أثيريات

الصيف محطة استرخاء؛ فكيف نعزز فيه فضيلة القراءة؟

الصيف محطة استرخاء؛ فكيف نعزز فيه فضيلة القراءة؟
الصيف محطة استرخاء؛ فكيف نعزز فيه فضيلة القراءة؟ الصيف محطة استرخاء؛ فكيف نعزز فيه فضيلة القراءة؟

د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

نتحجّج بعذر الوقت وأعذار اجتماعية وارتباطات عائلية ومهام عمل وغيرها، كما نتحجج بأننا أصبحنا أقرب إلى السمعيين بعد ظهور موضة مشاهير السوشل ميديا والظواهر الصوتية الفارغة والصراخ العالي في عالم الداعية والإعلانات، بيد أن حقيقة ما في الأمر أننا لا نقرأ.. لا نقرأ لأننا لم نكلف أنفسنا عناء البحث في القيمة المضافة التي ستحققها لنا القراءة من قريب أو بعيد، لم تكن القراءة في يوم ما أداة سالبة أبدا، بل تحمل إلهامها في سطور الكلمات والحروف ، والجمل والعبارات، والصفحات والأوراق، في المعني والمغزى، في التراكيب والتصورات، لأنها تستهدف رقي مستويات الذوق الإنساني والسمو بالنفس في حواراتها وحديثها وإدارتها لأساسيات الحياة، لذلك لن تعذرنا الأيام بعدم القراءة ولن يجد التاريخ لحجتنا أي قبول في عدم قراءتنا، لأن إدارة الحياة بأكملها تحتاج إلى أساسيات القراءة لفهم مقتضيات هذه الإدارة والوفاء بالتزاماتها والوقوف عند حدودها ومسؤوليتها والوصول بها إلى بر الأمان في إدارة تتكامل عناصرها وتتناغم مكوناتها من أجل حياة أفضل وسعادة متحققة.

عندما تكون القراءة منهج الحياة وسبيل الفهم وأسلوب العمل وطريق الإدراك ومنبع المعرفة ومُزن الحكمة ومنطلق اتخاذ القرار، وطريق التفكير ، ومرتكز الحوار، وطريق الاتصال والتواصل ، وثقافة حياة ، ومنهجا للتعايش والتكامل وبناء المستقبل، عندها يتغير كل شيء في حياتنا – قراراتنا، تفكيرنا، فكرنا، أسلوبنا، حديثنا، قناعاتنا، سلوكنا، تعليمنا، تربيتنا، تنشئتنا، تعاملنا مع الآخر، إدراكنا لقيمة الأشياء، حرصنا أن نكون الأفضل في ممارساتنا ، التزامنا بالقيم والمبادئ في ظل وعي بها وفهم لمقتضياتها؛ وعندها ستكون القرارات واضحة للجميع، والأذهان مستمعة لما يٌتلى من حديث المساء والصباح، والمقترح المرفوع لجهات الاختصاص أو مؤسسات التنفيذ والمتابعة يُنصت له، والأفكار المطروحة عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل المعرفة وأدواتها يُستجاب لها بفاعلية ، وتناقش بعمق وتتداول برويّة وحٌسن نية، ، والتحليلات والمقارنات تصبح مداخل للبحث عن الحقيقة الغائبة والتي يراد إثباتها في ظل منهج القراءة، فتصبح قراراتنا رشيدة لأنها مبنية على وعي وإدراك وبصيرة وحكمة ورأي متعطش للدليل… وإذا كانت القراءة للجميع حياة متعددة فهي للمؤسسات حياة ممتدة، لأنها طريق استدامتها وقدرتها على بناء قاعدة عريضة من المعرفة المتكاملة، والحصول على توافق مجتمعي تقوم عليه شرائح متعددة مثل: الكاتب والمؤلف وصاحب الفكرة ومقدم الأطروحة ومنشئ المحتوى الالكتروني ورئيس تحرير الصحيفة والمسؤول وغيرهم.

مشكلتنا أننا لا نقرأ .. فالكثير من الممارسات اليومية التي تبرزها المواقف وترصدها تجليات الأحداث على المستوى الشخصي والمؤسسي تدل على أن القراءة محطة مغلقة الأبواب، لا يفقهها إلا المبادرون ذوو الهمم العالية، لذلك علينا أن نقرأ .. إن الكثير من وجهات النظر والأفكار لا يمكن أن تأخذ حقها من التحليل والدراسة والمقارنات إلا من خلال قراءة ما بين السطور وفهم للمقصود الصريح منها والمضمون، بالقرآة تتكشف الدلائل، وتتجلى الطموحات وتبرز على السطح الآمنيات، إنها تمثل قلب الإنسان النابض وفكره الراقي، وخلقه القويم، لتتحول القراءة من مجرد هوايات في عالم مضطرب إلى منهج حياة ينير درب السالكين ويمنح العارفين فيه طريق الرشاد.

