الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: أمكنة الكتابة الروائية بين التاريخ والتخييل

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

لماذا الارتحال من أجل الكتابة؟ هل هناك ضرورة؟ ألا يختصر ذلك مساحة التخييل؟ سؤال تكرر عند الكثير من القراء. أوقف سلسلة “شيء مني” مؤقتا للرد عن هذا السؤال المهم جدا.

يفرض موضوع أمكنة التخييل الروائي سيطرة كلية على موضوعة مبهمة ينِشأ في سياقها الفعل النقدي الذي يتوخى الاقتراب من هذه الإشكالية. المكان، ليس حالة ثابتة في المكان والزمان، ولكنه فعل متحرك في المكان والزمان. أريد أن أكتب عن قصر أو عن مساحة تاريخية، يحتاج الأمر في هذا أن أكون قريبا من التاريخ أولا، لا لإعادة إنتاج التاريخ. ليس من مهام الكاتب أن يكون مؤرخا ليكتب رواية تاريخية أو على تماس معها. فالأمر ليس مهما من هذ الناحية على الأقل. إعادة الإنتاج هي تثبيت شيء موجود في الأصل. لهذا تظل علاقة المكان بالتاريخ سطحية، القصد من ورائها براغماتية معرفية فقط، أي معرفة تاريخ المكان للسيطرة بجدية على موضوعة الكتابة لا أكثر، وهي مرحلة مهمة بل وضرورية، إذ لا ننشئ نصا من الفراغ. هو المادة الأولية الخام للكتابة الأدبية عموما، والروائية بالخصوص. يظل المهم في هذا السياق، العمل خارج فعل الاستعادة وخارج فعل السيطرة باتجاه المنجز الإبداعي. أي العمل على الفعل التخييلي، حيث يجيب الكاتب في سياق الفعل الإبداعي، كيف كان قريبا من التاريخ، وكيف كان بعيدا عنه أيضا. كيف جعل من المادة التاريخية، مساحة جديدة للتخييل التي ستغير ليس فقط الطوبوغرفيا الجغرافية للأمكنة لحظة المنجز الفني، ولكن روح المكان أيضا الذي سيخرج عن سياق أن يكون مجرد موضوعة تاريخية محكومة بشرطية الحقيقية. الحقيقة الإبداعية شيء آخر، فهي أولا نسبية، أي لا وجود لها عمليا إلا في السياق النصي الذي يتحكم فيها جوهريا، وإلا ما سميت الرواية رواية، ولكن تاريخا. وفي هذه الحالة علينا أن نجيب عن فكرة الأمكنة الذهنية التي سكنت بعض الروايات حتى أصبحت حقيقة موضوعية، مع أنه لا تاريخ فعلي لها ولا مرجعية، مثل رحلة ابن بطوطة الذي أسس فعله الإبداعي في عمق مدن أثبت التاريخ أنه لا وجود لها مطلقا، جاء بها الكاتب لحجة إبداعية إدهاشية وغرائبية أيضا، أو شيء قريب من هذا. منذ المدينة الفاضلة حتى مدينة أطلنتيد الغارقة (Atlantide)، ثم في الرواية لاحقا، كانت دائما هذه العلاقة مركزية، الحقيقي والتخييلي. نجد ذلك في محاورتي أفلاطون: تيمي وكريتياس (Timée et Critias ) اللتين ألفتا في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث يضع أفلاطون على لسان أستاذه سقراط هذه الفكرة، الذي بعد أن وصف مثالية مدينة أو جزيرة أطلنتيد، طرح سؤاله المعرفي الخطير أمام أتباعه، ويشغلنا حتى اليوم: هل مدينة مثل هذه وجدت حقيقة؟ بمعنى أبسيط أليس ذلك منجزا تخييليا ولو في بعض أجزائه؟ المكان يظهر ويغيب بحسب الموقع والحاجة. أطلنتيد وجدت في محاورات أفلاطون ولكن هي حقيقية؟ أليست جزءا من حاجيات أفلاطون المثالية لإظهار نموذجه للمدينة الفاضلة، وأن البشرية أوجدتها بجهودها ولا شيء مستحل. لم يتوقف الإنسان عن الحلم بمكان آخر، مكان مبدَع غير الذي يعيش فيه. أطلنتيد التي استوعبها روائيا الكاتب بيير بونوا الذي افترض وجودها في عمق الصحراء، في منطقة جبال الأهقار، أخرجها من عمق الصحراء وكأنها على شاكلة مدينة دبي اليوم. وصنع منها عالما مثاليا قبل اندثارها، ولا تهم التفاصيل التاريخية التي ذكرها أفلاطون وافترض فيها أطلنتيد جزيرة مثالية في نظامها، انتهت تحت الماء. قرية غابرييل غارسيا ماركيز ماكوندو في مائة عام من العزلة، قرية تخييلية، مكان افتراضي بامتياز، مع أن روح المكان تجوب في كولمبيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسباني. لقد فصل الباحث روبير كلانتون في مؤلفه الكبير والمهم: المدن الخيالية والمنشآت التخييلية في مسألة المكان في الفنون، عندما جعل من المدن الخيالية موضوعة بحثه الأساسية. حقيقة الإبداع التي لا تتحدد قيمتها وصدقيتها إلا داخل النص، لأن الناقد إذا أراد أن يبحث عن المقابلات المكانية في النص الإبداعي، لن يحصل على شيء مهم لأن النص في اللحظة التي يصبح فيها فعلا فنيا منجزا ينتقل من الحقيقة الموضوعية إلى الحقيقة الافتراضية التي تتحدد كقيمة مضافة داخل النص الإبداعي.
أمر الأمكنة يمس أيضا الشخصيات التاريخية التي تؤثث هذه الأمكنة. إلى أي مدي يحق للروائي أن يظل ملزما وملتزما بالمادة التاريخية؟ هل يحق له الخروج عنها لجعل الشخصية ابنة العصر الذي يعيشه الروائي؟ ما قيمة فعل روائي يقع في زمن لم يعد يهمنا إلا من باب الذاكرة. قد تكون هناك ثوابت تتعلق ببعض الحقائق التاريخية والصفات الجسمانية للشخصية كحقائق من الصعب تغييرها وفق المشيئة الإبداعية، لكنها في النهاية قليلة الأهمية. الإصرار على قيمته الحاسمة، يحول الروائي، في أحسن الأحوال، إلى كاتب سيَري أو مؤرخ، في المحصلة سيكون العمل فاشلا أدبيا وتاريخيا، لأنه وضع نفسه في مكان ليس له عمليا.
من هنا عملت على ثلاثة أعمال نموذجية، في تجربتي الروائية الشخصية، اختبرت فيها الأمكنة لا من باب تكرارها ولكن من باب فهمها قبل أن أحاول أن أكتب روايات وليس تاريخا.
للتاريخ مختصوه.
إيمان راسخ بالنسبة لي حتى ولو ارتديت قبعة المؤرخ كلما تعلق الأمر بالرواية التاريخية.
لكن لذلك سلسلة من المسبقات التي تجب الاستجابة لها بجدية وصرامة. المكان ليس فعلا ضافيا في الكتابة الروائية. ولا زوائد بالخصوص عندما يتعلق الأمر بالتاريخ. هل نعيد إنتاج المكان بتفاصيله؟ الأمكنة تغيرت اليوم حتى على المستوى المادي. نواجه عصرا يتغير بسرعة، والرواية جزء من هذه المتغيرات. يمكننا أن نقول منذ شاتوبريان في روايته المؤسسة “الشهداء” التي تستفيد من التاريخ الروماني القديم والمسيحية، وتعيد صراعاتها إلى الواجهة، أو رباعية طوماس مان: يوسف وإخوته التي استعاد فيها قصة سيدنا يوسف بكل تفاصيلها معتمدا على التخييل الذي يستعين في مادته التاريخية بالأديان أو سبارتاكوس لآرثر كوستلر 1938، أن الرواية التاريخية اعتمدت مادة تحتية مهمة بدون قدسية للأمكنة وأحيانا حتى للشخصيات التي ليست في النهاية إلا وسائط إبداعية لقول العصر بكل تفاصيله وأهواله وقسوته وافراحه أيضا.
