أثير- مكتب أثير في تونس
إعداد : محمد الهادي الجزيري
الحياة ظروف ودروب وحظوظ …
هكذا أفتتح عناقك يا عزّالدين المناصرة ..فقد بزغتَ في زمن سيطرة كوكب محمود درويش وهيمنته على المشهد الشعريّ ..فلم تحظَ بما أنت أهل له ..بالرغم كلّ من أكرموك ومن كتبوا عنك وعن شعرك الغزير ..فأنت في رأيي وحسب ذائقتي الشعرية المتواضعة …، لا تقلّ موهبة ولا علما أو دراية بالشعر ..لكنّ قدرك وضعك في مكان وزمان صعب ..وتلك هي الحياة ..، على كلّ كان محمود درويش ظلاّ فسيحا وغطّى غابة الشعر الفلسطيني والعربي ..ويكفيك فخرا أنّك العلم الكبير الخالد عزّالدين المناصرة …….

حبا إلى الدنيا في سلالة كريمة وكان ذلك في 11 أبريل من سنة 1946 ، بقرية بني نعيم ، قضاء الخليل بفلسطين ، وزاول تعليمه في مدرسة الحسين بن علي الثانوية بمدينة الخليل وحصل على شهادة الثانوية العامة في 1964 ، وتحصّل على شهادة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية عام 1968 ، ودبلوم الدراسات العليا في النقد الأدبي والبلاغة والأدب المقارن عام 1969 بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ، يلي ذلك أكمل دراساته لاحقا وتحصّل على شهادة التخصّص في الأدب البلغاري الحديث ، ونال درجة الدكتوراه في النقد الحديث والأدب المقارن في جامعة صوفيا سنة 1981 …، ثمّ حصل على رتبة الأستاذية (بروفيسور) في فيلادلفيا جامعة خاصة أردنية عام 2005 ، ومن المضحك حين نعرف أنّه كان في شبابه الأوّل راعيا وجَمّالا وبائعا متجوّلا ..وذاك ما قصدت به في قولي : الدنيا ظروف ودروب وحظوظ…
ها إنّه يغنّي لنا جميعا ..ويعلي النبرة ..، اعتراف بأنّه الشاعر الذي أتى ليقول ويفعل ويصرّح أن لا صوت إلا صوته :
” الأغاني التي عذّبتْني هناكْ
عذّبتني هنا
النساءُ الجميلات… والأوفُ والميجنا
وابتهاجي دماً واخضراراً وبحراً
يصبُّ غِوىً في هواكْ.
الأغاني ،
وما بَعْدَ هومير ،
صوتي أنا.
يا حفيف الصنوبرِ يسمعَ خطْوي
على تلّة الشهداءْ
ما الذي يزعجُ الشعراءْ
يا دم المُنحنى
الأغاني التي عذّبتني هناكْ
عذَّبتني هنا
الأغاني وما بعد هومير… صوتي أنا ”
” بالأخضر كفّناه … ” أبيات شعرية مشهورة .. لها قصّة موجعة تعود إلى حصار بيروت 1982 حيث كان الشاعر مرابطا ..والقصة كما هي :
ويتابع عزالدين المناصرة الحكاية فيقول : استشهد زياد في إحدى المعارك البطولية ضد العدو الصهيوني في بيروت ومن شدة القصف المتواصل على بيروت لم يستطيعوا أن يدفنوا زياد إلا بعد 3 أيام عندما هدأ القصف ، وفي أثناء مراسم الدفن تصادف وجود أم فلسطينية “ختيارة” حاضرة لمراسم التشييع وقالت بلهجتها العامية البسيطة ( سبحان الله جرحه لسة أخضر ) أي إن جرحه ما زال ينزف…

علقت كلمات العجوز البسيطة في عقل وذهن الشاعر الفلسطيني عز الدين مناصرة لتنفجر فيما بعد قريحة الشاعر ليكتب بعدها قصيدته الشهيرة بالأخضر كفناه..، سمع الموسيقار مارسيل خليفة القصيدة والقصة التي كانت السبب في القصيدة ، فلحن القصيدة و غناها ونشرها بالوطن العربي ، وكان مارسيل قد غنى قصيدة الشاعر المناصرة (بالأخضر كفناه) عام 1984 في ملعب الصفا في بيروت أمام (مائة ألف متفرج )
” بالأخضر كفّناه بالأحمر كفّناه
بالأبيض كفّناه بالأسود كفّناه
لا الريح تحاسبنا إن أخطأنا لا الرمل الأصفر
لا الموج ينادينا إن خطف النوم أعيننا
والورد احمرّ
يا دمَهُ النازف إن كنت عذاباً يومياً
لا تصفرّ “
إنّه شاعر وناقد ومفكر ومناضل وأكاديمي فلسطيني ، تنقل بين عدة بلدان قبل أن تحط به الرحال في الجزائر عام 1983 ، حيث عمل كأستاذ للأدب في جامعة قسنطينة ثمّ جامعة تلمسان ، انتقل في مطلع التسعينيات إلى الأردن حيث أسس قسم اللغة العربية في جامعة القدس المفتوحة ( قبل أن ينتقل مقرها إلى فلسطين ) ، وبعدها صار مديرا لكلية العلوم التربوية التابعة لوكالة غوث للاجئين الفلسطينيين..، حاز على عدّة جوائز وتكريمات ككاتب وجامعي من ضمنها : جائزة الدولة الأردنية التقديرية في حقل الشعر عام 1995، وجائزة القدس عام 2011