إن التزامنا سلوك القراءة ، يعني أننا نستطيع أن نفهم أنفسنا ونضع حدا لتصرفاتنا ونتصالح مع ذواتنا … أننا نقرأ .. يعني أننا نستطيع أن نتفاعل مع سلوك الآخرين وثقافتهم، ونتعامل مع متغيرات هذه الثقافة ، ندرك خلالها معنى الخصوصيات، وتنوع الثقافات، وحدود التواصل مع الآخر وضوابطه، نستطيع أن نشخص الواقع وندرس قناعاتنا نحوه وأسلوبنا في وصفه، بروح موضوعية بعيدة عن الذاتية ، فإننا بذلك نملك إرادة القلم ونوجه مساره بالشكل السليم الذي يقدم لنا ولغيرنا نهج حياة ولحياتنا معاني التفاؤل والاستقرار والحب والود، أننا نقرأ … يعني أننا نُحب ونقدّر الاختلاف ونتسامى بتفكيرنا فوق الخلاف ونتغاضى عنى الزلة. لأن القراءة تعلمنا تعدد الآراء وقيمة الاختلاف فيها وقبول تنوع وجهات النظر، لذلك تجعلنا في شُغل دائم بتصحيح مسار حياتنا ومراجعة ممارساتنا، فلا مجال لأن نكره أو نبغض أو ننقد بذاتية أو نتكبر أو نعادي. إنّ القراءة بذلك نبض قلب ومداد قلم ، وبوح شفاه، وصدق نفس، وغذاء روح.. لا تقبل إلا التسامح ولا تميل إلا إلى العدل… القراءة تعلّمنا قيمة الاختلاف وتؤصل لدينا أهمية التكامل، وأن الحياة في ظل تعدد وجهات النظر وتنوع الآراء وتعدد الأفكار فرصة لبلوغ الأفضل وتحقيق الأجمل من الأهداف. القراءة طريقنا لتجاوز كل اشكالياتنا الفكرية التي نواجهها مع أنفسنا ومع الآخر أفرادا كانوا أم مؤسسات، ومعالجة الأزمات الناتجة من سوء الفهم وسرعة الأحكام على الآخرين بدون إدراك، إذ القراءة تعلّمنا مفهوم الحوار في أدق تفاصيله وأعمق معانيه وأبلغ أهدافه وأصدق تعبيراته وأوسع أبوابه ومنابره.

إن القراءة بذلك صوت الفكر الأصيل ومنهجه القويم ، القاسم المشترك بين العلماء وذوي الألباب وأولي النُهي وأصحاب المبادئ. عندما نقرأ بعمق، نفكّر بصدق، وندرك بوعي، ونتكلم بإحساس ونلهج بخُلُق، ونسمو بقراءتنا فوق الخلاف المجرد المذموم؛ لأن القراءة تنقلنا إلى الحكمة والبصيرة وقوة البحث عن الدليل واتساع قوة المعرفة، عندما نقرأ سوف تغيب عن حياتنا ممارسات تجاوز القانون أو تغييِب القيم أو إقصاء الكفاءة أو إضاعة المعرفة أو هدر الموارد، أو العبث بالقدرات والاستعدادات في غير فائدة أو مبرر، لأن الجميع يمتلك حس الكلمة ودقة وصف العبارة، ونضوح الفكرة ، فيبني على تعدد الآراء فرصة أكبر للجلوس معا لمناقشة الفكرة والخروج بقرارات واضحة وأنشطة عمل محددة. فلا اعتراض يُذكر إلا بدليل، ولا تباطؤ في التنفيذ؛ إذ كل الأمور معلومة ومُدركة من القائمين على التنفيذ. ولا اغترار بقوة السلطة؛ إذ سلطة الجميع انهم يقرؤون ويدركون ما يتبع ذلك من مسؤوليات عليهم أن يسعَوا خلالها من أجل مؤسساتهم وأسرهم ومجتمعاتهم بحسم معالجة الإشكاليات والتحديات.

في ظل القراءة يعيش الجميع في ميزان العدالة ويستقي من معين الحكمة. لا شيء يعكر صفو العلاقات البشرية أكثر من التعصب لفكرة دون دليل أو التقول بدون مؤشرات واضحة مقننة ، إن القراءة تضع الجميع في ميزان العمل الدقيق المسؤول الذي يتجاوز حالة ترديد المعرفة العامة كالببغاء أو تداولها دون فقه لمعانيها أو غاياتها أو مصطلحات تراكيبها عبر المعلبات الفارغة في منصات التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة، إلى التيقن من صدق المعلومة ونفعها للنفس والآخر ، فالقراءة بذلك علاج لمشكلة الشائعات والتقول بدون دليل إلى إلزام النفس نحو طرق أبواب الصدق والتحلي بخلق الأمانة ودقة الاقتباس ومنهجية التوثيق… لأن الجميع يدرك في ظل القراءة حدود مسؤوليته وطبيعة الدور الذي يقوم به نحو المعرفة الإنسانية؛
أخيرا لما كان الصيف محطة استراحة واسترخاء ومساحة للترويح البدني والنفسي من روتين الممارسة الوظيفية فإن القراءة تزيد هذه المساحة أمانا واسترخاء فكريا وتجديدا ذهنيا وانسيابا معرفيا ، فالسياحة والسفر بما فيها من فرص التعرف على ثقافة الشعوب وقيمها وعاداتها محطات لمزيد من المعرفة التي تصنع للقراءة محطة تحول ومساحة حضور، لن تكون القراءة شاغلة لنا عن انجاز المهام أو سبب في عدم تحقيق الأهداف؛ بل طريقنا لإنجاز مستدام ذي جودة وفرصة بناء منهجيات حياة عالية الدقة.. فلنقرأ إذاً…. لأننا سنُدرك بذلك ما نفتقدُه في حياتنا وما نحتاجه من أجل اشراقة ذواتنا وسلامنا الداخلي.


Your Page Title