بسبب…وجود بعض التجمعات البشرية على رقعة جغرافية، أو لارتباطهم بتاريخ ما، أو انحدارهم من عروق متشابهة، أو التصاقهم بلغة معينة، أو ميراثهم لتركة دينية/مذهبية (أو لغيرها من الأسباب الرثة التي تحيك حبالها التنشئة والتوجيه) بل حتى بسبب من الشعور بالنقص والإقصاء، أو حتى التفوق والسلطة…تقوم تلك التجمعات بحشر نفسها في أقفاص تسميها: انتماءات، والانتماء في صميمه هو امتلاك وتملك متبادل بين الفرد والمكان ومؤثراتهما، بمعنى: أنت تملك المكان فيمتلكك بما فيه). ثم تصاب تلك التجمعات بحالة توهم تدعى الهوية، تحبس فيها (ما تظنه) ملامحها الثقافية الخاصة، وتعمل على إبرازها في تجليات شكلية (كتصميم المباني والملابس وسواها)، كما تكرسها في الخطاب الإعلامي، مخدومة بدفع الساسة لعجلتها وركض العامة وراء تسارعها، مربوطة بالشخصية، والعادات، والأصالة، والقيم، وغيرها من الإبهامات والخدع التي تستخدم لتزيين تلك الأقفاص (أقفاص الانتماء) من الداخل لتبدو أكثر راحة ورحابة.. وما يغذي ذلك الوهم كذلك، زاوية النظر التي تُركِّز فيها تلك الكتلة البشرية على مفاصل التمايز والاختلاف بينها وبين الآخر، في حين لو ثبتت النظر على أعمدة الاتفاق والتشابه لأبصرت انسجاما وتجانسا يكسر مفاصل الاختلاف ويذيب الفوارق.. والحقيقة (كما أراها): إن الفروقات بين البشر تُشكِّل دوائر متقاطعة، يبرز في محيط كل دائرة خصائص قد تنفصل وتتصل مع الدوائر الأخرى، ولا وجود لدائرة بمعزل عن الأخرى، وإن كثيرا من الأشخاص المحسوبين ضمن دائرة ما هم أبعد ما يكون عنها وأقرب إلى فلك دائرة تناسب دوران أفكارهم وأحلامهم، لتنشأ بذلك دوائر داخل الدوائر، مذهبية وحزبية وعائلية.. دوائر الانتماء إذن تتداخل وتتوسع حتى تضمها دائرة الانتماء الإنساني، فهي دائرة شمولية لا تصنع هويتها من العوارض الثقافية والاجتماعية والتاريخية بل تستمدَّها من كينونتها الوجودية، فالجذر البشري واحد في أصله التكويني المتطوِّر، والمشاعر الإنسانية مشتركة، حُبَّا وخوفا وحزنا وفرحا..، كما أن المصير الوجودي واحد في تلف الجسد وفنائه.. ننتهي بذلك إلى أنَّ هذه الدائرة الإنسانية هي المرجع الوحيد الصافي الذي يجمع الجنس البشري في هويَّة حقيقية واحدة، وما سوى ذلك فهو أباطيل ووهم…
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC