د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
في ظل الطموحات التي تضعها المجتمعات المتقدمة اليوم على التعليم الجامعي والعالي في تحقيق استراتيجيات التنمية الوطنية، عبر من تقدمه للمجتمع من قوة بشرية معدة ومدربة ومؤهلة ومخرجات تعليمية ذات كفاءة عالية الجودة في مختلف التخصصات ، تمتلك عناصر القوة الادائية والمهنية والمهارات والاستعدادات التي تصنع منها قوة بشرية لبناء مستقبل الأوطان، لذلك وضعت معايير ومؤشرات أداء ومواصفات مقننة في الجامعات والكليات لتحقيق هذه المهمة وصناعة المنافسة الأكاديمية والمهنية والإنتاجية والبحثية في هذه المؤسسات، واوجدت مؤسسات متخصصة للاعتماد الاكاديمي تعمل على تنظيم جودة التعليم العالي بما يضمن له الاستمرار في المحافظة على المستوى الذي يحقق المعايير الدولية، وتشجيع مؤسساته على تحسين جودتها الداخلية سواء ما يتعلق بالبرامج الأكاديمية التي تطرحها أو بيئة العمل الأكاديمي ومستوى استيفائها للمعايير والشروط، إلى غيرها من الاستراتيجيات التي استهدفت تنظيم منظومة التعليم العالي والجامعي وتمكينها من القيام بدور استراتيجي في بناء الأوطان وصناعة الوظائف واستيعاب مخرجاتها في سوق العمل الحكومي والخاص على حد سواء .
وبالتالي تصبح جودة الحياة الأكاديمية بكل معاييرها وأدواتها ومرتكزاتها مدخلات لتحقيق الجودة وترسيخ مسار القوة والاحتواء والتأثير في منظومة التعليم العالي الجامعي ، بحيث يقرأ فيها الطالب تحولا في بيئة التعلم وطبيعة الممارسة الاكاديمية ونوعية الأنشطة، وهو يبني في خياله وقناعاته في مرحلة الدبلوم العام، أن يتجه إلى مؤسسة جامعية عليا لها حرمها الخاص وفلسفتها التنظيمية والهيكلية والأدائية التي تختلف كليا عن المدارس ، نظرا للتوسع في مدارك الطلبة ووجود الطلبة من الجنسين في مرحلة عمرية تشكل أهمية في بناء مستقبل الفرد ، لما تتميز به من شغف البحث وطرح السؤال وتوظيف الفرص، ناهيك عن أن نظام الساعات التدريسية واختلاف البرنامج التعليمي الذي قد يمتد لساعات أطول ولفترات أوسع، ليعيش الطلبة والطالبات في هذه المؤسسات فترة طويلة بما يتخللها من فترة استراحة وتوفر التجهيزات والبيئات الداعمة لتنقلهم بأمان وسلام بعيدا عن كل المؤثرات الطبيعية كحرارة الشمس القاسية أو تعرضهم للغبار والأتربة عند تنقلهم بين القاعات التدريسية أو الأمان النفسي الذي يمكن قراءته في المساحة الخضراء ومراعاة جوانب الذوق والخصوصية بين الجنسين في المبنى وتقسيماته وتنظيمه وغيرها من الأمور التي بدورها تشكل بيئة تعلم جاذبة تصنع في ذاتها فرص اكبر للنجاح. إذ كلما كانت البيئة التعليمية محققة للمعايير، متواكبة مع موجهات التطوير واضعة جودة الحياة الأكاديمية للطالب محور اهتمامها، تحتوي الأفكار، وتبيني المشاعر، وتراعي الخصوصية، وتحقق المنظومات القيمية والأخلاقية، وتصنع في الطلبة فرص تحقق ذلك من خلال محتويات هذه البيئة ومكوناتها وعناصر الجذب التي تمتلكها؛ كلما عزز ذلك من حضورها في معادلة القوة واستراتيجيات المنافسة وانعكس ذلك على تعلم الطلبة ورضاهم عنها.
لقد تبدد هذا الطموح عند مشاهدة حال بعض الجامعات والكليات الخاصة، فمع التطور العمراني الذي تعيشه السلطنة والذي انعكس على شكل المباني وواجهاتها ومحتوياتها، إلا أن واقع بعض الجامعات والكليات الخاصة يضع على واقع التعليم العالي الخاص والقائمين عليه علامات استفهام كبيرة ، فهي تفتقر كليا إلى كل مقومات البيئة التعليمية والدراسية فضلا عن كونها مؤسسة جامعية عليا، إذ المبنى الجامعي المستأجر غير مهيئ نهائيا ليتكيف مع البرنامج الدراسي ، فلا اسوار خارجية، ولا تنظيم داخلي، ولا مسارات مرصوفة للمشي عليها، ولا أمان خارجي من تعرض الطلبة لأي إيذاء او اعتداء أو دخول اجسام غريبه او اشخاص اخرين لحرم الكلية أو الجامعة ، فلا رجل أمن يقف على بواباتها، ولا مواقف منظمة للمركبات، ولا بيئة أمنة جاذبة للطلبة قادرة على رسم علامة الفرحة والفخر بانتسابهم إليها، بما يعبر عن ثقافة وهوية وخصوصية هذه الجامعة أو الكلية فيسجلها في محطاته الدراسية وذاكرة تخرجهم.
