رصد-أثير
نشرت مجلة “تواصل علمي” الصادرة أمس قصة المواطن سالم العبيداني مع الإصابة بفيروس كورونا، الذي لم يكتفِ به، بل أصاب والديه وأخاه، ليصبحوا بأربعتهم طريحي الفراش، قبل أن تنتشلهم –بفضل من الله- أيادي موظفي مستشفى جامعة السلطان قابوس باهتمامهم ورعايتهم.
“أثير” ترصد للقارئ الكريم تفاصيل الحكاية التي تم نشرها بلسانه:
ابتليت بالمرض نتيجة اختلاطي بزميل العمل، الذي ظهرت عليه الأعراض في اليوم التالي لمخالطتي به. بدأت الأعراض تظهر عليّ الواحدة تلو الأخرى. كانت من أقسى التجارب التي مررت بها في حياتي؛ حيث كنت أعاني من الحمّى والصداع والإسهال، وآلامٍ في جسدي جعلتني سجين الفراش، ولم أقوَ حتى على الوقوف .
كنت في العزل المنزلي لمدة 3 أيام حتى أنه لم يكن بمقدوري التوجه إلى المؤسسة الصحية لأجل إجراء الفحص .
تفاقم الوضع إلى أن تفاجأت بأني بصحبة أبي وأمي وأخي الأكبر في مستشفى الجامعة، توالت الأحداث سريعًا وكنت أشاهد أبي وأخي يُصارعون من أجل استنشاق القليل من الهواء والبقاء على قيد الحياة .
لحظات مجنونة، أنين الألم يصدح وكأننا في ساحة حرب، لا تفصل بين الأسرّة سوى قطعة قماش، وأصوات مختلطة بين أجهزة الأكسجين والسعال ومن ينادي بأسماء أقربائه وأحبائه.
جاورت والدي وعيني على جهاز التنفس الذي يحسب درجات تنفسه ونبضات قلبه. كل شيء كان مُحبطًا ومؤلمًا، قلبي مع أمي التي تعاني من الربو وتقاتل من أجل استعادة عافيتها وأخي الذي انتقل لغرفة العناية المركزة.
رأيت أبي الذي دخل في مرحلة من الهلوسة وفقدان الذاكرة، ذاك الرجل الشامخ أصبح حبيس الفراش وبلا حراك !
الأيام تمر، واللحظات تزداد صعوبة، وبين انتظار إدراج أحدهم ضمن أرقام الوفيات اليومية لم أقوَ على تحمّل الأوضاع، ولم يحييني سوى افتراش سجادتي وتضرعي لخالقي أن ينهي هذا الصراع على خير ما نرتجي. عيني تبكي وجعًا والمكان لا يزال يستقبل مرضى جددًا، وإيمانٌ في قرارة نفسي أن اللطيف والسميع سيستجيب في القريب العاجل .
مضت الأيام وتماثلت أمي للشفاء وبقيت مجاورًا لأبي وبانتظار عودة شقيقي من العناية المركزة .
وبين تلك الحرب القائمة لم ولن أنسى الطاقم الطبي ولاسيما الممرضات والممرضين في مستشفى جامعة السلطان قابوس وهم يعملون ويسهرون على رعاية المبتلين ليلًا ونهارًا، كلماتهم الرائعة وتضحياتهم الجليلة جعلتني أتيقّن بأن من سمع ليس كمن رأى، كنت لا أستوعب كيف بمقدورهم شحن كل تلك الطاقة الإيجابية ومد يد العون لمرضاهم والتنقل لمتابعة حالة هذا وذاك لمدة اثنتي عشرة ساعة متواصلة! يرتدون أقنعة وملابس وقاية ومحمّلين بأجهزة التنفس كمن يشق طريقه لتحقيق مراده في ساحة مفخخة ومزروعة بالقنابل !
أقنعة على وجوههم، وأدوات وقاية على أجسادهم، عائلاتهم في انتظارهم، وقلوب الرحمة لا يكفون عن التوقف، يجوبون بين جنبات جناح مرضى كوفيد 19 وبابتسامات أمل يرسمونها في نفوس ساكنيها، رأيت في هذا المشهد “الإنسانية في أعظم صورة” .
أحداث متسارعة، مريض جديد يدخل المكان، وآخر يغادر على قدميه . خرجت أمي من المستشفى بعد أكثر من 10 أيام وتبعها أبي بعدها بيومين، وعاد أخي من العناية المركزة فاقدًا لوعيه وآثار أجهزة العناية ظاهرة عليه؛ وجه متورّم، وجسد منهك وذاكرة مفقودة.
مرت الأيام وأخي بدأ يتماثل للشفاء شيئا فشيئا، التورم لا يزال على وجهه، وجهاز الأكسجين لا يزال يلازمه. بين عزة النفس واستعادة الذاكرة وعافية الجسد كان مصممًا على التخلي عن أنابيب وقناع التنفس والمصارعة بالوقوف على قدميه، وهو الذي لا يدرك أين ومتى وكيف وصل به الحال للمستشفى .
يومًا بعد يوم بدأ بالعودة للحياة، وكان يُقاتل لأجل إتمام تمارين التنفس ومحاولة المشي تدريجيًا .وأخيرًا استطاع الاستغناء عن الجهاز، وعاد لزوجته وأبنائه، وعادت معه السكينة في قلوب كل من فجع بالخبر، فشكرًا لكل من تضرّع بالدعاء لأجل أن نكمل ما تبقى من أعمارنا.
وأخيرًا: لكم الخيار في تجربة ما عشته من لحظات، هو أمر الله وأمره مطاع وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. ولمن يستهتر ولم يتعظ ويعمل بتوجيهات اللجنة العليا ووزارة الصحة، ولمن يعتقد أن كورونا مجرد أكذوبة، أقول: فلتغشاه الرحمة والهداية. رحم الله من اختارهم بجواره، وأسأله الشفاء والعافية لمن أُبتلي به، وأرجو أن يرفع عنا البلاء والوباء.
يُذكر أن “تواصل علمي” مجلة فصلية تصدر باللغتين العربية والإنجليزية عن دائرة النشر العلمي والتواصل في عمادة البحث العلمي بجامعة السلطان قابوس.