قال الفراهيدي ( 175) في العين : ( خَزنَ الشيء فلان يخزنه خزنا إذا أحرزه في خزانة ، واختزنته لنفسي ، خزانتي قلبي ، وخازني لساني ) ج4-209 . وقال ابن فارس (395) في معجم مقاييس اللغة: ( الخاء والزاي والنون أصل يدل على صيانة الشيء، يقال خزنت الدرهم وغيره خزنا، وخزنت السر ) مادة خزن:178.
ترتبط دلالات الخزن المعجمية بنوع المخزون وأهميته و تبقى في دائرة التمدن الحضاري بوصفه صورة من صور التحولات الكبرى في تاريخ البشرية بدءا من انسان الكهوف الى انسان الأقبية مرورا بإنسان الأبنية الشاهقة والمدن الممتدة على سواحل البترول ، فالخزن محاولة للحفاظ على أصل الأنواع مقاومة لإحداث العطب والتلف ، وهو خزن يخفي المخزون عن الأنظار ويكسبه جانبا من الرمزية والقدسية ، ومن هنا يصبح المخزون مقاوِماً لهزات التاريخ الكبرى التي تشعل نيرانها في ذاكرة شعب ما يشكل المخزون هويته التاريخية والعقدية والدينية ، لهذا ارتبط احتفاظ المخزون دينيا بدلالات الجبرية تنزيلا وتأويلا ولو بعد حين ، على حين لا يرتبط فولكلوريا بدلالات الحفاظ ببقايا الغائبين وشواهدهم استذكارا لهم وتفجعا عليهم مما لحق بهم من صروف الدهر ونوائبه فحسب ، بل يشكل حياتهم ويصيغها ويبقيها مغروسة في رحمه ووعيه ؛لأنه ليس معطى تاريخيا بل ضرورة وجودهم وديمومة استمرارهم . من هنا تكتسب الخزانة بعدها الرمزي في تكوين المستوى الطبقي في المجتمع ، وتؤشر مديات الرقي الإنساني في أطواره ، وتصبح السياسات القمعية مهددة بانقراض صروح وجودها وزوال سلطانها ، لانها تسللت خارج وصايا المخزون المشبع بالسرية والخفاء والمتلفع بحكايات المهمشين التي تنسج وتحاك في ظل غياب القدرة على التغيير والفعل الثوري ،والشعور بقسوة الاضطهاد الاقتصادي والقهر الاجتماعي وبشكل أو بآخر ولسبب أو لأكثر تعمل السلطة على احتواء المخزون وإفراغه من محتواه التاريخي والدلالي ، ثم مع التطور يصبح بالإمكان تحويل مسار المعنى الى مركز الهيمنة ، ولنا في التراث شواهد ووقائع على إحراق الكتب وتخزينها على حد سواء ، وأصبحت الخزانة مؤسسة تديرها السلطة بكل تجلياتها الدينية والسياسية ، ويصبح مكان وجودها في قلب الصراع الديني والتنابز السياسي ، وفي مركز العواصم الكبرى التي أنتجت التاريخ وأسهمت في تكوينه ، لعل أقربها الى الأذهان تاريخيا خزانة الاستانة ، وحملات المستشرقين والرحالة الأجانب والقساوسة والحاخامات ومشاهير رجال السلطة، ولكن كيف يفكر الأديب بمصير الخزانة وكيف يتجول في رواقها الطويل ؟، كيف يشعر نجيب محفوظ الروائي العربي الكبير بنفسه وهو يتأمل عوالمها السرية والمغلقة ، وكيف يقع مهووسا بالكتاب الذي وجد فيه عالمه الأولى والأخير، العالم الذي يمنح حياته صدقا ويكسب سيرته معنى، فهو في سنواته الأولى من تكوينه الثقافي شغوف بمتابعة ما صدر حديثا وقديما ، فهل فكر محفوظ يوما وهو يتجول في أزقة العباسية أو الجمالية في ان يكون خزانة ، وكيف يكون شعوره بنشوة ان يكون مكتبة متنقلة تحملها عربات الخيول ، ليعيد رسم حارات القاهرة ونوافذ بيوتها وأبواب محالها واسطبلات مقاهيها من جديد، فنجيب محفوظ واحد من هؤلاء الأدباء الذين استطاعوا ان يحققوا حضورهم بشكل لافت ، ويشغلوا مكانا واسعا في تاريخنا العربي والثقافي ، فهل يمكن لنا أن نعد سر ظهور نجيب محفوظ وانتشاره بقوة عصرا من عصور النجومية العربية التي ظهر فيها نجوم كبار في حقول المعرفة والثقافة ؟.
هل يمكن ان تتحول عشرات الدراسات والمقالات الصحفية والدوريات الكبرى بمعظم لغات العالم الحية ، والكتب والدراسات النقدية، وسلسلة الاطاريح ، والرسائل الجامعية في الجامعات العربية والعالمية على اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها الفكرية و مناحيها الفلسفية، ومقارباتها المنهجية حول نجيب محفوظ وأدبه وسيرته، أقول هل تتحول هذه الى خزانة كبرى لنجيب محفوظ لا بالمعنى الرسمي للكلمة فحسب ، بل بالمعنى المعرفي؛ لان عوالم محفوظ الروائية تحمل من التلغيز الشفيف والسرية ما يشكل سمة بارزة في أدبه ، وما اشترك به المترجم محمد عناني مع الناقد ماهر فريد لا يشكل الا جزءاً بسيطا من الكتابة النقدية ، ولعل ميزة ما نشراه مقالة ادوارد سعيد المعنونة بـ “قسوة الذاكرة ” ، وقد سبق ان نشرتها مجلة الموقف الثقافي العراقية في تسعينيات القرن الماضي ، وشعرت مجلة العربي الكويتية بأهمية رؤية سعيد عن نجيب فنشرت مقالته مترجمة ان محفوظ يعمل على خزن معناه بستائر وأغطية لا على نحو التعمية والإبهام الذي يدلل على عقم التجربة بل على نحو الخيال الخلاق الذي يعيد قراءة الواقع بشكل مغاير ، من هنا يمكن ان نصف عوالمه بخزانة الأدب الحديث ، أو بتعبير يدل على سَمْتِه وسِمَته بـ” الخزانة المحفوظية ” .
ولعل هذا الوصف يقودنا الى التفكير بصياغته وجدوى محتواه الثقافي في سياق التحولات التي عصفت ببنية المجتمع العربي الذي عاش على الآمال والأهداف الكبرى ، وبسياق التجربة المحفوظية وتحولاتها على الرغم من عدم وجود مساحة شاسعة بين تلك التحولات من الرومانسية الى التاريخية مرورا بالواقعية والرمزية ، والعودة مرة أخرى للتاريخ برؤية مختلفة كما في ليالي إلف ليلة ورحلة ابن فطومة . فالتحولات في التجربة خاضعة لنمط المعالجة القصصية والرؤية الفنية ، ومن هنا يمكن ان نتلمس أثرا لثلاثيته في مراحل تالية ، وهو ميسم وسمت به أعماله، الا اللهم ما يقال بصدد تجربته القصصية و استعاراته الدينية التي تبدو في بعض الأحيان تلخيصا روائيا؟؟ ، ولعل في هذا ما يقودنا للنظر الى المحاولة العصية على الإمساك بصورة محفوظ وتحولاتها
هل يمكن لنا ان نقرر هكذا سلفا ان رحلة الرواية العربية بصحبة قافلة نجيب محفوظ تبدأ مسيرة أخرى وتتخذ لها طريقا مختلفا على اختلاف تحولات التجربة المحفوظية ونضوج الوعي الفني بمعمار البناء وحساسية الرؤية للواقع تمثلا وانعكاسا ، هل يمكن ان نجعل محفوظا مركزا لاستدارة فن القص العربي الحديث في المنتصف الثاني من القرن العشرين على طول رحلته الشاقة ومسيرته المتعثرة ، وما الذي يمكن لنا ان نجنيه بعد ذلك من ثمار نضجت تحت أفياء شجرته المباركة وسقتها يداه ؟، دعونا نشتط قليلا لنستحضر صورة الرجل القابع خلف نظارته ، الرجل الذي يتجول مع صحيفته صباحا ويحتسي الشاي في المقاهي ويتمشى في الأسواق ، يصفه رجاء النقاش في كتابه ” في حب نجيب محفوظ ” قائلا :- ” يمشي على قدميه منذ نصف قرن خمسة كيلو مترات كل يوم .. ولم يغير هذه العادة في أي يوم من الأيام ” ، وللوصف دلالات تقترن بزمن كتابته التي جاءت بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل أكتوبر 1988 ، تتجلى بإبراز حساسيته العالية في المثابرة والمواصلة، و إصغائه الى أعماق ذاته بهدوء .
