أثير- د.سعيد السيابي
رواية كتبها النمساوي باولوس هو خغاترير وترجمها للعربية الدكتور الفارس علي ونشرها مشروع (كلمة) في العام 2021م. المؤلف من مواليد عام 1961م في آمستتين بالنمسا ويعيش في فيينا، وهو كاتب ومتخصص في علم نفس الأطفال. حاصل على العديد من الجوائز وشهادات التقدير، آخرها شهادة الفن النمساوي عام 2010م. كتب العديد من الأعمال الأدبية والتي حظيت بانتشار عالمي وترجمة أعماله للعديد من اللغات، نذكر منها: رواية (حديث عن الجراحة عام 1993م، ومجموعة قصصية (قاعدة نيستن) عام 1995م، رواية (حلاوة الدنيا) عام 2006م، رواية (بيت المراتب) عام 2010م.
تأثرت أعمال الكاتب باولوس بالتجارب التي تأثر بها والخبرات التي تحصل عليها من خلال عمله اختصاصيا في طب نفس الأطفال، حيث حجزت الطفولة وقضاياها مكانة كبيرة في معظم أعماله الأدبية، فنجد في رواية (بيت المراتب) قضية إساءة معاملة الأطفال، وفي رواية (حلاوة الدنيا) تدور أحداث الرواية حول فتاة تبلغ من العمر سبعة أعوام، وتصاب بالبكم جراء صدمة نفسية، فالتأثير والتأثر الذي تداخل داخل أعمال الكاتب باولوس هو مبني على خبرات تراكمت وقراءات شحذت همة هذا المبدع لإطلاق العنان لمخيلته لتجسيد بعض هذه القضايا المهمة التي نحتاج لها كقراء للإبحار فيها خصوصا هي تعكس فترة التحولات الكبيرة للمراهقة والطفولة التي تجتاز عالم الدلال واللامسوؤلية إلى مرحلة التكليف والمسؤولية.

في رواية (يوم كان جدي بطلا) يأخذنا المؤلف إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عن حدوث تفجير لمنزل العائلة وعليه بطل الرواية تفقد الذاكرة، أو تتظاهر بفقدانها الذاكرة. نيللي- بطلة الرواية تعاني من صدمة عصبية عنيفة من هول أحداث الحرب التي عاينتها، فتبدو ذاهلة عما حولها، وكأن جزءا من الواقع بات محجوبا عنها.
كتابة المذكرات في دفترها البني وخصوصا أجواء الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، في موطنها الجديد، مزرعة عائلة لايتنر التي تكفلت برعايتها برفقة بناته الخمس، لا من حيث حقائق الواقع المعيش، بل من حيث تراها هي فحسب. إن البطلة نيللي في كتابتها لمذكراتها لا تكذب، على الرغم من اعترافها أكثر من مرة بأنها تكذب، لكنها في الحقيقة لم تزد على أن أطلقت لخيالها العنان، في محاولة منها لكشف الواقع المعاش والأزمة التي تركت أثرا في صحتها النفسية وعمقت في داخلها هوان الإنسان حتى تستطيع احتماله، وحتى يمكنها الاحتفاظ بالبقية الباقية من سوائها النفسي. فالفتاة تمتلك علامات الذكاء والفطنة، فهي ليست راوية بسيطة تكتفي بنقل الأحداث نقلا حرفيا، بل تتدخل فيها قصا ولصقا، وإضافة وحذفا، وتغييراً لقصص الروايات الثلاث الرئيسة التي ترويها وتكتبها في مذكرتها.
درجت بطلة الرواية على أن تنشئ عالمها الخاص الذي يعيد إدارة الواقع من حيث تراه هي، لا من حيث هو واقع فعلا، فوعيها رافض لكل النهايات البائسة التي انتهت إليها القصص الثلاث الرئيسة. لعلها كانت توحي بذلك إلى نقد خفي للنهايات السعيدة التي يرويها التاريخ فهي أبعد ما تكون عن الحقائق وتفاصيله التي لا توثق بشيء من الدقة غالبا. فنجدها حريصة كل الحرص على توثيق كل الأحداث التي وقعت لأهل المزرعة.
إن الفتاة وعلى الرغم من عمرها ثلاثة عشر عاما – يقولون إنني في الثالثة عشرة من عمري، ثمة وثيقة في الواقع قطعة ورق مختومة بذلك، فيها اسمي وتاريخ ميلادي. إلا أنني لم أر هذه الورقة قط، فلست أكترث بأعياد الميلاد أصلاً، لا أحد هنا يحتفل بأعياد ميلاد- استطاعت بقوة إرادتها ولغتها الجميلة أن توثق في مذكرتها ما ضنت غنه يستحق الكتابة عنه فلم تخلق لها، ولا لنا ولا للعالم، تاريخاً، ولا تسعى لنسج أسطورة أو حديث خرافة، لكنها ببساطة تصف، تصف فحسب، وبدقة متناهية التفاصيل، وتسرد بتلقائية عميقة المعاني، وتظهر في سردها شجاعة وحسا فكاهيا ساخراً، وهي على الرغم من ذلك لا تقدم أي إجابات، ولا تستشعر أنها ملزمة بتقديم تلك الإجابات، بل على العكس من ذلك، فإن الخطاب الكامن بين السطور للكاتب النماساوي يطرح الكثير من الأسئلة ويرشدنا نحن القراء إلى المشاركة مع بطلة الرواية بالبحث عن إجابات كل من جانبه ووجهة نظر التي يعتقد إنها ممكن أن تكون حلا مقنعا لتفاصيل مشاهد ونهايات مفتوحة تستطيع أن تدخلنا في المشاركة تلقائيا بتقديم تلك الإجابات.
رواية (يوم كان جدي بطلا) هي رواية قصيرة لا تتجاوز المائة صفحة لكن كل كلمة وجملة فيها منسوجة نسجاً بليغاً محكماً، تطالع في مرآتها أشكالا متعددة من الموت والحياة، البؤس والنجاة، الموت العبثي في زمن الحروب، على نحو ما عبرت به إحدى فتيات المزرعة، الموت الذي يقبع كظل في جدار وسور المزرعة حتى تشبهه وكأنه فردا من أفراد هذه المزرعة وما حولها. علاوة على ذلك، فهي رواية تحتوي الكثير من الحياة والرغبة في العيش بقوة وإرادة حاضرة وكأن الشخصيات تؤمن بأن شروق شمس السلام قادمة لا محالة وذلك تتراءى ثنائيا مختلفة تجمعها لحظة واحدة، كالحب والغيرة، الشغف والجفوة، الرضى والسخط، القناعة والشره، الخيبة والرجاء، التعطف والتحامل، الحقائق والأساطير، الإيمان والهرطقة.
هذه الرواية تضعنا أمام مرآة نفس بشرية رغم صغر سنها إلا إنها تحمل هموما ورسائل إنسانية عميقة فنجد تماسكها لآخر سطر منها بأننا كنا بحضرة عمل متميز، حري بأن يكون ضمن روائع الأدب العالمي، شأن كل الأعمال الأدبية العظيمة، بتأويلات أخرى عديدة تتبدل مع القراء الذين يسعون للحصول على تجارب حياة والقراءة عن أحوال الحروب التي لا تبقي ولا تذر على أي قيمة للإنسانية بل العكس تطحن كل من يقف في الخندق أمامها لتحوله إلى أشباح من الذكريات وقتامة من هول دمار الأمكنة.
ختاما، نجد الكاتب النمساوي باولوس في روايته هذه يكشف لنا كيف تظهر لوحة مفقودة منذ فترة طويلة، وكيف يمكن لرجل بسيط أن يغدو بطلًا بين ليلة وضحاها. كما يخبرنا عن الخوف، والشوق، والحياة اليومية، وعن تلك اللحظات التي يغدو فيها التاريخ نفسه وجهة نظر. يصوغ لنا المؤلف أفكاره في جمل رشيقة مشرقة، لكنك لن تستطيع أن تصل إلى غاياته الكبرى إلا إذا أنعم القراء النظر فيما بين سطور جملهً، وإن دقة التعبير عنده إنما هي إحدى خصائصه الأسلوبية المتميزة، وهذا ما ذكرته عنه صحيفة (دي ڤيلت الألمانية). هذه الرواية تستحق القراءة وإعادة القراءة متى ما استطعت أيها القارئ الكريم الوصول إليها.