الالتزام و الاندغام في الهم الوطني العام ما يميز تجربة المبدع الذي أطل بقوة على المسرح الشعري العربي، واستطاع أن يوائم بفنية عالية بين علاقة المرسل بالمرسل إليه وما يجب أن يحتويه النص بينهما دون تجاهل للخصائص الهامة الأخرى التي يجب أن ينبني عليها النص الناجح كتناول الأشياء بذائقة فطرية والتخييل والمحاكاة واستحضار المرجعيات التي تمنح النص مفتاحية الولوج لدواخله واستكناه شوارده المخفية.
عنوان النص/ التجربة يمنح المتلقي الكثير ويحمل الكثير من شفراته وإحالاته وينظر اليه سلطة أعلى في اقتحام مملكته ليزودنا بالمتعة الأدبية ويحرك وجداننا – أساس تلقي النصوص وشرط تميزها.
توظيف الصورة الإبداعية وتوتر القصيدة وكثافتها ودراميتها وعدم ترهلها يأخذا إلينا ويحفر دواخلنا مضيئا أعماقنا المظلمة، دونما تكلف أو صنعة او إغراق في رمز يهرب إليه البعض تعويضا عن هشاشة المتن وفقر الخطاب وضبابية المضمون بعيدا عن التجريد الجاف الممل.
إني أرى شجرا
الميتون سيرجعون الى الحياة
في الكهف صوت دمي يناديهم
أفيقوا..
هذا دأب الشاعر،يدوزن نبضه في افتتاح قصائده.
مقطع محمّل بالرؤى والدلالات والتأويلات،يعرج بنفث روحه الى قضيته الأولى/الوطن الذي لم يلتفت في شعره لسواه.
ليس الطريق الى ضدها
الزمان الذي لا يضم الفقير إلى صدره خاسر…
حيث يحط الوطن نبضا في القلب وإحساسا بالأمن وملاذا من عاديات الزمان،فلا بد من تواجد التاريخ…
الطريق الى القلب ذات الطريق الذي
يتلوّى على ضحكات التلال
ليبتلع الصاعدين
ترى هل بنات شعيب يقدن الغريب إليه
أم الأرض تكمل دورتها
منذ (جالوت) …
ولئن تميز الشاعر بالنفس الطويل الذي يمور بهموم الوطن وقضاياه،فإن ميكانزمات الفن لم تغادر فنهن وها هو يوظف النزياح..
تراها كعش يمام
على غصن دمع…
ولا يغادره الحنين الموجع للبحار بين أمواج التاريخ.
السلام عليك(نبوخذا) يوم تغيب لسبع
ويوم تعود لتعدل ميزانها
سوف تنهض (بابل) من رحم النار…
والنواطير تنسج بالنار (حطينها).
دون أن ينسى بيئة الريف التي أفاض في تصويرها، بلغة مضمخة بعبق التراث، راسما باقتدار حنين العائد ولوعة المشتاق إلى وطن يسكنه ، ما انفك يلح على الوعي منه ملاذا يفر إليه..
وراع يسوق قطيعا من الماعز الجبلي
بساتين تين
دوال تعانق نبض التراب.
وتجثو خشوعا لزيتونها
في الطريق إليها…
وعيناك تعدو الى أفقها ولها
تحسّ الحياة تعود تعود إليك رويدا رويدا
كأن الحياة هنا بدأت نبضها
فاهبطوه
خفافا …ثقالا
لكم مجدكم ولها….
و يستمر ممسكا بوعيه الفني موظفا تقنية التدوير/ القفلة، منهيا قصيدته بما ابتداه بها..
كل ما بعث الله من رحمها
الطريق الى القدس
ليس الطريق الى ضدها.
لعبة اللغة والفن تظل في قصائد الشاعر محفة تحمل المتلقي الى فضاءاته البعيدة، وتلك الاجتراحات التصويرية التي حضرت في قصيدة”لنازفة في الأعالي”:
أصلي لنازفة في الأعالي
لطير كسير أصلي، لحالي
لسهم يشك البلاد ويمضي
الى ريشة في جناح السؤال…
ومن يقرؤون التراب رصيفا..
أصلّي ،لعلّي أعود كما عاد
”يوسف” من رحم في الزوال..
يطل التاريخ ويتجذر المكان /القدس، وهجا ينضح بالمعاني…
أصلي لصيف يجمّع في (زوره)
إذ أناخ الخريف السماء وحاصره بسموم الشمال…
أما القصيدة الأم التي منحت ديوان الشاعر عنوانها
إني أرى شجرا
الميتون سيرجعون الى الحياة
في الكهف صوت دمي يناديهم
أفيقوا..
إلى النبوءة وإرهاصات الماضي والاغتراف من بئر التاريخ،بتوظيف “زرقاء اليمامة”، حيث الصورة والمعنى والإيقاع
..قمر ضبابي
وذاكرة تضيق
والبحر يقطر من سلال التين في سقف المسافة بيننا..
وأنا الغريق
لا الريح تبسط كفها لأيائلي العطشى
ولا غيم صديق.
هل هو إحساس الضياع والوحدة ورثاء الذات/ الشعب/الوطن والقضية؟
من أول الصحراء
حتى صورتي في الماء
تكتمل المرايا والصفات…
لا شيء ينهض من سبات الوقت في جسدي سوى
زغب الظلام على الرفات.
ويحضر الأمل ،رغم عمق ونزف الجرح وإنسداد الرؤية
.. لكنني
من ضحكة نسي الزمان حصارها
أسرجت أشرعتي لتندمل الجراح..
فقد يكون الماء ليس الماء في دمع الفرات، ليظهر التناص مع التراث معمقا للدلالة ،فائضا بتكبير الصورة .
…من جثتي
سأفر ثانية
ليزرعني الغراب كما يليق..
يا سيد التاريخ
هل من طعنة أسميتني؟
هل كان ذئب الأرض يعلم أن قرباتي اليك منيتي
فتركتني للذئب يوم تركتني؟
وتعود اللازمة التي تلح على المتلقي بين كل مقطع وآخر..
“قمر ضبابي وذاكرة تضيق”
وتكتمل دائرة النبوءة واستطلاع ما يكتنف القادم..
النمل يطلق صرخة اختبئوا
وما درت النمال
مصير صرختها
أفتش كي أرى الأبد الذي ينسلّ من أيدي الرماة
تهتز من حولي الجبال
فكلما أشعلت في ليل الغراب حرائقي
ضحكت
كما ضحكت من الشجر البعيد
ومزقت لغتي الرمال.
قصيدة ( عنان) ، تلك التي تحتل مساحة في ديوان الشاعر الفحل صلاح أبو لاوي،”إني أرى شجرا” تستحق وقفة لمميزات كثيرة كالبناء المعماري الآسر والنزعة الدرامية و الغنائية ألأسيانة ..
و تدوير القصيدة والمؤثرات البصرية والسمعية ، وموسيقية القافية والمفارقة و عنصر الحركة :
” من كروم السنين ِ تدلـّى
وأيّار ُ ريحٌ تهزهز ُ حُصْرمَه ُ
فيميل ُ كما مالت الريحُ
ذات يسار ٍ
وذات اعتدال ْ
بالعصافير ِ كان يفكّر ُ
منْ حقّها أن تطير َ
وتنقر حبَّ السماء ِ
ومن حقّها أنْ تعودَ مساءً لأعشاشها”
والصراع والإخلاص للهم العام وتصوير دقائق الخلجات الإنسانية والتماسك المحكم لبناء النص ، والنفس الشعري الطويل والنضج الفني والفكري والعفوية والبساطة التي يكتسي بها النص ، غير أن ما يُلفت ذلك التقاطع الكبير بين هذا النص الذي نشر في ديوان الشاعر غنوزارة الثقافية الأردنية عام 2010 ن وبين قصيدة الشاعر “سميح القاسم” (سربية ) والمنشورة في عام 2012، مما يؤكد اسبقية نشر قصيدة صلاح ، وبالتالي إمكانية إطلاع القاسم عليها وإستفادته منها ، فلندقق ونقرأونستنطق الحروف ، يقول أبو لاوي :
كل شيء هنا واضح كالضباب
فللذئب فكرته في اقتناص الخطى
ولنا الريح والماء والسفن الصافنات
كل شيء تبدل
لا الشعر يهزم دبابة
لا يد الله فوق الجماعة
لاخطوط أمامية
لا الجرائد لا نشرات
كل شيء تبدل
اللسان وفاكهة الصيف والمفردات
كل شيء وبيروت أرملة الشهداء ….
وفي قصيدة “سميح القاسم نجد :
كُلُّ حَيٍّ يَموت
تارِكاً للحياة
بُضْعَةً. نُطْفَةً. شُحْنَةً. في بقايا الرُّفات
كُلُّ حَيٍّ يَموت
وتدومُ الحياة
في تفاصيل أشيائِها
وانتباهاتِ أحيائِها
لغموضِ الجهات
كُلُّ حَيٍّ يَموتُ.. ويحيا بنارِ الخلايا ونور السِّمات
وأموتُ لأحيا. وسوفَ أموتُ وأحيا. أموتُ وأحيا
لتكتملَ الدّورةُ الخالده
هكذا.. كُلُّ مَا تحملُ الأرضُ مِن كائنات.
الملفت أن الأمر مرعلى الوسط الأدبي بسلام ولم يقف النقد المنصف او المتابعة الدقيقة امام هذه الظاهرة التي بدات تمد اذرعها هنا وهناك.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC