مدن قليلة هي التي تستعصي على جغرافيتها أتقنتُ منها القاهرة وبغداد وبيروت ونساء أخريات.. وفي بغداد تنهض كل تماثيل المدينة مبكرا لتغتسل بما يرشه عليها حليب الغيم ثم تترك قواعدها الحجرية وتسير في طرقات المدينة المملوءة بالصبح.
بغداد تتأهب ليوم جديد تجتاز فيه خرائطها المعتادة إلى حيث لا تحدها الجغرافيا.. وتحديدا يكون الامتداد عميقا في الروح لا شرقا ولا غربا حيث توقظ بغداد كل الصباحات الكامنة في النفس .. حيث يمكن للأرض أن تتنفس أعمق.. شوارع بغداد أيضا تتمرد على منظومة خطوط الطول والعرض .. مقاهي بغداد أيضا ومحلاتها.. أما الناس فيشي حزن صامت بأن صباحا كهذا لابد فيه من تذكر أيام مضت لم تكن لغة الانفجارات قد تفتحت أبجديتها بعد وصارت اللغة الرسمية للشوارع.. شعراء بغداد أيضا لهم نصيب من تلك الصباحات حيث تقطفهم لغة غضة حادة عصيّة طيعة في آن وهم أيضا يقطفون من ملامح الوجوه عناوين قصائدهم.. حتى ذلك الشاعر البعيد عن مدينته ما يزال في عزلته المضيئة يقف في شرفة قصيدة عراقية كتبها ذات يوم ويتأمل صباحا بغداديا يعشقه.
بغداد ظهرا..
مقهى الشهبندر يتسع حتى يضم أطراف المدينة إليه..
منذ الصباح وهو ينتظر المتعبين من البحث عن الكتب في شارع المتنبي وها هم يعبرون إلى مجرته سماء من دخان الأراجيل وفضاء من نحاس صواني الشاي..
الصور التي على الجدران نزلت لتشارك الجالسين الحديث في حديثهم حول خبر ما في صحيفة أو أغنية لحنها ما يزال غضا ووسط الثرثرات العذبة ورشفات الشاي يتذكر كل جالس شهيدا نسي نصف ضحكة على باب المقهى قبل أن تبترها شظايا انفجار أعمى ضرب عاصمة الحياة اليوم ولكن الشهداء أيضا يعودون من موتهم ليجربوا مرة أخرى طعم الدخان أو ليكملوا ضحكاتهم التي تركت على باب المقهى.
البائعون في الشورجة أطلقوا العنان لبضائعهم لتتجول على الأرصفة كما تشاء ..إن البضائع هنا هي من يختار مشتريها وليس العكس ورغم الزحام الخانق والسيطرات المتعددة يجد عاشقان فرصة للتجول في سوق قديمة أو بجوار مسجد تهدم أكثره وربما يقفان عند بائع الأسطوانات لشراء أغنية ثلاثينية كانت تتردد على شفاه عاشقين مثلهما.
بغداد ليلا..
أكثر من سبب يجعلك تسير بلا هدف في الكرَّادة ذهابا ومجيئا.. ثم تيمم شطر شارع السعدون منه إلى شارع أبي نواس الذي يحرس دجلة من أبابيل النحاس.. الحدائق هنا تتنفس إيقاع المياه وتلتبس الذكريات بحفيف أوراق الأشجار ..حتى الكراسيّ المتناثرة هنا وهناك تتذكر العابرين من إيقاع خطواتهم وتدعوهم لاستراحة قصيرة في صحبة الماء.. إذا كنت مثلي فحتما ستتذكر صورة والدك المعلقة على حائط قديم في بيت العائلة ووراءه تصطف أشجار الحدائق في دجلة وكأنها أشجار مائية رأت هذا المصري وحيدا فوقفت لتحتفي به وتلتقط معه بعض الصور لتظلَّ إحدى هذه الصور أيقونة في مخيلة الصبي الذي سيكون شاعرا فيما بعد ويظل يحلم بمدينة بعيدة بها نهر له أشجار تصطف دائما في جوار الغرباء لتهش على قلوبهم ما تعلق من أحزان الغربة.
حوار مع تمثال المتنبي
ها هو ذا يقف شامخا في نهاية الشارع الذي يحمل اسمه والذي أصبح مزارا للمثقفين وأصبحت الكتب هي العُملة الرسمية المتداولة فيه.. في نهاية ذلك الشارع وتحديدا عند التقاء دجلة بآخر بائعي الكتب يقف سيد الشعراء شامخا رافعا يمناه لتشير إلى سماء بعيدة أو ليقطف نجمة أخرى ويدسها بين أوراقه..
أشرت له من بعيد متهيبا فأومأ لي راضيا فتقدمت..
كان عليّ أن أسند ما بيدي من أحمال الكتب على قاعدته الحجرية حتى أستطيع مصافحته ولم يمهلني إلا قليلا ثم سألني..
– ماذا ستنشد غدا في الجامعة المستنصرية ؟
فأجبت: ما ستسمعه إن جئت أو سيبلغك إن لم تأتِ
– بل أسمعني الآن فلم أعد أحب أن تتبعني شوارع بغداد كلما ذهبت أو جئت
– حسنا.. سأقول عن بغداد
– من حقها عليك.. ما مطلعها؟
– (هوذا..وأزهره النبيُّ.. ونيلُه)
– أتيت مُحتشدا بكل هؤلاء؟
– ألستُ في حضرة بغداد؟
– أكمل..
– (صدق العراقُ فإنني تأويلُه)
– يعجبني التأويل
– (هي ذي ملامحُه يبوح فراته
هي ذي مآذنه يسرُّ نخيلُه)
– جميل أن تقرن الملامح بالماء والمآذن بالنخيل
– (مشت الطباق السبع تحرسُ صوته
ويئنُّ من وقعِ الرؤى جبريلُه)
– البيت جميل ولكن أما كنت تستطيع أن تقول مثلي “ذراني والفلاة بلا دليل”
– لو كنت في زمنك لقلتُ.
– حسنا ولكن ألم تذكرني في القصيدة؟
– أنت تعلم أنني قد فعلت
– هاتِ إذن
– ( من باب سيدنا الحسين إلى هنا
و(ابن الحسين) على الدروب دليلُه )
– ما زدت على أن جعلتني دليلا لك
– بل جعلتك إماما
– لولا ذكر سيدنا الحسين في البيت ما رضيت.. أكمل
– لا
– ولم؟
– لن ترضى
– بل قل
– (يتجادلان على الطريق كلاهما
هذا القصيدُ الفذ من سيقولُه)
– لشد ما طمحت نفسك
– أتجيز لي قراءتها
– أنشدها فسوف تحبها بغداد
– ألن تقول لي ما يقوله عادة القدماء في مثل هذه المواقف
– وما هو ؟
– ألن تقول لي “اذهب فأنت أشعر العرب”
– أما وأنا حي أرزق فلا..
– حسنا سأنتظرك غدا في المستنصرية.. وأعلم أنك ستأتي.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC