د. رجب بن علي العويسي
ينطلق طرحنا للموضوع من فرضية التأثير الذي أحدثته جائحة كورونا (كوفيد19) على منظومة التعليم، والتوجهات التي عززت من تأكيد استمرار التعليم في الظروف الصعبة وعبر التوجه نحو نظام التعليم عن بعد والتعليم المدمج الذي استقر العمل عليه في مدارس السلطنة للحد من مخاطر انتشار المرض بين الطلبة، وفي المقابل استمرار الجامعات في أداء وظيفتها الأكاديمية والتدريسية عبر استخدام التعليم عن بعد كمسار تعليمي يجسد لامتلاك طلبتها لمهارات التعامل مع التقنية واستخدامها بشكل يحقق غرض التعلم. ويتناسب مع طبيعة الإجراءات والتدابير الاحترازية المتخذة من اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا.
ولمّاّ كان التعليم ما قبل الجامعي الأكثر تضررا من الإجراءات المتخذة بشأن تعليق الدراسة وإغلاق المدارس مع بداية الجائحة، والتحديات التي ارتبطت بتطبيق التعليم عن بعد في المدارس خاصة ما يتعلق منها باستيعاب المعلمين والطلبة والمشرفين وغيرهم لمفاهيم التعلم عن بعد ومفرداته وأدواته وإستراتيجياته ومعايير عمله وإنتاج البدائل المساندة له والحاجة إلى مزيد من العمق والفهم والوعي لطرائق تدريسه وآليات تقييمه وأدوات تنفيذ متطلباته، وفي ظل منطق الشراكة التعليمية والتوأمة بين المدارس والجامعات، ومن منطلق تجدد الخبرات الاكاديمية والنظرية والمعرفية وفرص الاطلاع على التجارب والخبرات ودراسة النظريات الحديثة في الفكر التربوي المعاصر التي تتاح للجامعات أكثر من غيرها في هذا الشأن، تأتي تساؤلاتنا حول منظور الشراكة والتعاون المتحقق من الجامعات للمدارس في ظل جائحة كورونا وما إذا كانت هذه الفجوة في كفاءة هذا الدور وجاهزيته مرجعها عقدة الاجراءات بالمؤسسات التعليمية التي ما زالت تتجه بالممارسة التعليمية إلى التكرارية والبيروقراطية والهدر وما يرتبط بهذه الإجراءات من صعوبة تبادل الخبرات ومحدودية التواصل وتحجيم مساحة التفاعل، أم غياب وجود فلسفة معتمدة بين الجامعات والمدارس في بناء منظومة شراكة فاعلة وثقافة تعاون ضمن إطار عمل مؤسسي واضح المعالم ومصونة بالتشريعات والقوانين، وإذا كان الأمر كذلك فما القيمة الناتجة من اتفاقيات الشراكة ومذكرات التفاهم الموقعة بين الجامعات الحكومية والخاصة بالسلطنة والمدارس ممثلة في وزارة التربية والتعليم إن لم تثمر عن منتوج عملي لها في واقع المعلم والطالب وولي الأمر وغيرهم من الشركاء في التعليم؟
لقد أفصح واقع تعاطي المدارس مع متطلبات جائحة كورونا (كوفيد19) عن الحاجة إلى دور أكبر للجامعات في قراءة الأحداث المجتمعية عامة وإعادة هندسة العمليات التعليمية خاصة بشكل يتناغم مع المفاهيم والمفردات المستجدة في عالم التربية والتعريف بها وترجمتها في واقع عمل المعلم والمتعلم على حد سواء، ذلك أن الكثير من البرامج والمفردات والمفاهيم والإستراتيجيات المرتبطة بالتعليم عن بعد والتعليم المدمج وغيرها بحاجة إلى تفسيرات وتحليلات وتوضيح لآليات عملها وإستراتيجيات تدريسها، مما يستدعي تدخل الجامعات بما تمثله من بيوت خبرة عالمية تمتلك الممكنات الفكرية والتجارب الناضجة والخبرات المجربة والفرص والشراكات وبراءات الاختراع والمراكز العلمية والبحثية والنفسية والمختبرات والمقاييس التي من خلالها يمكن مساعدة المدارس في التعاطي مع الالتزامات الفنية والتقنية المرتبطة بالتعليم عن بعد سواء من خلال تدريب المعلمين أو توفير المنصات التعليمية للطلبة وعبر الابتكارات والمبادرات التعليمية والتجارب الأدائية والنماذج التطبيقية للجامعات لتعزيز كفاءة المدارس وبناء قدراتها وضمان استدامة الممارسة المؤطرة القائمة على خلاصة التجارب ودقة الأدوات ومصداقية الشواهد.