للروائي مسؤولية كبيرة في منجزه الروائي بكل ما تعنيه كلمة كلمة مسؤولية، ولكن حريته لا يمكن حصرها حتى عندما يتعلق الأمر بالتاريخ.




سؤال آخر، مركزي ومهم، يواجهنا كلما تعلق الأمر بالرواية التاريخية. سؤال لا يمكن تفاديه. هل معرفة المساحات الميدانية بشكل ملموس من خلال زيارة الأمكنة، وتنفس خفايا الفضاءات، واعتماد المادة التاريخية، يفيدان الرواية التاريخية في مخيالها الذي يعتمد على الحقيقة، لا لتثبيتها، ولكن للدفع بها نحو مزيد من التخييل؟ بمعنى هل تشكل الحقيقة التاريخية الموضوعية ضرورة كتابية وإبداعية، إذا افترضنا أن هناك حقيقة تاريخية ثابتة، الأرضية الأساسية لتنشيط المتخيل بقوة أكثر، وعدم الاقتصار على الحقيقة التي تجعل من الكاتب مؤرخا فاشلا، لا هو بالأديب في أدواته الجمالية، ولا هو بالمؤرخ الذي يعتمد وسائط علمية لتفسير الظواهر. العلاقة بين الكاتب والمادة التاريخية تنبني بشكل مختلف وأكثر جدوى، من خلال فعل الحرية، وليس استرجاع التاريخ ولكن السيطرة على المساحات التاريخية التي تريد الرواية اختبارها وارتيادها أدبيا وتحويلها إلى مادة روائية. لا يمكن للروائي أن يتحرك في الفراغ ولكن داخل مساحة يعرفها جيدا، بل هو سيدها الذي يشعر بنبضها العميق أكثر من المؤرخ. منذ والتر سكوت، مرورا بألكسندر دوما إلى جرجي زيدان، ظلت الرواية التاريخية تشتغل في أفقها التاريخي الرومانسي المفترض. أي أن التاريخ هو فعل بشري أنجز سلفا وانتهى، وما علينا إلا الاستفادة منه بإدراجه تربويا في النص الروائي الذي يتحول إلى وسيط فني بين المادة التاريخية والقارئ المتلقي. لا وظيفة للنوع إلا خدمة نوع أخر هو التاريخ. الروائي الفرنسي، باتريك رامبو وهو يكتب ثلاثيته عن نابليون بونابارت (المعركة، كان الثلج يسقط، والغائب)، والروائي جلبير سينوي وهو يكتب سيرة علي بن سينا أو محمد علي، لا يختلفان كثيرا في نسف قدسية المادة التاريخية. التاريخ ليس مقصودا لذاته. فهو لا يتجاوز كونه مادة أولية. فقد كان الروائيان حرين إلى درجة كبيرة في منجزهما الروائي التاريخي. صحيح أنهما اعتمدا على مادة تاريخية فيها الكثير من الحقيقة، والتتبع السيري، لكن هذه الحقيقة ظلت نسبية جدا. باتريك رامبو يقول إنه لا توجد سيرة تاريخية بالمعنى المطلق والصافي ولكن توجد مادة أولية، للكاتب الحق، كل الحق في العمل عليها بحرية وتحريكها وفق عملية التخييل الحر. وإعادة تشكيلها بناء على الحاجة الإبداعية والأدبية. الذي يكتب عن نابليون ليس مشروطا بالبقاء في دائرة تاريخ الشخصية بشكل ضيق، إذ يستطيع ان يخلق الطبائع كما يشاء. ومع ذلك باتريك رامو الذي يشتغل على هاجس حرية الكاتب، من حقه طبعا أن يضع الحرية على راس الانشغالات في الرواية، وقد مارس ذلك بقوة وهو يكتب ثلاثيته عن نابليون. تحول نابليون الى مطية أدبية أكثر منه حقيقة موضوعية، لقراءة عصر قلق وخطير، بدأت بصعود الامبراطورية وانتهت بسقوطها. ليس التاريخ الثابت والمتفق عليه هو هاجس باتريك رامبو، ولكن التاريخ الذي يعيد الكاتب تركيبه بقوة من نسيجه النصي الذي لا يتنكر لا للأدب ولا للتاريخ في أفقه الشامل والعام الذي تخترقه الرواية بقوة. هو العامل الحاسم في العملية الإبداعية. الشيء نفسه حدث مع جيلبير سينوي وهو يتعامل مع المادة التاريخية العربية والإسلامية التي شكلت مركز اهتمامه في أغلب رواياته. فقد اختار في روايته: ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان، أحد أتباع الشيخ الرئيس، أبو عبيدة الجوزاني ليروي حياة ابن سينا الغنية بالهزات والصدمات والأفراح والخيبات. النص عبارة عن سيرة مروية وفق رؤية شخصية تاريخية وروائية اختارها الكاتب لتأدية الوظيفة الأدبية والتخييلية أيضا. كلاهما يؤكد أن العملية الإبداعية تحتاج إلى قدر واسع من الحرية، خارج الحسابات السياسوية والأيديولوجية التي تجير التاريخ للمصالح الصغيرة، وتقهر الإبداعية التي تشكل الحجر الأساس في عملية التشكيل الروائي. نجد الحرية نفسها متجلية بشكل واضح في ثلاثية جيلبير سينوي الأخيرة: نفَس الياسمين، صرخة الحجارة وأحياء القمر الخمسة، حيث يستعيد، وبشكل حر، تاريخ الشرق الأوسط برمته بثقافته الواسعة وحرائقه وحروبه، وانهياراته. لقد ولد فيه|، ويعرفه جيدا. لهذا انصبت كل كتابات سينوي على هذا التاريخ المتناقض والمتضارب الذي لامسه منذ الفترة الأندلسية حتى حروبه الحديثة وانكساراته التي أصبح فيها الشرق المفبرك، شرق سايكس بيكو، مصدر لعبة المصالح الدولية، ولم يعد مساحة للفرح.

لا غرابة في هذه الخيارات لأن الكاتب غير مجبر على إعادة المادة التاريخية وإن توفرت بشكل ملحوظ في الرواية التاريخية. للكاتب الحق كل الحق في أن يترك لخياله فسحة حقيقية للحرية، دون نسيان المؤثرات المباشرة. الارتباط بالمكان وبالمادة التاريخية قد يحرم النص الروائي من جوهره، كونه رواية وليس تاريخا. صحيح أن المادة التاريخية، وزيارة الأمكنة، والتشبع بها لتأثيث الرواية أكثر، مهمة جدا إذ يمكنها أن تدخِل الرواية في دوائر الأزمنة الماضية التي انتهت كوجود وبقيت رائحتها عالقة بالحيطان. فإذا كان تلمس المكان وتحسسه يحد من عملية التخييل، فالتعرف المباشر عليه يدفع بحواس الشم والبصر والسمع واللمس إلى الاستيقاظ بقوة والعمل بشكل جماعي لإشباع الرواية ببقايا التاريخ وعلاماته المتبقية. اشتغال كل الحواس باتجاه منجز روائي مميز، يدفع بالخيال الى مداه الكلي ويعطي للأشياء أشكال وملابس وحياة. الحواس يمكنها أن تفتح مساحات تعبيرية وتخييلية واسعة. لهذا يتعمق اليوم النقاش حول الرواية التاريخية، بوصفها مساحة جديدة لقول التاريخ وفق الخيارات الإبداعية والتخييلية التي تتحدد من خلالها المصائر البشرية في لحظة تاريخية محددة علينا ان نفهمها ونعيد تركيبها وفق مقتضيات الرواية إذ تتماهى الشخصيات التاريخية بالشخصيات المتخيلة روائيا، لكل واحدة دورها وحضورها، الذي يشكل اليوم مساحة مهمة لا يمكن الاستهانة بها مطلقا في هذا النوع من الكتابة الروائية الإشكالي جدا. ومهما كان حضور التاريخ في النص، لن تكون الرواية التاريخية تاريخا أبدا وإلا ستخسر الرواية تسميتها ومشروعها، وتتحول إلى نص فج يقول بشكل خطأ ما يقوله التاريخ بشكل أفضل.

Your Page Title