خاص-مكتب أثير في تونس
حاوره : محمد الهادي الجزيري
عرفت الشاعر نصر سامي حين كنّا نهمّ بالنار نريد سرقة شعلتها الأبديّة..، كان نصر شاعرا يسبح في بحر الكلمات ..ويقتنص منها الأجمل والأبهى..، ونشر في تونس مجاميع كثيرة ، بدأها بالشعر : ذاكرة لاتساع اللغات ـ وتلتها مجاميع كثيرة ، وافتتح الرواية ب: الآيات الأخرى …وأصدر كتبا كثيرة ..،لكنّ القدر شاء أن يرتحل إلى عُمان ..، فتابعته من حين إلى آخر وعلمت ما أسّس من جمال وحسن وإبداع ..وكتبت عنه وعن مشروعه في أثير..، واليوم عاد إلى تونس ..وقد آن لي أن أحاوره عن هذا البلد الذي رحّب به وقضّى فيه سبع سنوات ..سيحاول أن يوجزها في هذه السطور ……

درّست اللغة العربية في عمان لمدة سبع سنوات. سنة في منطقة تسمى أندات قريبة من اليمن، والبقية في صلالة. في إطار التعاون الفنّي. كنت أرغب في السّفر، هذا كلّ ما في الأمر! وحين عرفت أن سفرتي ستكون إلى سلطنة عمان كانت لديّ حدوسي وتوقعاتي بناء على آراء المعلمين التوانسة القادمين، خصوصا ممّن يشتغلون بالمناطق الداخلية الصّعبة. ولكننّي الآن أحمل للبلد والناس الذّين عاشرتهم لسنوات من مختلف الجنسيات صورا شديدة التفرّد ومواقف هي مادة كتاب ظللت أكتبه لسبع سنوات يتضمّن بصورة تفصيلية ما كنت عشته خصوصا في بداية سفري، أتوقّع نشره في السنة الجديدة.
ـ صار لديك أبناء في مشرق الشمس…، وأصدقاء كذلك ..وبعضهم صار لك أهلا ..، صف لنا شعورك وأنت تعود إلى تونس..هل ثمّة حنين للناس والأشياء؟
كانت رحلة صعبة أعتبرها مهمّة إنسانيّا وإبداعا. أتذكّر الشاعر آرثر رامبو الذّي استكمل مشروعة الأدبي في الجوار، وأستعيد ما كتبه نيكوس كزانتازاكي عن تلك المنطقة، وأنا أنضجت مشروعي الأدبي هناك، وعمّقت تجاربي الإنسانية، وصار لي في مشرق الشّمس أبناء وأصدقاء وإخوة وأهل. ربّما في ذلك بعض المبالغة، لكنّه قول صحيح. فلقد أخلصت في عملي، وانفتحت على الساحة الثقافية حيث أسّست تقاليد أدبية لا تزال إلى الآن مستمرة (ورشات تكوين في القصة، لقاءات أدبية، نشر ما يزيد عن 25 كتاب لكتاب عمانيين وعرب تدربوا عندي، ترسيخ الحضور النسوي في اللقاءات الأدبية، إلخ). أستعيد كلّ ذلك دون أيّ رغبة في تضخيمه، فلقد كان تصرّفا بسيطا لكاتب وحيد في بيئة جديدة. سيمرّ بعض الوقت لأتمكّن من النّظر بحياديّة ومعرفة الأثر الباقي في شخصيتي ممّا حدث.
-أذكر كتابا كتبتُ عليه في أثير..، هل تذكّرني به ..وتحكي قصّة إصدارك لتلك الكتب ؟
كان ذلك الكتاب كتابا جماعيا لتلاميذي في المدرسة السعيدية تضمّن 12 أقصوصة من تأليفهم الذي تمّ في إطار ورشة مستدامة للإبداع، وصدر الكتاب مزيّنا ب20 لوحة ملونة، وأعتقد أنّه سابقة أدبية فهو أوّل تأليف إبداعي لتلاميذ المدارس يذلك المستوى، ولقد كان مقالك عنه في أثير من أهم المقالات. وهذا الكتاب في الحقيقة هو جزء صغير من مشروع كبير تمّ على امتداد سنوات، يتضمن تكوينا أدبيا أسبوعيا لعدد من الكتّاب، ومتابعتهم وتصحيح أعمالهم وتجميعها وإصدارها في كتب. ولقد تمّ إصدار 25 كتاب بين جماعية وفردية في مصر والأردن وفي سلطنة عمان.

وحظيت هذه الكتب القصصية بالكثير من الاهتمام وبعض كتابها ترسخت أسماؤهم في الثقافة العمانية، وبعض فازوا بجوائز. تطلّب الأمر الكثير من العمل والصبر والتأنّي، ولكنّ نتيجة العمل العميق الذّي قمت به ترضيني بل لعلّها أكثر ممّا رغبت فيه في البداية.
ـ “مجلة الشاعر” التي أسستها وناضلت من أجل ترويجها، كم عدد أنجزته منها ..ولماذا هذا الانقطاع أو التأخير ..وإلى أيّ مدى تنوي الذهاب بها ؟
مجلة الشاعر مجلة تعاني من عدم الانتظام. رغم أننا أصدرنا منها 8 أعداد، وهي تحوز ثقة الباحثين وتصلها مقالات كثيرة، وحصلت أخيرا على الترقيم الدولي. أسباب الانقطاع لا تخفى وهي أساسا صعوبة تمويلها ولكن ما زاد تأخير العدد التاسع والعاشر هو كورونا. وأعتقد أن عودة المجلة ستكون قريبة ونأمل أن ننتظم مستقبلا. ثمانية أعداد توزع إصدارها بين تونس وسورية ومصر والأردن، وسوف يصدر قريبا عددان جديدان. ونأمل أن يتوّج الأمر بإصدار الأعداد العشر من جديد لتتوفّر عند الباحثين في المعارض.

لم أتعب. أنت أيضا لم تتعب. نحن عشنا مع الحروف، وأخلصنا لها. لم يوقفنا شيء. حتّى في أحلك الظروف أصدرنا كتبا أفضل. حين أنظر لحصادي حتى الآن أظّنه يدلّ على أنّ الكتابة لم تكن أمرا عرضيا أو هواية بل كانت حياة حقيقية بخيرها وشرّها. كلمة المحارب أجدها معبّرة بدقّة عن حزمة الضياء القوية التي تخترق قلبي وحياتي طول الوقت. أكتب بانتظام ولا أنتظر الجزاء، مثلك.. في الطريق سقطت مني سنوات واشخاص وقصص وحيوات صغيرة أو كبيرة، لكنّ الباقي مهمّ وجوهريّ. لا تزال الكتابة داخل الأغوار التي نحيا بها سلاحا وفرسا مجنّحا، صعب القياد وجامح. ولقد أعطتني الكتابة كلّ شيء. خصوصا المحبة والتقدير والقدرة على التغيير. وحين توفّرت لكتبي الفرصة الحقيقيّة فازت بجوائز، وقرئت من طرف جمهور واسع وكتبت عنها مقالات مهمّة. وفوزي بالشارقة وكتارا وجائزة أنسامبل على أهميتها هي مجرّد بداية أعمل على أن أبدأ بعدها من جديد لأحلّق لما أعتقد أن جوهر الأدب وهو الإصغاء بعمق لجوهر الوجود ومحاولة شدّ الإنساني الذّي فينا وترسيخه وحمايته من الزوال.