وعليه فإن وضوح مسار الشراكة والتوأمة بين المدارس والجامعات في بناء أرصدة نجاح قادمة تظهر على أداء المدارس وقدرتها في استشراف التحولات القادمة ورسم انطلاقة المستقبل المشرق للطلبة وبناء جسور اتصال ممتدة تعزز لديهم موجهات بناء الحياة الجامعية، وفي الوقت نفسه توظيف الخبرات والتجارب التراكمية المرتبطة بأهداف الجامعة والمتعلقة بالتدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع في بناء قدرات العاملين بالمدارس من إداريين ومعلمين وطلبة وصقل مواهبهم وتعزيز كفاءتهم الأدائية في ظل ما تتميز به الخبرات الجامعية من نضج وعالمية كنتاج لدراسة مستمرة للنظريات التربوية والاطلاع على التجارب العالمية ومواقف المحاكاة التي تعيشها والشراكات العلمية والبحثية مع جامعات العالم المختلفة التي سيكون لها مردودها الإيجابي على منظومة الأداء وكفاءة استخدام الأدوات. الأمر الذي يضع الجامعات أمام مسؤولية تصدير الأفكار والخبرات والتجارب والدراسات التطبيقية ونتائج البحوث واستطلاعات الرأي التي نفذتها في تعزيز قدرة المدارس على التعامل مع معطيات الواقع التعليمي الجديد أو عبر الاستفادة من مبادرات المدارس وتقييمها وإعادة تطويرها وإضفاء صفة الموثوقية والواقعية والمصداقية والموضوعية والكفاءة العلمية لها للوصول إلى نتائج تساعد مجتمع التعليم على تحقيق أهدافه في جودة تعلم أبنائه.
أخيرا فإن إزالة هاجس الانغلاق وضبابية الصورة في مسار التعاون بين الجامعات والمدارس بحاجة اليوم إلى مراجعة جادة لفلسفة عمل الجامعات والصلاحيات الممنوحة للمدارس وبناء مفهوم أعمق للتوأمة يجسد روح التكامل وتبادل الخبرات؛ وهي شراكة ثنائية النتائج، فهي من جهة ستقدم للمدارس الخبرات والتجارب الجامعية مستفيدة من النظريات التربوية ونظريات التعليم الشبكي والإلكتروني، وتعزز في المدارس مساحة العمل المنهجي المؤطر وفرص التحليل واستنطاق الأفكار والخبرات والتجارب التي تبرزها الدراسات الجامعية ومراكز التحليل والاختبار والبحث فيها؛ وبدورها تستفيد الجامعات من هذه الشراكة في جعل المدارس مختبرات لتجريب الأفكار التعليمية وتأصيلها، وطرائق التدريس ومدى كفاءتها في التعاطي مع معطيات الواقع الجديد، وتستكشف خلالها حجم التحولات التي تحتاجها مدارس المستقبل والتغيرات التي أوجدها كورونا (كوفيد19) في مفهوم مدرسة المستقبل والمدرسة المنتجة والمحتوى التعليمي ودور المعلم، والقيم الإدارية والتعليمية المستجدة من واقع الميدان التعليمي، كما يمكن لهذه الشراكة أن تقدم أطروحات قادمة حول معالجة فجوة الاتصال الحاصل بين المدارس والمجتمع والوقوف على التحديات التي تواجهها المدارس فيما يتعلق بمشاركة أولياء الأمور في التعليم، والصورة الذهنية الملهمة التي أثبتها أولياء الأمور والمجتمع حول هذه الشراكة في متابعة تعلم أبنائهم في ظل تجربة التعليم عن بعد، وهو دور استثنائي بحاجة إلى تأطير منهجي جديد له وقراءة نوعية متناغمة مع ما تطرحه نظريات المستقبل.