أوّل مرّة استمعت فيها لعزّ الدين المناصرة ..كان ذلك في تونس العاصمة سنة 1990 بمؤتمر اتحاد الأدباء والكتّاب العرب ، والقى خلالها قصيدته الفريدة المستثناة ” حيزية عاشقة من رذاذ الواحات ” ..، ألقاها بشكل غنائيّ ..بإطلاق صوته وحنجرته بالشدو وكان أخاذا ذلك الإلقاء ..، وكنت آنذاك في مقتبل العمر وأتحسس دربي نحو الشعر ..، وكانت هدية من المناصرة لي ..دون أن يقع بيننا سلام أو تماس ..، وأحسبني فهمت الهدية / الدرس ….
ولكم منّي بعض هذه القصيدة الرائعة الذي يشكّل نصّها الشعري في الوقت نفسه عنوان الديوان ، العلامة المحورية ، لما تشكله “حيزية ” المرأة الجزائرية الرمز ، التي ماتت من أجل من تحب ، من ذاكرة و تاريخ، و شيوع حكايتها في ربوع الجزائر ،و التي تذكرنا بقصص المحبين التي لم تكتمل حكايتها و لم تكلل بالزواج… :
جمرة البدو أنت ، فمن أين جئتِ ،
تلوبين مختالة في قميص
موجز ورهيف أساي
حفلة في تلمسان ،أنتِ
موشحة بأغاني مساء الخميس
موجز ورهيف أساي
قطعة من سماء
أرجوانية علقت ليلة المجزرة
بجناح على الثلج في جرجرة
موجز ورهيف أساي
نقطة من بياض مساي
نخلة في أعالي الجبال تطل على العاصمةْ
أصدر الشاعر الراحل كومة كتب منها المجاميع الشعرية والدراسات النقدية ، ومن ضمنها نكتفي بالذكر لا بالحصر :
يا عنب الخليل وهي باكرة أعماله ، قمر جرش كان حزينا ، بالأخضر كفّناه ، ثمّ يتوهّج كنعان وهي مختارات شعرية ، وله عديد الكتب النقدية من ضمنها :
الفنّ التشكيلي الفلسطيني ، إشكالات قصيدة النثر ، نقد الشعر في القرن العشرين ، النقد الثقافي المقارن ، إضافة إلى عديد الكتب والمقالات المخصصة لقراءة شعره ومواكبة حياته التي قضّاها من منفى إلى منفى محتميا بالشعر الذي أعطاه كلّ شيء وأخلص له ..فكان ردّ الشعر بأجمل وأروع القصائد التي ستبقى من علامات الشعر الفلسطيني والعربي والعالمي.
” طفتُ المدائنَ : بعضهمْ قذفَ القصائدَ
من عيونِ الشعرِ ،
يرثي والدي
والآخرونَ تنكروا : ( اذهبْ وربّكَ قاتلا )
وكأنّهم ما مرّغوا
تلك الذقون
على فُتاتِ موائدي
“والله لا يذهب مُلكي باطلا”
وبكى حصاني ، فارتميتُ من التَعَبْ
وسمعتُ والينا يقولُ وعينُهُ فيها القذى :
” لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى ”
حتى تُقالَ على مسامعهِ الخُطَبْ
وافاه الأجل المحتوم في العاصمة الأردنية عَمان يوم 5 أفريل 2021 ، وكان مرض الكوفيد 19 سبب الوفاة ..، رحل المناصرة عن عمر ناهز 74 عاما ..، الله يرحمه ويتغمده بواسع المغفرة .. ، الله خالق الجمال والرقة والإباء ..يُكرمه مثلما أحبّ فلسطين وناضل من أجلها ..ونتركه مع هذه السطور الشعرية الخالدة :
” جفرا، الوطنُ المَسْبيّْ
الزهرةُ، والطلْقةُ، والعاصفةُ الحمراءْ
جفرا – إنْ ﻟﻢ يعرفْ، مَنْ ﻟﻢ يعرفْ
غابةُ بلّوطٍ ورفيفُ حمامٍ… وقصائٔدُ للفقراءْ
جفرا – من ﻟﻢ يعشق جفرا
فليدفنْ هذا الرأسَ الأخضرَ ﻓﻲ الرَمْضاءْ
أوْ تحتَ السورْ
أرخيتُ سهامي،
قلتُ: سمائي واسعةٌ والقاتلُ محصورْ
منْ ﻟﻢ يخلع عينَ الغولِ الأصفرِ
” تبلعُهُ الصحراءْ