الجزء الأول
المال (9/1)
1 –
خمسة وثلاثون عاما مضت وعيناه لا تكفان النظر إلى صورة قديمة بالأبيض والأسود تُظهر شابين في مقتبل العمر يرتديان أسمالا بالية, وبيد كل واحد منهما حقيبة مُهْتَرِئة الأطراف ومنبعجة الشكل أقرب إلى الصرة منها إلى شيء آخر.
طوال النصف الأول من سنين تلك الفترة، ظل ينقل الصورة من جدار غرفة نوم إلى أخرى كلما انتقل إلى منزل أفضل عن الذي قبله.. بدءاً من جدار الطين في أول غرفة سكنها بحارة “اللبانات” إلى أن استقرت في نهاية المطاف على جدار غرفة نومه في بيت أشبه بقصـر في حي الشاطئ.. أرقى أحياء المدينة.
***
تشي خطوط الهم وهالات السُّهَاد بحياة ضنك بدأت في وقت مبكر من حياته؛ حيث حفر صهيد الجبال وملح البحر والشمس الحارقة أخاديد غائرة على وجهه.. حملها معه من قريته مع فقره ولم تفارقه.
فارق أباه الحياة في حادثة غرق، فوجد نفسه، ولم يتجاوز عمره العشرين، يرزح تحت عبء إعالة أم نهشتها الأمراض وقسوة حياة زوجية شحيحة لم تذق خلالها غير طعم العوز ومرارة الحاجة، وأخ وأخت أصبح بالنسبة لهما أباً قبل أوانه، ومصدر رزقهم الوحيد قارب صيد متهالك وشباك عبثت بها قوارض البحر!
حاول بمساعدة أخيه الصغير اقتفاء خطوات أبيهما. رفعا شراع قاربهما على صارية مائلة. رميا شبكة الصيد في أكثر من مكان، لكن ما كان يقع في عيونها من أسماك لا يُعوِّض ما يبذلاه من جهد وتعب.
وعلى غرار غيرهما من رجال الأطراف والمناطق البعيدة؛ قررا التخلص من براثن العوز والبحث عن رزق خارج قريتهما. كانت الأخبار التي تصل من العاصمة في رسائل بعض أبناء القرية تقول أن الحياة في المدينة الكبيرة ترف وراحة؛ فالوظائف الحكومية مجزية، وفرص الأعمال الخاصة متوفرة والسوق حضن واسع.. يستوعب الجميع!
باعا القارب واحتفظا بصاريته.. نصباها وسط فناء منزلهما ـ كعادة كل من يغادر القرية ـ تميمة وعهداً تُذكِّر من سيأتي بعده من ذريته بالجهة التي تمضي فيها الدرب إلى كَمَنْزار*.
تركا قريتهما وأمهما وأختهما وقبر أبيهما، وسافرا إلى العاصمة يحملُ كل منهما بيده صرته، وآمالا عراضا بدأت بقضم الفتات.
قررا الخروج من مستنقع الفقر بعد أن ضاق بهما الحال؛ فهما وإن لم يولدا وفي فم كل منهما ملعقة من ذهب، إلا أنهما يتمتعان بروح المغامرة والعزم على خلع رداء الفاقة عن ظهريهما ليعيشا كما يعيش الأثرياء، ويخلفا أولاداً ينعمون بطفولة هانئة وحياة رغدة تعويضا عن كل ما عانيا وحُرما منه.
***
فتحا، بما تبقى لديهما من ثمن القارب، محلاً متواضعاً لبيع مواد البناء في مبنى على الشارع العام بمنطقة جديدة على طرف المدينة. ولم يمضِ طويل من الوقت حتى عرفا دهاليز السوق وأزقتها.. الضيق منها والواسع، وأسرار التجارة لاسيما العقارات والمقاولات، فاتقنا كيف تُجرى الصفقات ومن أين تؤكل كتف المال. وفي غضون بضع سنوات تحول المحل إلى شركة متنوعة الأنشطة.. احتلت طابقا كاملاً في بناية حديثة بالحي التجاري.
أظهر الأخ الأصغر قدرة وموهبة في فن العلاقات العامة، وأساليب المديح والتملق؛ فكان يقف مع هذا المسئول في عزاء ويخدم ذلك الثري في فرح، وأبدى استعداداً لا يُضاهى في تلبية رغباتهم.. بعيداً عن الأعين المتطفلة والفاحصة والأفواه المُشـرَّعة دوماً على النميمة!