ترى هل يمكن ان نكتشف تاريخا آخر للرواية خارج ملاحم نجيب محفوظ وانتصاراته وهزائمه معا .
تلك هي العقدة التي راح ضحيتها كثير من الأدباء، عقدة الشعور بالهيمنة والانسحاق تحت إمبراطوريته الممتدة من الخليج الى المحيط رواية وسينما ، والوقوع في دائرة عالمه الروائي ، ثم ألم يعترف هؤلاء بعجزهم عن الخروج عليها ، ألم يتحدث جمال الغيطاني ويوسف القعيد مثلا عن خروجهما من عباءة الأب دون الخروج على عصاه ؟ ، ثم ألا يؤشر لنا هذا الاعتراف من هذين الكاتبين على الرغم من اختلافهما في الاتجاه والرؤية الفنية والسياسية مدى انتسابها الى تقاليد مدرسية، وكأنهم أرادوا أن يبتعدوا عن سرب الخراط، ومجيد طوبيا، وخيري شلبي، وخيري عبد الجواد؛ لكي لا يلحقهم أحد بالتجريبية الشكلية ، وهل نستطيع مع محسن جاسم الموسوي ان نتحدث بكل غموض عن تجارب روائية لأجيال ما بعد نجيب محفوظ كما في كتابه ” انفراط العقد المقدس الرواية العربية بعد نجيب محفوظ ” ، ونعمل على إشاعته بعد أن تلقف هذا التقسيم الناقد و المترجم الأردني فخري صالح ليضع لنا كتابه المقالي تحت عنوان ” قبل نجيب محفوظ وبعده ” من دون ان نتلمس حقيقة حد هذا التقسيم وأثره الفعلي، أ لان نجيب محفوظ ليس صورة نمطية ؟ كما يخالها النقاد العجالى ، ولم يكن وجها واحدا أبدا ، ولا بد ان ننتبه الى هذه الحقيقة ؛ لان ما يقال عن رواية ما قبل محفوظ لا تتحقق مع محفوظ الثلاثية وليس مع رادوبيس أو عبث الأقدار ، وما يقال عن رواية ما بعد نجيب محفوظ ليس صحيحا؛ لان هناك نماذج هزيلة فنيا كتبها محفوظ منها عصر الحب ، وحب تحت المطر ، أي انها لا تشكل محورا يمكن ان يكون حدا فاصلا للما بعد وللما قبل ، والى جنب ذلك ينبغي التقليل من موضة السردية باتجاهاتها ولو على مضض لحين ما يتم اكتمالها في مشهدها، وإلا سيتحول محفوظ في ضوء هذه الرؤية الى هيكل عظمي ؟ . ترى من يستطيع ان يقرأ في عيون إبطاله الحالمين والمهزومين والمصابين بالدوار الثقافي والمأزق النفسي ، كلهم جميعا بلا استثناء، من يستطيع ان يقرأ في عيونهم عيونه ، ويلحظ هذا التخفي وراء أقنعة الشخصيات دون ان يرمى باشتطاط التأويل أو زيغ البصر أو في أحسن الأحوال الاقتراب للوجه دون ان يلمح قفاه ، انه عالم يشيده ببساطة لامتناهية ويعقده بعمق ثري على حد سواء ، وهذا ما جعل تجربة محفوظ ثرية على مستوى الأداة الفنية و سعة في أفق الرؤية للعالم وعصية على القراءة الأحادية ، وثراؤها يستقطب القراءات والشروح والتفسيرات المتعددة والمحتملة التي لا مرجوحية لأحدها على الإطلاق ، انها تبقى قراءة على نص ، و تلاوة لطرس لا تمنع من الوقوف على أركانه مرة أخرى .ومن هنا أدرك محمود أمين العالم لغز التجربة فسمى كتابه” تأملات في عالم نجيب محفوظ “، هو تأملات في عالم فسيح ومترامي الأطراف، وهذا ما قاد الدكتور عبد المحسن طه بدر للوقوف على الرؤية والأداة معا في تجربة محفوظ وملاحقتهما في سياق تطور التجربة الفنية والبحث عن جذورها الأولى وروافدها التي غذتها بالخصب والجفاف والطراوة والعمق، مستبعدا القراءات القسرية التي حاولت ان تلج التجربة من خارج حدودها وتفرض رؤى وتصورات مسبقة على النص المحفوظي، ومحفوظ في كل ذلك وجه جاد في النقد الأدبي والدراسات الأدبية، ولكن هل نلمح له وجوها بصيغ أخرى ، فما ملامح وجهه في صحافة الأمس واليوم ؟.
ترى هل يمكن ان نؤرشف لصحافة محفوظ؟ ، وبصيغة أخرى هل يمكن ان نتلمس حجم النقد الصحفي على اختلاف توجهاته وطرائق مقاربته حول نجيب محفوظ ؟؟، وكم ستساعدنا صورة محفوظ في الصحافة العربية لفهمها واستيعاب مضامينها ، ترى ماذا لو قام أحد فناني الكاريكتير لرسم صورة محفوظ ونشرها وإذاعتها ، حتما ستكون هناك مئات الصور تقرأ جوانب من سحنة محفوظ الخلقية وتبرز الدلالات النفسية والسياسية في ملامح معبرة ، دعونا نتصور هكذا صورة لمحفوظ يبدو فيها رأسه صغيرا على حين تبدو نظارته كبيرة جدا ، ترى ماذا يعني كل هذا ؟؟؟ ، أو دعونا نتصور سوية صورة لمحفوظ يرتدي فيها ملابس نادي الزمالك الرياضي، الا يغضب عليه جمهور الأهلي بكل اختلافهم العقدي والإيديولوجي؛ ليثيروا سخطهم عليه ، ترى كيف يمكن لنا ان نقرأ صورة محفوظ الكاريكترية وهي تكشف عن التدهور الثقافي والانكسار العربي في أبهى عصوره الفضية ؟ ، في الوقت الذي يجب ان نلاحظ فيه ان كل هذه الصور وغيرها هي لأصحابها رؤية وتعبيرا وليست بالضرورة تعبيرا عن محفوظ !!!، ثم بعد ذلك كله نكتشف ان تلك الصور لمصوريها ، وبها، وح ملامح وجهه الخارجي لهم من دون ان يشعروا أنهم يصورون محفوظا من أعماقه المظلمة ؟ ترى هل وقع محفوظ أسيرا للعبة النجومية التي حظي بها، وهل نالت من أصالة تجربته ؟ ، هل شعر بنشوتها الى الحد الذي كان عليه ان يتجاوزها ؟؟ أم أرقته وعملت على تعذيبه ؟؟ ، لربما قد تكون الأسئلة ساذجة غير ان الإجابة في غاية الخطورة لاسيما إذا عرفنا حجم الوعي الذي تركه محفوظ في جيل من الشباب العربي والجامعي في خمسينيات القرن الماضي وازدياد وعيه ونضوج رؤيته ،كل هذا نستطيع ان نقرنه بما احتفظت به ذاكرة شبابنا اليوم من صورة شاحبة وغبش في الرؤية الى حد الجهل به ، ترى كيف ينهار فجأة نجم بكل المعاني الثقافية ويتلاشى في ذهن شبابنا الى الحد الذي لا يعرف ، ولا اعرف مقدار المأساة ان ضممنا إليه طائفة من النخب الثقافية التي تحولت الى نجوم كبرى في جميع الفنون والمعارف ، فالقائمة تطول وذاكرة جيلنا اليوم تمحو ، لا أقول هذا الكلام بصدد الانتصار للقديم بلهجة أكلوني البراغيث أو الحنين الى ماض لا يعود ، بقدر ما أحاول ان أفسر عبر تناثر الأسئلة حجم ذاكرة جيلنا الان وما يحفظ لمحفوظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من صور ومواقف .