يعتبر ماريو فارغاش يوسا الرواية ميدانا للرغبة. أوافقه تمام الموافقة. الرغبة أو الأيروس له قرين مضاد له في القوة هو الموت أو ما يشبهه، ويطلق عليه التاناتوس. وهذه الثنائية تشتغل بعمق ووعي في رواياتي. الفشل هو رغبة منكسرة مقهورة وهي موت من درجة ثانية. وأبطالي لا أعرف كيف أقيّمهم فعليا. هل هم فاشلون؟ لا أدري. أما أنا نصر سامي فلا أحبّ الفشل، أبدأ من جديد في كل مرّة. لا أعبأ بأيّ رأي سلبي، بمرور الوقت تحصنت ضدّ الفشل. اعتبره مرحلة في سيرورة الرغبة لتحقيق ذاتها واكتمالها. وكوني صرت كاتبا فذلك لأنني ارتفعت قليلا عن فكرة الفشل الشعبية، وطوّرتها وأنسنتها وعاشرتها. وفشلي هو نجاحي. يعطيني ذلك مساحات من الحركة ويثبّتني.

كان لديّ وعي مبكّر بأهمية التراكم. وكنت أكتب الشعر فقط، ثم التهمتني الرواية. لديّ مع هذا المنجز المتحقق كتب مخطوطة بصدد الترتيب النهائي لنشرها شعرا وسردا. أعتبر أن تجربتي غبر مقروءة جيدا في العالم العربي، وأغلب الناس اطلعوا على بعض مؤلفاتي فقط، وليس كلها. لذلك هناك اهتمام من الناشرين بإعادة طبع أعمالي القديمة، وهذا ما سأشرع في إنجازه عن قريب. أحب أعمالي الأخيرة شعرا وسردا، وهي الأقرب لي من حيث النضج، لكنني أتبنى جميع كتبي، ولا أنكر منها نصا واحدا.
ـ حين تذكر سلطنة عمّان ..ما أوّل شيء تذكره ؟
أتذكر مكتبة الغساني في صلالة، فهي صرح علمي مهمّ، كان رفيقي. وأستعيد الورشات الأولى التي قمنا بها حيث كنا ثلاثة أو أربعة، أتذكر الكتب الأولى التي طبعناها في مصر. أتذكر معلمين كثيرين مرّوا بجانبي، وفاجأهم العمر بانقضائه وهم غرباء عن بلادهم، أتذكر شجرة اللبان التي كتبت عنها في روايتي العطار، أتذكر مسرحيتي مفقود التي مثلت سلطنة عمان في مهرجان أوال المسرحي، أتذكر كتبا كثيرة كتبتها في صلالة على نفس الطاولة. أتذكر الباص الذي كنت أنزل فيه أسبوعيا من أندات لصلالة، وأستعيد تلك الصور التي تمر من النافذة للفراغ الممتلئ بالحياة والأسئلة. يلزمني الكثير من الوقت لأتمكن من سرد الكثير بطريقة منظمة. لكن يجدر التوقف لبعض الوقت عند أمر على غاية من الأهمية وهو عندي جوهر الأمور كلّها وهو طبيعة الإنسان العماني الخيّر اللطيف المحبّ للتوانسة.
ـ هل تريد أن تقول شيئا لعُمان ..كتحيّة أو كوداع ؟
كتبت لعمان منذ فترة قصيدة أعتقد أنّها تصلح كتحية وداع. وهذا جزء منها:
أنا يا عمان مسافر وقصيدتي
سفني وموجي حولها صخّاب
في كلّ منعطف هناك قصيدة
ملأى بهالات الضياء وغاب
يتنزّل الشّوق المعتّق هاهنا
ويطلّ من كلّ ذاكرة هنا سيّاب
يهتزّ في سفني النّدى ويميل في
صوتي الهدى وتراق لي الأنخاب
فكأنّ دهرا كاملا قد صبّ في
لغتي، وكأنّ قرآنا بها ينساب
حتّى الأعاريب التّي لم تجتمع
في حبّ مسقط جّمعوا وتحابّوا
تتحدّث الدنيا هنا عن أمنها
عن عدلها، تستكمل الأسباب