كان مغامراً ومندفعاً، لا تعوزه الجرأة.. قولاً وفعلاً. وبمرور الأيام أخذ يرفع من مستويات المستفيدين من خدمات الشـركة؛ فكسب ودِّ أقطاب المال وبعض من بيدهم سلطة قرار، وعرف كيف تُوزع العوائد وتقسم الغنائم، وتمنح الوعود وتخصص العقود، وأصبح، بذكائه الحاد وحضوره القوي، “جوكراً” لا يستـعصي عليه باب.
ومثلما ارتفع مستوى زبائن الشركة من أصحاب المال وصنَّاع القرار، توسعت مجالات خدماتها، وفي غضون بضع سنوات أصبحت شركة “حيم” تضم مجموعة من الشركات تنوعت الأنشطة التجارية التي تزاولها بين المقاولات والخدمات العامة والعقارات ووكالات الأجهزة الدقيقة.. وسواها كثر!
ـ 2 ـ
عزز الأخوان علاقاتهما القائمة وأضافا إلى قائمة معارفهما آخرين أكثر نفوذا من كبار التجار وأهل السلطة بدعوتهم لحضور مجلسهما الأسبوعي، الذي أطلقَا عليه اسم “سبلة الأربعاء”. وسرعان ما ذاعت سمعة مجلسهما؛ فكثر رواده والمترددون عليه.
ولمنع المتطفلين والمغرضين ومن غير المرغوب فيهم، عُين شرطيان متقاعدان يقفان على بوابة سور “الفلا” زودا بقائمة أسماء من يُسمح لهم بالدخول.
يتمتع بعض رواد المجلس بـ”النعمتين”: وظيفة عامة، وأعمال خاصة.. لا يقل تأثير الثانية وقوة نفوذها في سوق المال والأعمال عن نفوذ ومسؤولية المنصب الذي يشغله الواحد منهم، ويديرهما من مكان واحد، حيث يولد الخاص من رحم العام ويترعرع تحت عباءته، فلا تضارب بين مسؤولية الوظيفة ومصلحة التجارة، وكل ذلك في سَنَنهم مشروع!
وإن اختلفت انتماءات مرتادي المجلس وتباينت ولاءاتهم، إلا أن المال يوحدهم والمصالح التجارية تجمعهم، كما أن علاقاتهم الشخصية لا تحول دون ظهور خلافات بينهم، وإن كان حضور هذه الخلافات والأطماع باهتا وبعيدا عن أعين وسمع الغرباء.
يتحرك هؤلاء ويناورون تحت ظل أكثر من مظلة، وثمة صراع خفي وتنافس محموم يجري في الخفاء وخلف الكواليس بين مريدي هذا ومؤيدي ذلك وفق قواعد غير مكتوبة ولكنها معروفة، وأعراف متفق عليها، ومناطق امتياز محددة!
وإن تضاربت مصالحهم واختلفت، فإن المنافسة هنا ليست بين ضدين: الخير والشر، والقوي والضعيف، أو الغني والفقير، وإنما بين قوى متكافئة النفوذ والإمكانات يحركها الطمع ويغذيها الجشع ويوحدها الهدف المشترك في وجه كل من يهدد الامتيازات التي يتمتعون بها وتَحُول دون مساءلتهم.
***
تتفاوت درجة انغماسهم في الفساد الإداري والمالي. بينهم تجار يحتكرون بيع المواد الغذائية، ويدعون بفجاجة منقطعة النظير أن ما تشهده البلد من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية الأخرى، إنما هو نتيجة للأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم.. عذر أقبح من ذنب!
يخفون حقيقتهم خلف أقنعة مزيفة.. يدعي بعضهم الطهارة والاستقامة وهم غارقون في الفساد حتى الأعناق.. يظهرون التدين والورع ومخافة حساب يوم الآخرة، ويمارسون أشد أنواع العهر التجاري والفسوق.. يدفعون الزكاة، ويتصدقون على الفقراء، ويوزعون المعونات من أموال الربا واستغلال حاجة الناس، ويظنون ـ عبثاً ـ أنهم يطهرونه وهم يعلمون أن الزكاة طهارة والربا دنس، فكيف يجتمعان؟!
تبدو ملامح وجوههم لمن ينظر إليهم من بعيد هاشة باشة، ولكن سرعان ما تتضح حقيقة نظارة الوجوه عندما يقترب المرء منهم متفحصاً؛ فهي ليست سوى أقنعة أُحكم شَدِّها لإخفاء تجاعيد القلق وهالات السهاد.. خوفاً من فقد منصب أو ضياع مال أو انكشاف أمر لم يحسب له حساب!
