه ومناهجه التي لم تسطع أن تعد المتعلم لإنتاج احتياجاته اليومية أو استخدام الأدوات المتوفرة لديه؛ وانحسار الممارسة التعليمية إلى دركات التلقين وفاقد العمليات المتكررة التي لم تُعد المتعلم للتكيف مع الظروف الجديدة، وإعداده للعيش في بيئات صعبة وانماط متغايرة وعادات مختلفة عما اعتاد عليه من أساليب الحياة والعيش، والتعامل مع وفرة الموارد، والحياة المعيشية التي وفرت له مساحة أوسع للحصول على الخدمات والموارد والممكنات الداعمة بدون جهد أو تعب أو عرق جبين وكد يمين، وليثبت التعليم تراجعه أمام اختبارات كورونا في إمكانية المواجهة وامتلاكه للمهارات والقدرات والاستعدادات التي تصنع منه مواطن الأزمات، والممكنات التي يكسبها التعليم لمخرجاته أو لمن هم في مقاعد الدراسة والمواطنين جميعا.
وأفصح واقع الممارسة التعليمية في ظل جائحة كورونا عن فجوة التباعد الحاصلة بين نظريات التعليم وتطبيقاته في الميدان، خاصة تلك المتعلقة بمهارات الطلبة ، لتتعدى المسألة مجرد عدم قدرتهم على استيعاب الوضع وتخيل الموقف فحسب، إلى القصور في قدرة المتعلمين على الاستفادة من كم المعلومات والمعارف، وافتقارها لرابط التأثير وإدخالها في مسار التجريب وحسن توظيفها والاستثمار فيها، عندما لم يجد المتعلم من بين المعلومات الكثيرة التي يزج بها إلى ذهنه ليجترها بدون وعي ويتعامل معها لمجرد متطلبات دراسية ليس إلا؛ وهو اليوم يفتقر للمهارات التي يعد بها طعامه، أو يغسل بها ملابسه، أو يكوي بها دشداشته، أو يحلق بها شعره، أو يقضي فيها وقته، ويضمن فيها اعتماده على النفس وتقليله من الاستهلاك السلبي لشراء الأشياء الجاهزة أو الحصول عليها دون أن يكلف نفسه عناء عملها، بل اتسع الأمر إلى الكثر من المفاهيم والمعلومات التي كان يتلقاها المتعلم كالاهتمام بالنظافة وغسل اليدين بالماء والصابون واتباع العادات السليمة في العطس والسعال وغيرها مما استطاع كورونا أن يعيد انتاجه بطريقة أكثر احترافية ومهارية وأكثر التزاما وتأثيرا في حياة المتعلم، مما لم يستطع التعليم أن يحققه بصورة مستدامة وظلت الممارسة التعليمية فيه أقرب إلى المزاجية والاختيارية والوقتية في الالتزام.
لذلك كان هذا التراجع الحاصل للتعليم في المواجهة، نتاج لفجوة تعليم المهارات التي ما زلت توضع في ذيل القائمة، وتأكيد في الوقت نفسه إلى الحاجة إلى التعليم المؤسس على المهارات والقادر على تمكين المتعلمين من امتلاك وتوظيف الخبرات والمهارات الحياتية والمهنية والعملية التي يمكنهم خلالها التعاطي مع الظروف المعقدة الناتجة عن الكوارث والاوباء والأزمات، بالاعتماد على النفس والاستفادة من الفرص وتعظيم القيمة المضافة للأدوات والموارد والممكنات المتاحة في نطاق الأسرة والمجتمع والوطن، وهو المعنى الذي ينبغي للتعليم أن يضعه في أولوياته، ويصنع له حضوره ويؤسس في سلوك المتعلم مهارات الحياة، وتعريضه للمواقف المهنية والعملية التي يمتلك إرادة التصرف فيها بطريقة تضمن قدرته على انتاج حلول للواقع الذي يعايشه مهما كان نوعه، ويستخدم من الأدوات والآليات ما يصنع له قوة في مواجهة هذه التحديات الناتجة عن إغلاق الأنشطة الخدمية والاقتصادية والاستهلاكية أو منعه من الخروج من المنزل وتقييده بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي، بحيث يضمن توجيه مهاراته واهتماماته نحو المزيد من الابتكارات التي يجد فيها متنفسا له للعيش في هذه الأوضاع والتعامل مع متطلبات ” خليك في البيت” بكل أريحيه، إذ الجميع مشغول بتوظيف مهاراته وإنتاج أدوات حياتية جديدة يستطيع ان يساعد بها نفسه وأسرته ومجتمعه في استكمال النواقص التي انتزعتها الظروف منه، والخدمات التي حجبتها الجائحة عنه.