ان ما كتب عن محفوظ وحوله متعدد ولا يمكن حصره ، إذ انه يشكل مكتبة في الأدب العربي الحديث ونقده ، ويمكن لنا ان نضيف تعبير لويس عوض في هذا الصدد الذي اسماه بـ” المكتبة المحفوظية ” ، فقد تعددت دور النشر والمطبوعات حول الظاهرة المحفوظية نقدا ودراسة ، على الرغم من اننا لا نطمئن لما يعرف بظاهرة محفوظ كتوصيف نقدي راج واشتهر بفعل الماكنة الإعلامية والأقلام الصحفية والملفات الدورية والاماسي الاحتفائية في معظم العواصم العالمية الكبرى من موسكو الى برلين ، ومن لندن الى باريس ، وجوه تتعدد لمسمى واحد شغل الساسة والاقتصاديين ، واختلف حوله اليمين واليسار بكل التناقضات الحادة التي عاشها العقل العربي بصيغته النخبوية وبتجلياته الشعبية .
اختلف حوله كثيرا وبعضهم من عده خارجا على نظم القبيلة حتى تعرض لحادث اغتيال في مساء يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994وللتاريخ دلالة تقترن بتغير المشهد السياسي العربي برمته بعد الحروب التي خاضها في مشرقه، يظل محفوظ محتفظا بمساء ذلك اليوم ويتذكر دائما ولا اعرف حجم المأساة التي عاشها مفكرا ومقلبا ببصره لهذا الجيل ، نراه يتذكر ذلك الحادث في مقالة له تحت عنوان ” رحابة حلم ” في أكتوبر 2006 قائلا :” الرجلان اللذان هاجماني كانا ينفذان فتوى تبيح دمي بسبب إعادة إصدار إحدى رواياتي التي كانت صدرت عام 1959 ، وهي أولاد حارتنا … والشيء المفجع انه خلال محاكمة الجانين اتضح إنهما لم يقرأا الرواية”
يني المتطرف الذي يعيد الى الأذهان صورة التحول الأولى وبواكيره الواضحة في التنازع والاقتتال التي عصفت بالمجتمع العربي في ظل سياسات التجهيل والخراب التعليمي ، والتدهور الاقتصادي فضلا عن تردي أنماط علاقة العالم العربي بمحيطه الإقليمي والدولي ، من لحظات الحلم على ظهور دبابات الثورة الى لحظة الغثيان على سلم أوركسترا الهزيمة و النكسة .
مع محفوظ وعوالمه نستطيع ان نقرأ تاريخنا القريب ، فعلى الرغم من معمار البناء الفني ودقة إحكامه من عدمه الا انه استطاع ان يقدم نماذج روائية يتفحص من خلالها خلل التركيب في نسيج المجتمع المصري من البلطجية والفتوات و المثقفين وأنصاف المثقفين بأوهام أحلامهم ،و مع محفوظ يمكن ان نقرأ تاريخ الموظف في الدوائر الحكومية العربية ولحظات صعوده الكبرى على أشلاء الآخرين نماذج مهمة من الطبائع البشرية ، سالم الإخشيدي في القاهرة الجديدة و سرحان البحيري في ميرامار و عيسى الدباغ في السمان والخريف ، وغيرهم .
