أثير- مكتب أثير بتونس
حاوره : محمد الهادي الجزيري
السيّد بوبكر مبروك سافر إلى سلطنة عُمان للشغل وتعليم اللغة العربية، وقضى فيها ستّ سنوات..وعاد منها تلبية لطلب والده المريض، له حكايات عن صلالة والربع الخالي وورشة القصة، حدّثنا عنها بكلّ عفوية وكان طيلة التداعي معترفا بالجميل للسلطنة ولأصدقائه الخلّص الذين عرفهم أثناء إقامته فيها.
ــ ثمّة جملة شدّتني في صفحتك بالفيسبوك ، كتبتها يوم 24 مارس الفارط ، تنمّ عن عرفان وامتنان كبيرين تحمله في قلبك لصلالة ولعُمان، تقول في معرض حديثك عن المرحوم والدك :” بلاد أهلها علم وحلم وإكرام ومعروف وخير” ..هذا اعتراف بالجميل ونبل منك ..فهلاّ حدّثتنا عن سبب أو أسباب قولك الصريح ؟
الاعتراف بالجميل و الإقرار بالفضل لذويه في اعتقادي أمر لا ينكره إلا جاحد فهو حقّ معنوي يجب ذكره كلّ ما سمح السّياق و المقام بذلك، و سلطنة عمان لها الحقّ في الاعتراف بالجميل وأكثر ــ أقول هذا وقد غادرتها الآن ــ ففيها يطيب العيش و المقام، لا ضيم يلحقك وقوانينها إنسانية و أهلها كرماء طيّبون هذا في المطلق العام تراه أينما ولّيت وجهك فما بالك إذا عرفت أهلها عن قرب، و شخصيا لي فيها أصدقاء من أهل الثقافة والأدب ومن غيرهم جميعهم يعاملونك معاملة الأهل بكثير من الودّ والاحترام والكرم وهي صفات من خالص طبعهم لا يتصنّعونها، عفويّة تلقائية هذا عموما وأمّا الجزئيات فهي عديدة ولا حصر، كنت في عمان وأنا أشرئبّ حنينا إلى تونس وها أنا اليوم بتونس وحنيني إلى السلطنة و ظفار وصلالة لا ينقطع لذلك وجدت في ما قاله أبو الحسن الفزاري في القيروان خير معبّر عمّا يمكن أن اُجمل به قولي في سلطنة عمان وأهلها “بلاد حشوها علم وحلم وإكرام ومعروف و خير”.
ــ أصحيح ..أنّك عدت من عُمان إلى تونس بغية رؤية والدك المريض المرهق؟، وقد كتبت توضيحا على ذلك، فما علاقتك بالوالد المرحوم الذي تقول للوقت الذي ما أنصفك :
” تبا لزمن لم يسعفني بمعرفة الكثير الذي كان يقدمه لي إلا متأخرا، أحبك يا أبي، يا رجلا قدمت لنا من عرق الجبين ما تعجز عنه طاقة أمثالك، اه لو بيدي أن أرد إليك صحتك، أو أتحمل عنك ما بك من سقم، شفاك الله يا رجلا أبيع من أجلك الدنيا وما فيها ” ؟
أبي كان عالَما بحاله فرغم أنّه لم يدخل المدرسة ولم يتعلّم غير بضعة أشهر لدى “المؤدّب” إلا أنّه كان يُجيد القراءة والكتابة والحساب، ومذ نعومة أظافري كان يرافقني في دروسي و يشحذ همّتي على طلب العلم والمعرفة بل إنّه كان يناقشني في مسائل كنت أعتقد أنّها قصرا على المتعلّمين والمثقّفين ولكنّي أجد في تناوله لها الكثير من النظر السّديد، ورغم ضيق ذات اليد إلا أنّه لم يبخل عليّ بشيء، كان نبعا للعطاء، صبورا لا يشتكي وهو إلى ذلك كان عاشقا لوطنه لا سيّما وأنّه كان ممّن خاضوا حرب الجلاء ضدّ المستعمر الفرنسي، ودّعته لحظة سفري إلى عمان فضمّني إليه وما كان ذلك عهد فعله معي ثمّ قال وقد اغرورقت عيناه دمعا: “كن أهلا لما ربّيتك عليه”.
سافرت و طاب المقام وطال إلى أن هاتفني يوما بأنّه يحتاج وجودي في ظلّ ما ألمّ به من مرض وقد بلغ من العمر عتيّا و نظرا لمعرفتي به وبخصوصية الوضع كان طلبه أمرا يحتاج الاستجابة الفوريّة، عدت إليه وحاولت جاهدا أن أتجاوز به ومعه أزمته الصحّية ولكنّه لم يمكث طويلا حتى لبّى نداء ربّه، رحم الله أبي فقد كان أعظم من الحياة وذهب فقده بما تصنّعت من العزم إذ كنت أعتقد أنّي صلب، صلد كقطعة من جبل فوجدتني وأنا الكهل ينتابني يتم الكون بأسره.