يفوح من حديث بعضهم لبعضهم الآخر الرياء والتملق والكذب، وينافق الصغار منهم الكبار ويتذللون لهم من دون استحياء حتى ولو كانت كرامتهم في المحك.
***
لعل تسريب قرار خفض سعر العملة الوطنية مقابل العملة الأجنبية المرتبطة بها، قبل إعلانه رسميًّا، من قبل موظف يتولى منصبا تنفيذيًّا رفيعًا في أحد المصارف الوطنية الكبيرة، ومن مرتادي السبلة، كان نقطة تحول رئيسة في سيرهما الحثيث لكسب المال.
ولأن اللقمة أكبر من أن يبتلعها حلق واحد، وأخطر من أن يتحمل تبعاتها اسم لم يشتد عوده، لجأ عمي إلى أحد زبائن المجموعة، من رجال الصف الأول، ليتقاسم معه الربح مقابل، صـرف الشبهة عنه؛ فأصبح اسم “حيم” بين ليلة وضحاها في مصاف أثرياء البلد!
كالعادة، كان لا بد أن تُتَوَّج الثروة بالوجاهة؛ وبإيعاز خفي من قبل مدير العلاقات العامة بـمجموعة شركات حيم، أصبح الموظفون، والمتملقون، والمنافقون، والمطريون، يطلقون ـ تزلفا ـ لقب “الشيخ” على أبي وعمي.
لم يكن إشهار اللقب الجديد يحتاج لكثير من الوقت؛ فقد بدأت إعلانات الشـركة وتهانيها وتعازيها تظهر في الصحف يتصدرها لقب “الشيخ” أمام اسميهما، من دون الحاجة إلى تقديم عريضة موقعة من عدد من الناس يزكون فيها أحقية صاحب الطلب باللقب.
***
وحين ضاقت بهما السوق المحلية، وغدت أصغر من أن تتسع لطموحاتهما، التي أصبحت لا يحدها سقف، عبرا الحدود إلى الأسواق المجاورة، فعُرف اسم “حيم”، وتغلغل في أكثر من نشاط تجاري..
أهمها مشاريع البنية التحتية بمختلف أشكالها، بالإضافة إلى مراكز تجارية، وفنادق ووكالات وغيرها.
فتح المال للأسرة أبواب المجد والجاه على وسعها؛ فكان الناس يأتونا إلى بيتنا مهنئين بالعيد أو بسلامة الوصول، ويباركون لنا قدوم مولود وشفاء مريض، ويتجمع المحتاجين أمام بوابة الفله الخلفية انتظاراً لزكاة أو حسنة، أو طلب التوسط عند أحد المسئولين لتشغيل ابن أو الحصول على منحة دراسية.
***
خمسة وثلاثون عاماً مضت منذ أن جاء إلى العاصمة وبدأ مغامراتهما التجارية بفتح دكان لبيع مواد البناء في سوق، كالغابة، البقاء فيها للقوى؛ فطالت سطوتهما التجارية كل شيء بدءاً من بيع “الآيس كريم” إلى وسطاء في صفقات تجارية عالمية ضخمة تتجاوز قيمتها مئات الملايين من الدولارات، واسما تجاريا حافلا بالنجاحات التجارية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* “كَمَنْزار”. قرية خرافية.. قدَّها التاريخ من حجر بين جبلين أسودين شاهقين عملاقين يحجبان عنها أشعة الشمس معظم ساعات النهار، ويقفان منتصبين كحارسين خرافيين لا يتزحزحان من مكانيهما. نأت بنفسها بعيدا عن الحياة العصرية وضجيجها، وظلت تحتفظ بسحرها الكبير وأسرارها الكثيرة. “كَمَنْزار”جزء من الوطن تواطأ على تهميشها البعد والنسيان، فاختفىت خلف سلسلة جبال وعرة تحميها وتعزلها في آن.. صلتها الوحيدة بالعالم شاطئ رملي صغير لا يتجاوز طوله مائتي متر، وامتداد بحري بطول ساعة ونصف بواسطة قارب متوسط السرعة إلى أقرب مكان مأهول بالسكان تصله السيارات. وتمتد في اليابسة على طول وادٍ توزعت بيوت سكانها على ضَفَّتيه المنحدرتين لينتهي عند فتحة كهف واسعة قيل أن الجرأة خانت كل من حاول تخطيها إلى الداخل.. يتدفق من إحدى زوايا الفتحة ينبوع يصب مياهه في بركة واسعة. قرية لا تعرف الكهرباء ولا يُسمع للآلة فيها حس أو ضجيج.. قرية تشبه الحلم!
__________________________