أثير- د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
في ظل تحولات اقتصادية كبيرة تشهدها سلطنة عمان سواء ما يتعلق منها بتوجه السياسات الوطنية ومن خلال رؤية عمان 2040 إلى تعزيز الاستدامة الاقتصادية والتنويع في مصادر الدخل وإيجاد فرص أوسع لنهوض الاقتصادات الواعدة في مجالات النفط والغاز والهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة والبدء بتنفيذ سياسات وبرامج تحقيق الحياد الصفري الكربوني، والتوسع في الصناعات التحويلية، وزيادة الخيارات والأنشطة الاقتصادية التي تعمل فيها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، في إطار التوسع في الصناعات التحويلية.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من ضرورة توجيه قطاع التعليم والتدريب ومن خلال تمكين وبناء القدرات العمانية في إتقان لغة اقتصاد المستقبل، وإدارة ملامحه بما يطرحه اليوم من أولوية ادخال معالجات جادة على منظومة التعليم الوطني بمختلف مستوياته، وإحداث تحولات جذرية في مسارات التعليم بما يتناغم مع متطلبات سوق العمل الوطني من جهة، ويعمل على تعزيز كفاءة سوق العمل ورفده بالمخرجات الوطنية من حملة الدبلوم العام للعمل في القطاع الخاص.
إن كون لغة الاقتصاد لغة حالمة لا تتوقف عند مسار محدد بل تتسم بالمزيد من الحركة والمرونة والتجديد نتيجة لتغير الحالة الاقتصادية، تضع التعليم أمام مسؤولية تصحيح أوضاعه وضبط تفاعلاته وتمهين مناهجه وأدواته وترقية أساليبه وإلهام مدخلاته بالكفايات والمهارات وان تمتلك مؤسساته التشغيلية الأدوات الراقية والثقافة الواعية والأساليب الرصينة والأدوات المحكمة، ويستفيد في تشخيص واقعه والحدس بمستقبله من استطلاعات الرأي والمسوحات التشخصية والتحليلية والمؤشرات ؛ ويمتلك الحدس بالتوقعات الحاصلة في سوق العمل حتى يصنع منه محطة قوة للتغيير .
ومن منطلق أن ما النسبة الأكبر من المشتغلين في سوق العمل وتحديدا في المصانع والشركات هم من ذوي الأيدي الوطنية الماهرة والتي تتطلب التركيز على المهارة والتجربة والممارسة المهنية، باعتبارها مرتكزات أساسية لتعزيز كفاءة الايدي الوطنية، وان يسلك التعليم مسالك هنية واضحة المعالم، محددة الأهداف ، معلومة الأطر للوصول على تعليم منتج قادر على صناعة الفارق في الأداء ، بحيث يثمثل ما وجه إليه جلالة السلطان المعظم في خطاباته السامية حول التعليم وسوق العمل والمواءمة والتنويع الاقتصادي والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وحوكمة الشركات، طريقه لخلق المواءمة بين نمط التعليم والتغييرات التي يجب أن يعمل عليها في سبيل استيعاب التجدد والتنوع والمهنية في لغة الاقتصاد.
وبالتالي ضمان الوصول إلى مسار اقتصادي ناجح يستوعب التغييرات الحاصلة ويتفاعل مع المستجدات والتحولات القادمة ويصنع حضورا له في فقه المواطن وسلوكه ويكون جزءا من مبادراته ومشروعاته يستدعي وجود نظام تعليمي ديناميكي ومرن قادر على التكيف مع المعطيات ، يتسم بمزيد من الأريحية والتناغم والتكامل، وتبنى علاقاته وشراكاته على مزيد من التخطيط والتكامل والاندماج وتقاسم المسؤوليات واستشعار الجميع بأن عليه أن يحقق الطموحات الوطنية.
إن نقل التعليم من البيروقراطية والتفكير الأحادي والتلقين وتكريس الاهتمام بالكتب الدراسة واشغال وقت الطالب بالواجبات البيتية والتكاليف السطحية وحالة الانفصال التي تعيشها الخطة الدراسية مع مسار المواءمة وإدماج المفاهيم المهنية والاقتصادية والتجارية والتسويقية وريادة الأعمال وبناء وإدارة المشاريع الاحترافية وتكوين الشركات الطلابية واستراتيجيات الاستثمار وتوفير مادة تعليمة عملية تستوعب مفاهيم التحفيز والتسويق الالكتروني والابتكار واستدامة المشاريع الاقتصادية وتعريض الطالب في مناهج التعليم إلى قضايا الاستثمار والاحتكار والإفلاس والإجراءات ودراسات الجدوى وغيرها كثير؛ محطات مهمة يجب أن يكون لها حضورها المهني في مناهج التعليم وبرامجه وأنشطته في مختلف الحلقات والصفوف الدراسية.