ــ صورك في صحراء الربع الخالي تشبه من وجد حبيبته أو شخصا قريبا، ثمّة علاقة حميمة بينك والكثبان الرملية، صف لنا شعورك وأنت والصحراء واحد، كأنّك هيَ وكأنّها أنتَ؟
الأصل أنّي خليجيّ نسبة إلى خليج قابس، ساحليّ مقيم على سواحل واحة بحريّة و علاقتي بالصّحراء ثريّة نظريّا من خلال ما استقيته من الشعر الجاهلي غير أنّي لم أزرها يوما حتى حططت الرّحال بمنطقة الشصر/ قلعة أوبار الأثرية بوّابة الربع الخالي أو الرّبع الغالي كما يحلو لصديقي الشيخ مبروك مسن تسميّته، ومع صديقي الرّجل الخلوق الشيخ مبروك اكتشفت الصّحراء من خلال مرافقتي له إلى صحراء الخذف و صحراء الحشمان و غيرهما فإذ بي أكتشف عالما جديدا، فردوسا مفقودا ما كنت أعلم ما به من سحر انسجمت به ومعه وكنت أقضي به السّاعات الطوال من العَشِيِّ فصاعدا، وزياراتي إلى الصحراء كانت تقريبا أسبوعيا وأحيانا أزورها في الأسبوع مرّتين ففيها كنت أسرّح البصر وأكتب وأقرأ وأرسل لخيالي العنان وأسترجع النّصوص والقصائد وأداعب الرّمل وأصّعّد الكثبان، الصحراء كانت مهبط الوحي وباعثة للحياة ولا تزال، قد تبدو جرداء قاسية ولكنّها فردوس خصيب للنّفس و الفكر و الذات.
ـ تركت أثرا طيبا في صلالة ، هل تذكر لنا كم سنة قضيتها فيها، وكم من فتى أو فتاة تعلمت منك قواعد اللغة العربية، هل تشتاق أصحابا وقوما ضمّوك مثل ابنهم ؟
قضيت بمحافظة ظفارـ صلالة ـ ست سنوات حاولت خلالها أن أمثل بلدي أحسن تمثيل عطاء وانضباطا، بدأت العمل وسرعان ما نشأت بيني وبين طلابي علاقة استثنائية قوامها العمل والاجتهاد وحب المعرفة وتطوير الأداء والشغف باللغة والأدب العربيين فما أحسست بثقل الحصص ولا أحسوا بصعوبة المادة لاسيما من خلال تنويع مداخل الدروس وتثمين مجهود الطلاب، فبعثت فيهم شغفا مخصوصا للمادة. وأذكر أنه وردت على المدرسة مراسلة المشاركة في مسابقة الابداع الادبي، علما وأن المدرسة لم تشارك تاريخيا في هذه المشاركة وعقدت العزم مع بعض طالباتي على أن نشارك في هذه المسابقة، مسابقة القصة القصيرة وأسسنا ورشة كتابة مسائية بالمدرسة دامت لأشهر وشاركنا في المسابقة لتكلل جهودنا بالنجاح وتحصلنا على الجائزة الثانية فكرمت الطالبة المتوجة والمدرسة وكرمت كذلك من قبل مديرية التربية بمحافظة ظفار.
وتوسعت علاقاتي بحكم اهتمامي بالأدب والشأن الثقافي وكان يجمعني المقهى مع الصديقين الشاعرين التونسيين نصر سامي والأمجد الإلهي والصديق الشاعر محمد قرطاس والصديق القاص محمد جداد وكنت أزور الصديق نصر سامي بورشة كتابة القصة القصيرة مع القاصة إشراق النهدي فكان لنا إسهام ولو بسيط في الفعل الثقافي الإبداعي من خلال توجيه الملاحظات والتدقيق والتحرير للكثير من النصوص الإبداعية لكاتبات القصة القصيرة أو من خلال المحاضرات والندوات التي كنت أقدمها أو أشارك بها ضمن إتحاد الكتاب بصلالة الذي يجمع مبدعي ظفار شعرا وقصة ورواية، ونشأت بيني وبين مبدعي صلالة الخلوقين المميزين صدقات ود وأخوة لا زالت متواصلة إلى اليوم.
الجامع بين أهل السلطنة هو البعد الأخلاقي العميق المتجذر دماثة وكرما وسعة صدر وهو أمر نادر في هذا الزمن، لم يكن وجودي بصلالة مجرد معلم أو أستاذ تربطه علاقة شغلية مع الجهة المشغلة بل كنت ابنا بين أهله وها أنا اليو أشتاق إليهم وأشتاق إلى تلك الميادين، بحر العرب المهيب، جبال ظفار الأبية، الربع الخالي وصحرائه ورماله الذهبية.
أهل عمان إذا ناداك أحدهم وهو لا يعرفك يقول لك “يا طيب” وإذا ثقل عليك أمر قالوا لك “الأمور طيبة”، كانوا نعم الأهل فأرجو أني كنت نعم الابن ، سلامي إلى عمان الطيبة وأهلها الطيبين.
ــ كتبت، وهل سنحت لك الفرصة والهدوء والسكينة لكتابة هواجس أخرى، هل لك من جديد ؟
لعل جوّ الاستقرار والسكينة قد أسعفني بالكتابة ودفعني إليها فأصدرت كتابي النقدي الأول” ترافد النصوص في الأدب التونسي “، وأشرفت على إصدار كتاب “الربع الخالي :آثار وأسرار صحراء الربع الخالي” لسعيد بن سالم بن غبيشة وقدمت المجموعة القصصية ” أمواج ريسوت” للقاصة إشراق النهدية إضافة إلى عديد الدراسات والمقالات ومشاريع عمل مختلفة إبداعية ونقدية منها ما أنهيت الاشتغال عليه وما زال مخطوطا ومنها ما لم أنته منه بعد.