في كتابه دراسات في النقد والأدب يصف لويس عوض المغامرة النقدية حول نجيب محفوظ وأدبه بقوله : ” ما عرفت كاتبا من الكتاب ظل مغمورا مغبونا مهملا عامة حياته دون سبب معلوم ، ثم تفتحت أمامه كل سبل المجد دفعة واحدة في السنوات الخمس الأخيرة دون سبب معلوم أيضا مثل نجيب محفوظ وما عرفت كاتبا رضي عنه القديم والحديث ومن هم بين بين ، مثل نجيب محفوظ ، فنجيب محفوظ قد غدا في بلادنا مؤسسة أدبية أو فنية مستقرة ، تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التي تقرأ عنها ولعلك لا تعرف ما يجري بداخلها ، وهي مع ذلك قائمة وشامخة ، وربما جاء السياح ، أو جيء بهم ، ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة ، والأغرب من هذا ان هذه المؤسسة التي هي نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التي تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب ، بل مؤسسة شعبية أيضا يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار في القهوة وفي البيت وفي نوادي المتأدبين البسطاء ”
في ضوء هذا التصور النقدي الذي يدرك أهمية محفوظ في المشهد الثقافي هل يمكن ان نستنتج ما يمكن ان نؤسس عليه لاحقا في إضاءة عتمة ما لحق بمحفوظ من وضوح وبيان للوهلة الأولى التي أشاعتها الكتابات المتعجلة التي لحقت به وتابعته منذ بواكير كتاباته النقدية لاسيما من كورس النقاد الذين أشاعوا مفاهيم نقدية البرجوازية الصغير والصراع الطبقي ورواية الأجيال والرواية النفسية وعقدة أوديب في طريق محفوظ وثرثرته .مع محفوظ نبدأ تاريخا للقص العربي الحديث وننشغل بتأويله طويلا على حين يبقى محفوظ راقدا في سرير منفاه الأخير ، أترى ثمة مفارقة في الأمر تستدعي النظر والتأمل ، ولا بد لنا ان لا نأخذ آراءه الانطباعية في ما كتب عنه ، نراه يقول لجورج طرابيشي في صدد كتابه ” الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية :” بصراحة اعترف لك بصدق بصيرتك ، وقوة استدلالك ، ولك ان تنشر عني بان تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو اصدق التفاسير بالمناسبة لمؤلفها ” ، لا يمكن ان نأخذ برأيه على الرغم من وجاهته وصحته من عدمه ، لا لأننا سنظل محكومين بإرادة المؤلف وسطوته ، بل لأننا سنقصر المعنى المحفوظي ونغلق مدار دلالته المفتوحة التي تستدعيها ثراء التجربة والقراءة معا .هل نحن وقعنا في مقالنا هذا في متاهة البحث عن وجوه محفوظ المتعددة في النقد الأدبي والثقافي ، وهل لنا في هذا الوقوع ما يبرره منطقيا على الأقل في نصوص محفوظ القصصية والروائية ، في مجموعته الموسومة بـ” دنيا الله ” نقرأ قصة لمحفوظ تحت عنوان : زعبلاوي ” ويقول على لسان احد أبطالها : ” على اني أجد زعبلاوي ” ، وإذا قرأنا التجانس الصوتي بين زعبلاوي دنيا الله وجبلاوي أولاد حارتنا يتبين لنا المعطى الرمزي والديني في موروث محفوظ الأدبي ، ويكشف لنا موضوع البحث عن الغائب في مرحلة من مراحل نجيب محفوظ الروائية الرمزية التي تجلت في رواياته ” صابر الرحيمي في الطريق ، وسعيد مهران في اللص والكلاب وغيراها ، اما مجاميع النقاد لابد ان يخضعوا في قراءاتهم للمعطيات التاريخية والاجتماعية الراهنة لهذا نجيب في النقد الأدبي قبل الثورة ليس نجيبا في صورته بعد الثورة ، بوصفها مفصلا تاريخيا يحرك الرؤية ويعمق الإحساس بحالة ما وتفرض أثاره على البيئة والفرد والمجتمع . ومن هنا ما نجده من تناقض في الآراء النقدية حول أدبه لا يمكن ان يخضع لجانب واحد ولا يمكن ان نصفه بمصفوفات التناقص فرواية ”بداية ونهاية” بين منظوري عبدا لقادر القط و عبد المحسن طه بدر مختلفة فالقط يعدها من روائع محفوظ على حين يراها طه بدر رواية مهزوزة الأركان ، وقس ذلك على نتاجه من منظورات مختلفة على الرغم من وحدة التكوين الثقافي العام الذي أسسته الثقافة المصرية والتلاقح المعرفي بدءا من عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم وغالي شكري وعبد المحسن طه بدر . وقد أشيع ان ما كثر القول فيه لا ينبغي الرجوع إليه بحثا وتقصياً ، وتلك واحدة من الأوهام ، أوهام السبق والاكتشاف!! ، ولم ينس الباحثون ان هذا الشيوع يستدعي إعادة نظر وإعادة قراءة.
يفصلنا عن محفوظ قبر وماض ، وتقربنا منه ظواهر اجتماعيّة ومتغيرات سياسية نعيش على تخومها و أوجاعها، العودة إليه الان ضرورية في إعادة السؤال والكشف عن الإجابات المعلقة! .
_________________________________________
حسن مجّاد
ناقد وأكاديمي – العراق