برغم الفوضى .. و برغم السرد الممزق و المبعثرة أشلاءه في كل مكان ، و برغم زحام الألفاظ و الافتقار الى النسق الواضح ، هي بيروت … قصة تحكيها نوارس البحر و صخورها بوجهها الخارج عن الزمن ، الجامع لكل الأزمنة ..
اذاً فكل ما شكّل هذه الفوضى لا يُعد أصيلاً في قوس بيروت ذي الألوان المتعددة ، انما هي حالة عرضية أريدَ لها أن ترتدي ثياب الجوهر ..
كيف ؟
بيروت قلب الساحل الشامي ، تتقاطع في هذا القلب كل الشرايين الناسجة للمكوّن الشامي الكبير ، بكل تمظهراتها الثقافية و العقائدية و العرقية ، انها الكهف الأوسع .. الملاذ الأخير الحافظ لكل الحروف و المفردات التي تنسج الجملة الشامية الكبيرة ، بعد أن أطل شبح الظلام و الخراب على كل العواصم الشامية الأخرى ، فما بين عاصمة (تم بيعها) ، و أخرى تقضي في الأسر ستين عاما ، و أخيرة تُُقتل كل يوم .. وحدها بيروت ابنة الفينيق البكر ، تعلم أسرار التشظي من الرماد ..
ليس ذلك بالشيء الغريب ..
قبل قرابة 3000 عام ، غزا الآشوريون (و قد كانوا ينوون احتلال العالم بأسره) كافة العواصم الشامية الكبرى و قد سقطت الواحدة تلو الأخرى بسهولة و يسر ، وحده ذكاء اللبنانيين و شجاعتهم (و هم أصحاب البلد الأصغر في المنطقة) كسر الأنف الآشوري الرفيع ، و مرغ أحلامه في وحول اليأس ..
انه الذكاء و انها العبقرية .. هي نفسها التي خلقت الحرف الأول ، اللغة بمظهرها المجرد ، و الذاكرة التي توارثها البشر على مر العصور .
يدرك ذلك الاسرائيليون و يجهله العرب طبعا ، ألهذا نجد اسرائيل تلجأ للأعنف دائما و تنتقي الأبشع من بدائل ردود الفعل عندما يتعلق الأمر بلبنان ؟ في حين أنها تفضل الصمت اذا ما تعلق الأمر ببلد آخر ؟
رغم كون لبنان من أصغر البلدان العربية ، الا أنه يوازي الكثير من البلدان الكبيرة قوة و سطوة و يجتاز الكثير ، ألهذا ، و بعد ادراك الغرب لهذا الأمر اثر تجارب مريرة لمحاولات اسقاط لبنان بغزو خارجي مباشر ، لجأ الآن لاسقاطه من الداخل ؟ و اقتصر الخارج على دور الداعم المبشّر بعودة آلهة الدمار ؟
أين يأتي مصداق كل ذلك ؟
البحر و الجبل :
بيروت ، مجما تتداخل فيه جماليات الأشياء ، تتمازج و تتلاقح فيه ثقافة البحر بثقافة الجبل .. ثقافة البحر و مجتمعاته السابحة الى الآخر ، الراكبة سفينة البحث في محيط المجهول ، حيث يكون التحدي في ابتكار ملحٍ جديد للحياة ، حيث رائحة البحر تنشر ألواح التاريخ .. فمن هنا عبرت أحلام الاسكندر ، و من هنا مرت مقالع الصليبيين ، و هنا زرع فيثاغورس بذرة .. كبرت .. و أطلقت أغصانها الى اليونان الكبير ، و بسطت ظلالها على شرقي المتوسط ..
ثقافة الجبل حيث يختبئ السر خلف طلسم الثلوج ، يحرسه بردٌ يغني للناس ما قرأه من دواوين الربيع .. ثقافة الأزهار و كهنوت ألوانها المقدس .. و العاصي .. النهر الذي عصى قوانين بقية الأنهار و اختار لنفسه أن يسير بعكس اتجاهاتها .. النهر الذي اختار أن يكون فريداً ..
ما يسم المجتمع في بيروت هو الفرادة ، تنسجم مع مجالس الناس و سهراتهم الجماعية ، لكنها تحصّن وجود صاحبها (الفرد) و تحتفي بما له من كيان ، و هذا لا نجده في أغلب (أو كل) المجتمعات العربية الأخرى ذات العادات الجمعية ، و أقول عادات (لأنها لا ترقى لمستوى الثقافات) لا ترقى لمفهوم الثقافة ، بل على العكس .. فمالها من هشاشة و زيف يصنع منها فايروساً لا تداويه أمصال الثقافة ، فيبقى مضاداً لكل مشروع ثقافي نهضوي ، و بنفس الوقت .. متطفلاً على كواكب المثقفين .. فيكون اذاً وصف المشهد في بيروت (أفرادٌ مجتمعون) ، لا كبقية البلدان (جماعات منفردة) !
في المقهى ، يجلس رجل طاعن في السن حُفرت على تجاعيد وجهه ذكريات البحارة ، يجلس الى جانبه شاب لا يزال يحفظ أغاني الرعاة و زجلياتهم ، هناك يجلس (فادي) المقيم المغترب في أمريكا اللاتينية ، وهناك يجلس (حسن) المقيم في القارة السوداء ، صاحب المقهى مارونيّ وُلد ترعرع في احدى قرى الجنوب (ذي الطابع الشيعي) ، و له أخٌ يعيش الآن في الشمال (ذي الطابع السنّي) .. فهنا كل مشاهدات العالم تُختزل في نفخة تبغ .. و رشفة من فنجان ..
هم يُعدّون السمك باحتراف لا يقل عن احترافنا نحن في الكويت ، و يستطعمونه .. و يسيسون الخيول تماماً كأبعد أقوام الصحراء ، و يحتسون قهوتها ..
جميل و رائع و دافئ كل ما في بيروت .. حتى تداخل الأزقة السكنية مع بعضها ، الا أن مشيئة بعض الساسة أبت الا أن توقظ آلهة الفوضى .. الفوضى تخنق مطار بيروت الدولي (مطار الشهيد رفيق الحريري) ، تسير في الشوارع بين المركبات ، تحشر نفسها في مريء البنية التحتية المتهالكة ، كل شيء متوقف .. يتذمر ، و يلعن هذا العصر وهذا العالم .. لا لشيء ، سوى أن في هذا العالم ثمة من لا يريد لبنان سعيداً ، و لا بيروت بألوان !
لعل الحديث عن نهضة و استقرار و سلام في بيروت وفقاً للوضع الراهن في المنطقة يدخل في دائرة الكهانة ، في ظل كل ما يجري من دمار في المحيط القريب ، ما لم يحيّد لبنان الداخل عن لبنان الخارج ، و أقول ما لم يحيّد عن لبنان الخارج في سبيل واقعية أكبر ، و حتى لا نكون ممن يرسمون الحلول بألوان الحلم أو حتى الوهم ، فلا يمكن فصل لبنان (القلب) النابض عن بقية شرايين الشام الأخرى ، الا اذا أردنا لهذا القلب أن يكف عن نبضه !
فقدنا يوسف من قبل .. فهل يدرك العرب (الذين لم و لن يدركوا شيئا) ذلك ، قبل أن نصبح و قد فقدنا شقيقه الوحيد ؟!
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC