د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
يواجه التعليم في ظل جائحة كورونا ( كوفيد 19) تحديات جسيمة في بنيته الفكرية ومساراته الأدائية ومناهجه وبرامجه، في ظل تعليق الدراسة في مؤسساته : مدارسه ومعاهده وجامعاته ، وقد أشار تقرير حديث لليونسكو في موقعها الالكتروني بعنوان ” اضطراب التعليم بسبب كوفيد 19 والتصدي له “، إلى أن ما يقارب من 91.4% من الطلاب في العالم متأثرون بإغلاق المدارس ، وأن أكثر من 1.57 مليار طالب منقطع عن المدرسة، في أكثر من 192 بلدا حول العالم، ومن أجل ذلك حان الوقت للتصدي لتأثير الجائحة وتيسير استمرارية التعلم لمختلف الفئات”.
ومع تأثير جائحة كورونا على كل نواحي الحياة الإنسانية عامة وعلى التعليم بشكل خاص، فقد أوجدت في المقابل استشعارا عالميا بما يمكن أن تسهم به هذه الجائحة في زيادة عرى الترابط والتكامل المجتمعي المنطلق من قراءة التعليم ( رابطة وطنية وميثاق عمل أخلاقي) في الحد من انتشار كوفيد19، وبدورها أظهرت المستجدات التعليمية والمعطيات المرتبطة بدور التعليم في التعامل مع الأزمات والجوائح عامة ، وجائحة كورونا ( كوفيد19) بشكل خاص، حقيقة يجب أن يدركها القائمون على التعليم على وجه الخصوص، وهي أن التعليم رابطة وطنية، وميثاق أخلاقي يلتزم فيه الجميع مسؤوليته ويستشعر فيه عظمة الدور في صناعة حلول للواقع الوطني، وهو عقد معنوي مشترك يوجه فيه التعليم لصالح خدمة المجتمع ، ويمارس فيه شركاء التعليم في الداخل والخارج مسؤوليتهم بكل إخلاص في خدمة الوطن والتنافس في ذلك، كون التعليم في جوهره شراكة مجتمعية، تعتمد على رؤية المجتمع ونظرته للتعليم والمعلم والسلوك التعليمي وقناعته بما يقدمه له في سبيل تعلم أبناءه، وهي مساحة امان يتعايش حولها الجميع وتتفاعل معها كل طوائف المجتمع فيتقاسمون خلالها مشتركات العمل، وتتفاعل خلالها مدركات الفكر والوجدان والمشاعر والأحاسيس نحو جعل التعليم أساس الالتقاء ووحدة العمل واجتماع الكلمة وانطلاقة روح التحدي وبناء واقع جديد يتعايش مع الابتكارية في الاسلوب والجودة في الممارسة، لذلك لا يصح أن ينأون بالتعليم عن مسايرة الواقع أو محاولة إبعاده عن معمعة الأحداث ، ولا يجب أن يقف التعليم مكتوف الأيدي أمام ما يحصل في المجتمع من كوارث وأزمات ، منتظرا إشارة البدء بالعمل أو القيام بمبادرة تعكس صورة ذهنية تحافظ على مكانته أمام المجتمع، بل أن تقوم مؤسسات التعليم فيها بدور نشط تخرج خلالها من عباءة الاتكالية والاعتماد على الحلول الجاهزة وعلى مبادرات الحكومة والأوامر الموجهة للتعليم ، وانتظارها للتعليمات من الأعلى إلى أن تبادر جميعها بلا استثناء في صناعة هذا المسار والدخول فيه، وأن ينتقل بمؤسساته من أبراجها العاجية التي تعيشها وقراءتها لمفهوم التدخل التعليمي في تطبيق إجراء التعليم ومنع الطلبة من الدخول لمؤسسات التعليم، إذ عليها أن تشمر عن ساعد الجد وتقبل التحدي وتتقبل الاختلاف وتمتطي صهوة الجواد، وتخلق التحدي والمنافسة في مجتمع التعليم، وعندها يفصح التعليم للوطن عن أجندته في المواجهة وجاهزيته في التعاطي مع الجائحة.