وتبقى الإشارة إلى أن الإعلاء من المسار الاقتصادي وتعزيز حضوره بشكل واسع في التعليم لا يلغي دور التعليم في الحفاظ على الهوية الوطنية والثوابت وصناعة أبجديات المواطنة؛ بل يصنع له أدوارا أكثر اتساعا واعمق اثرا، الأمر الذي يتطلب تغيير في مسارات التعليم وأنماطه وطرائقه والياته وأساليب عمله مع التركيز على مسار ات التنويع والمهارات والمواءمة والتدريب وتعميق دور القطاع الخاص في انتاج سلوك الطالب المهني ونقل الاستثمار من الأبراج إلى المصانع الامر الذي سيكون له حضوره في استيعاب الكفاءة العمانية وتقليل الهدر الناتج عن ارتفاع اعداد الباحثين عن عمل والمسرحين وارتفاع اعداد الايدي الوافدة وإدخال المساقات المهنية والمهارات الحياتية والبرامج التطبيقية في الخطط الدراسية لمختلف الصفوف وفق مسار واضح وتدرج يمنح الطالب حس الاهتمام وتوظيف نواتج التعلم في مواقفه، و خلق مزيد من المواءمة وتأطيرها مهنيا في استشراف نوعية المهام المهنية القادمة التي يتطلبها سوق العمل الوطني الأمر الذي يوجه الخطط الدراسية في التعليم الأساسي وما بعد الأساسي والعالي إلى التركيز نحو التعليم المهني والتقني.
عليه تضع التحولات الاقتصادية التعليم اليوم أمام إعادة تقييم مسار الممارسة التعليمية ومدى تحقيق الأولويات الوطنية ومستهدفات التعليم في رؤية عمان 2040، وبما يضمن إعادة تجويدها وتجديدها وضبطها وتقليل الفاقد التعليمي والهدر الناتج عن اتساع مشتتات التعليم المضيعة للوقت والجهد، وبالتالي الانتقال بالتعليم من التنظير إلى التطبيق، ونقل المدارس والكليات والجامعات إلى كونها منصات مصغرة للممارسة المهنية الواعية القادرة على ترك بصمة واضحة في الواقع، فمع التدريب المتخصص الذي تقوم به مؤسسات القطاع الخاص والشركات ، تقوم مؤسسات التعليم بصناعة النماذج العملية في بيئات التعليم والتعلم لإنتاج رأسمال بشري اجتماعي عالي الجودة.
أخير فإن من شأن هذه المراجعات التي تطال هيكلة التعليم وسياساته وبرامجه وأولوياته ، أن تضع الممارسة التعليمية في المدارس والجامعات أمام مسار جاد من التشخيص والتحليل والضبط والتقنين والرقابة، لضمان عدم انفصال الممارسة عن المستهدفات، أو السلوك القائم عن واقع التحولات الاقتصادية بل جزءا اصيلا منها، الأمر الذي سيكون له أثره في تأطير مسار المواءمة والاندماج بين التعليم والاقتصاد وتجسيدها في واقع تعلم الطلبة، وهنا تتأكد أولية تفعيل مفهوم ريادة الاعمال والمهارات الحياتية في بيئات التعليم والتوسع في الفعاليات الممنهجة التي تعكس الاهتمام بالجانب الاقتصادي والاستثماري والتقني والفني، وبما يسهم في خلق فرص اكبر لتنشئة وصناعة المستثمرين الصغار من الطلبة والطالبات من خلال الابتكارات والاختراعات الطلابية وتنشيط الشركات الطلابية والورش العملية والمعارض وغيرها، مع التأكيد على أهمية التكامل والتوأمة العملية بين المدارس والجامعات ومؤسسات القطاع الخاص والشركات في تحقيق لغة اقتصادية متوازنة تعمل على تنشيط مهارات المتعلم وصقلها وتجديدها، كما تحافظ على قيمه وأخلاقه ومبادئه واستنطاقها لصناعة استحقاقات أكبر للمهارة المنتجة في حياة المتعلم ومواقفه.