والسؤال أين دور وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، والهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي في عملية الرقابة والمتابعة والتقييم والوقوف على مدى التزام هذه الجامعات والكليات بتحقيق الشروط والمعايير المعتمدة في هذا الجانب لقبولها كإحدى مؤسسات التعليم العالي الخاصة العاملة بالسلطنة، وما إذ كان عدم التزامها له أثره السلبي في تقييم أداء الكلية وإلزامها بترتيب أوضاعها وتقييم سلوكها وتقديم ملاحظات جادة لهذه الجامعات والكليات بإعادة تنظيم ذاتها وبناء منظومة عملها وإيجاد البيئة المكانية المحققة لمعايير البيئات الجامعية ، بما يمنحها فرص السماح باستمراريتها في أداء مهمتها وتحقق الدعم الحكومي لها أو ايقافها عن العمل؛ أم أن شغف رجال الاعمال والمال والمتنفذين بالحصول على الامتيازات والدعم الحكومي المقدم لهذه الجامعات والكليات أغلق الاعين عن البيئة التي تعمل فيها والمبنى الذي تحط رحالها فيه، ليصبح أمر هذه البيئات وتحسينه وتطويره في علم الغيب أو متروك للظروف ومزاجية الأشخاص، لذلك كانت النتيجة زيادة فوق المتوقع في أعداد مؤسسات التعليم العالي الخاصة حيث بلغ عددها حسب احصائيات عام 2019 ( 29 ) مؤسسة للتعليم العالي الخاص، بواقع (8) جامعات و( 21) كلية خاصة، أغلبها في مباني مستأجر غير مؤهلة كليا كبيئة تعليمية قادرة على الوفاء بالتزاماتها وتحقيق متطلبات النجاح للطلبة وللقائمين على التدريس فيها على حد سواء؟، ولعل نظرة بسيطة لخطورة استمرار بعض هذه الجامعات والكليات في البحث عن الأبنية الرخيصة غير المؤهلة لتحط فيها رحالها ، ما يشير إليه موقع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بنصه: ” وعند استعراض الجامعات والكليات الخاصة في مناطق السلطنة يلاحظ أن معظمها يتركز في مسقط حيث يبلغ عدد الكليات الخاصة في محافظة مسقط 12 كلية من أصل 16 جامعة/كلية خاصة ” ، هذا الأمر يأتي في ظل الحركة العمرانية التي تشهدها عمان بأسرها ومسقط بخصوصيتها في ضخامة المباني التي تنشئ فيها وهي من الطراز عالي الجودة والتي مع قليل من التعديل والإضافة يمكن أن تكون بيئات مناسبة لهذه الكليات ” ، لذلك ما المانع بأن تستأجر هذه الكليات مباني راقية تتسم بالاتساع والخصوصية والحداثة بدلا من الحالة المؤسفة التي تعيشها بعض هذه الكليات؛ وأين تقع مسؤولية الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي الصادرة بالمرسوم السلطاني رقم (٢٠١٠/٥٤)، المختصة بتنظيم جودة التعليم العالي بالسلطنة من هذا الأمر؛ أم أن الجودة والكفاءة الداخلية مقتصرة في التصنيف على الخطط الدراسية والبرنامج الاكاديمي المعتمد ومستوى الالتزام به دون مراعاة لجودة الحياة الجامعية بكل متطلباتها ومعطياتها وخلق بيئة رضا لدى الطلبة حول ممكنات تعلمهم ودعائم نجاحهم وحجم الجهود التي تبذلها إدارة الجامعة أو الكلية والكادر الإداري والتدريسي بها للطلبة؟
تساؤلات عديدة يطرحها الطلبة وأولياء أمورهم والمتابع للتعليم العالي ومتطلبات بناء عمان المستقبل، تُبقى مسؤولية الجهات المعنية بالدولة في تحمل تبعات هذا الوضع والظروف التي يعيشها ابناءنا الطلبة والطالبات في هذه الكليات، وعبر مراجعة جدية شفافة لكل المعايير المعتمدة في الموافقة على انشاء هذه الجامعات أو الكليات، ومتابعة مدى تحقق ذلك على أرض الواقع.