إن قدرة التعليم على تشكيل رابطة وطنية وميثاق أخلاقي تجتمع حوله الآراء والأفكار، وتتناغم بشأنه التوجهات والأولويات، الطريق لنقل التعليم من حالة الذاتية إلى المجتمع ومن الأنانية إلى الشعور الجمعي، سواء من خلال اثراء المنصات الالكترونية التفاعلية التي ينتجها التعليم، أو عبر سياسات اجتماعية داخلية تتخذها مؤسساته ضامنه لمساحات الاحتواء وتقوية أواصر التعاون والتكامل والحوار وتقارب وجهات النظر في مجتمع التعليم، وبما يضمن احتواء الفرص التعليمية وتوظيفها والاستفادة منها وتوجيهها التوجيه الأمثل نحو الاسهام في الجهد الوطني المبذول في الحد من انتشار فيروس كورونا، التحدي الأكبر الذي يجب على مؤسسات التعليم أن تتعاطى معه بمهنية ومصداقية ، خاصة في ظل ما يشهده واقع التعليم من تبعثر الجهود وتشتت الأدوات وتقاطع الآليات، كل يشد الخيط لمحيطه الشخصي ويبرز العمل الناتج في ظل بوتقة الشخصنة والتعابير الذاتية، وعبر الحاجة إلى تعزيز الشراكة الفاعلة بين العناصر التعليمية في المؤسسات التعليمية ذاتها، بما يمثله من صورة نوعية في التمازج المجتمعي ودخول القطاع التعليمي بكل محتوياته في شراكات مع قطاعات العمل الوطنية الخرى في التسويق لقدراته وإعادة انتاج الواقع وتصحيحه ، وقدرة هذه الرابطة التعليمية الوطنية على تكوين مساحات امان لكل التوجهات والخبرات والأفكار والاطروحات والدراسات والتعبيرات والابتكارات النوعية التي تصنعها الممارسة التعليمية وينتجها المعلمون والطلبة والأكاديميون والإداريون والشركاء الاستراتيجيون في التعليم وأصحاب التعليم الخاص والمدارس والجامعات، فيتبناها ويعمل على إعادة ترتيب أولوياتها لضمان كفاءتها وفاعليتها وتأثيرها الايجابي في الواقع، ولنا أن تتخيل حجم التأثير الايجابي الذي يمكن أن يحدثه وجود هذه الرؤية التعليمية في إيجاد منصة وطنية لمؤسسات التعليم جميعها في مواجهة كورونا في تعزيز فرص التناغم بين عناصر التعليم ومؤسساته، بما تمتلكه من فرص ومفردات وموجهات في حالة ما إذا تم احتوائها بشكل نوعي.
إن من شأن وجود هذه الرابطة الوطنية والمنصات التعليمية التي تمثلها والشراكات المؤسسة لها، بالإضافة إلى احتواء كل الأفكار والخبرات والتجارب والمبادرات والأطر والموجهات التي يصنعها مجتمع التعليم ويوفرها بطريقة نوعية تخدم الجهد الوطني الموجه لكوفيد 19؛ أن تصنع القوة في هذه الثراء الفكري والعملي المقدم ويقلل من حالة التكرار غير المبرر، ويرسم ملامح القوة في تشاركية نوعية يصنعها الطلبة والمعلمون وأصحاب المدارس الخاصة والتعليم الخاص والمدارس والجامعات و الباحثين والكتاب وغيرهم ممن يضمهم البيت التعليمي الكبير ، بما من شأنه أن يحدث تحولا ملموسا في دور التعليم في التعامل مع هذه الجائحة، و ويجنبه حالة الاتكالية والانسحاب التي يعيشها، وانحسار دوره في تنفيذ الإجراءات المتعلقة بتعليق الدراسة ومنع الطلبة والممارسين التعليمين من التجمعات، وفي الوقت نفسه تعظيم القيمة المضافة للأفكار البناءة والمبادرات الجادة والتوجهات المبتكرة في مواجهة تشتت الجهود وضياع أرضيات العمل ومسارات الأداء.
وحتى لا تضيع الجهود وتتبعثر الأوراق وتتغاير الأهداف، وبهدف المحافظة على أعلى سقف من التوقعات حول التوجهات النوعية والمبادرات الجادة الموجهة لخدمة الاستراتيجية الوطنية في التعامل مع كوفيد 19 ، فإن المسألة بحاجة إلى مزيد من التأطير والتقنين والتوجيه والتثمير في هذا المنتوج الفكري والممارس الذي يمكن أن توفره ذاكرة أكثر من مليون مواطن ينضوون تحت مؤسسات التعليم أو يتعاملون معها ، ليتسع الأمر للمجتمع كله الذي تعايش كل أسرة فيه هاجس التعليم وظروفه؛ فإن ما يشكله التعليم من رقم صعب وحضور وطني ناتج عن تفوق أعداد العاملين فيه والمنتمين إليه أعداد العاملين في القطاعات الاخرى بالدولة، وأن تخرج من مؤسسات التعليم، الأفكار والابتكارات والتوجهات والمبادرات النوعية القادرة على إضافة ممكنات أخرى للقوة الوطنية في التعاطي مع جائحة كورونا، لتشكل بدورها موجهات يصنعها الممارسون التعليميون أنفسهم من معلمين وإداريين وطلبة وأولياء أمور وشركاء استراتيجيون وفاعلون في الاستثمار التعليمي، لتصب في رافد الوطن ومساندة الجهود النوعية التي تقوم بها اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) .
وعليه نعتقد بأنه آن لمجلس التعليم الموقر باعتباره المرجعية الوطنية لمؤسسات التعليم جميعها وأنواع التعليم المختلفة، أن يتبنى اطارا وطنيا داعما لهذا المسار وعبر قراءة معمقة للقيمة المضافة الناتجة من دمج الجهد التعليمي والثراء الحاصل في الذاكرة التعليمية وتوجيهها بشكل أكثر وضوحا ومهنية للمساهمة في مواجهة جائحة كورونا( كوفيد19)، وبالكيفية التي تتناسب مع طبيعة مهام مؤسساته وأنوع التعليم التي تضمها، لتصب جميعها في رؤيه العمل الوطني الكبرى، ورصد الممارسة التعليمية المجيدة واستثمارها والتثمير فيها في تقوية عنصر الاستفادة من مكونات الرابطة الوطنية ونسج خيوطها المتناغمة وترقية خطوط التأثير فيها والتثمير الموجه فيها في مواجهة جائحة كورونا (كوفيد 19).