إن مسؤولية التعليم في قدرة مناهجه وأدواته على إضافة هذه النكهات الأصيلة في مسيرة حياة المتعلم، فيصنع منها مساحات انتاج قادرة على رسم ملامح التحول القادم في نفسه وقناعاته وأفكاره، بحيث يستطيع المتعلم أن يترجم هذه المناهج والمسارات التعليمية والخطط الدراسية والمساقات الاثرائية إلى برامج عمل وتطبيقات عملية، ويصنع من مادة المهارات الحياتية التي ما زال تدريسها للطلبة يتم بشكل آخر قد لا يحقق مبدأ التعليم للعيش في الظروف الصعبة- كونها مجرد معلومات سطحية تبرز في شكل مبادئ وسلوكيات عامة، أكثر من كونها تجارب وتطبيقات عملية وورش انتاج ومختبرات للتجريب- ، لذلك نعتقد بأن البحث في فلسفة المدرسة المنتجة وتأطير فقهها في سياسات التعليم وبرامجه ، الطريق الذي يمكن خلاله تحقيق مبدأ التعليم للعيش في الظروف الصعبة، بحيث تصبح المدارس والجامعات مؤسسات انتاج للفكر وتوطين التجارب وهندسة المعلومات وتطبيقها في مواقف حياتية يومية، وهكذا يمكن أن تؤدي هذه المنصات التجريبية وورش العمل الصناعية والتجارية والمهنية والزراعية وغيرها ، إلى إعداد كفء للمتعلم في التعاطي الواعي مع الظروف التي أوجدها كورونا.
وأخيرا فلقد أفصح كورونا عن عجز التعليم في أكثر أحواله من صناعة الفارق في حياة المجتمعات، وافتقار التعليم لمستويات أعلى من الديناميكية والمرونة والأصالة في إعداد المتعلم للتعامل مع هذا الواقع الذي فرضته هذه الجائحة، ويبقى عليه في الوقت نفسه أن يعيد مسار عمله وألياته وأدواته، ويصحح من حالة الانحراف التي يعيشها بابتعاده عن مهارات الحياة أو ارتباط مناهجه وأنشطته بواقع حياة المتعلم، إن التأكيد على دور التعليم في اكساب مهارات المستقبل لا يعفيه بأي حال من الأحوال أن يتجه لتعليم مهارات الحياة التي يتعايش معها المستقبل في إيجابياته ونجاحاته أو سلبياته ومنغصاته، لتشكل مهارات الحياة في تنوعها وتعدد ظروفها مائدة حياتية تسع هذه الظروف وتقرأ هذه الاحداث، وتضمن قدرة التعليم على تكييف الانسان المعاصر للتعامل مع الصدمات ومواجهة الاستثناءات والتعاطي مع النكبات والظروف… فهل ستقرأ سياسات التعليم الوطنية فيما عايشه المجتمع من فاقد تعليمي ضخم في ظل جائحة كورونا خيارا استراتيجيا لهيكلته وإعادة توجيه مساره وهندسة فلسفه عمله لتقترب من مبدأ التعليم للعيش في الظروف الصعبة؛ أم سيظل حالة متكررة تستهدف حشو المتعلم بالمعلومات واجتراره لها بعيدا عن معطيات الواقع غير آبه بما يعيشه إنسان اليوم من ظروف صعبة أحرجت التعليم في تقديم أيه حلول مقنعة ترسم مفاتيح الأمل القادم؟