ـ 1 ـ
حين خبرتُ الحياة ووعيتُ الحقيقة اكتشفتُ أن ضريبة الثراء باهظة الثمن، وأن سعة المال وراحة البال قَلَّما اجتمعا؛ فاتخذتُ لنفسـي موقفاً في الحياة.. قررت أن لا أدع المال يُشكِّل وجودي ويكتم صوتي؛ فأفقد القدرة على رفع رأسي وقول كلمتي! وكنت أخشى أن أجد نفسي كمن يُقاتل عدواً سلب منه إرادته وتركه في وضع لا يقوى على شيء كورقة يابسة في مهب الريح.
أزمعتُ أن أقف على مسافة بعيدة من محيطي الأسري والاجتماعي، فلا دَينٌ يُطَوِّق رقبتي ولا مال أقضـي جل سنوات شبابي في جمعه وأمضي ما تبقى لي من العمر خائفا على ضياعه، ولا خطيئة تؤرق مضجعي فلا أنامُ ملء جفنيّ.
كان من الصعب عليَّ تجاهل مغريات الثراء التي تشكل مفردات حياة أسرتي ومحيطي الاجتماعي، وعليه حددتُ لحياتي اليومية مساراً لا منافذ فيه تدفعني، أو بالأحرى تغريني، إلى الارتماء في حضن المال والاستسلام لسطوته.
كانت لا تفوتني سانحة إلا وأعلن على الملأ، بالقول حينا وبالفعل في أغلب الأحايين، رفضـي لأسلوب حياة أفراد عائلتي، وكنت أتجنب قدر استطاعتي الاختلاط بأبناء حي الشاطئ وبناته.
ثمة صراع ذاتي يمور داخلي، أخذ بمرور الأيام وزيادة الوعي وتراكم التجربة يشتد وطأة. فأنا أعيش حياة مزدوجة بين الموقف الذي اتخذته من المال برفضي له، ورغد العيش الطيب الواسع الذي ترعرعت فيه ومازلت.. صراع يدفعني إلى نبذ نفسـي ويزيد من شعوري بالمفارقة وحالة التناقض التي أحياها.
وطالما سألت نفسي: لِمَا أنا مختلف في موقفي من ترف المال؟ ولماذا لم أتطبع بميول المُرَّفهين من شباب حيّنا وأبناء الطبقة العليا من طبقات المجتمع؟ وأتساءل: “كيف سيكون موقفي لو أني ولدتُ من أسرة فقيرة، وذقت طعم العوز وذلّه منذ ولادتي، وتمرغت في التراب، وأكلتُ من فتات طعام الأغنياء وما يتصدقون به خيراً أم رياءً للناس؟! وهل سأغدو على خلاف ما أنا عليه الآن؟ وهل سأسعى إلى تغيير حالي مثلما فعل أبي وعمي؟ وهل سأخوض المستنقع نفسه؟!
***
أميل إلى الاختلاط بالأقل حظاً في الحياة, ألبس من الثياب ما يرتديه عامة الناس، وأركب سيارة تشكل حرجاً لعمي المهموم بالـ”برستيج” كلما دخلت الفلا أو خرجت منها، وأذهبُ إلى الأحياء الفقيرة والأسواق الشعبية.. أجالس مرتدي الثياب الرثة، ومن لا يحملون في جيوبهم هويات أو بطاقات عناوين تشير إلى انتمائهم العشائري ومستواهم الاجتماعي، واستدرج فيصل، الذي اتخذ من الجنون درعاً لإطلاق العنان للسانه، وأثير حفيظته لشـتم المسئولين الفاسدين والتجار المحتكرين مقابل ساندويتشة فلافل وقنينة شراب غازي باردة.
أحتفظ في محفظتي، إلى جانب صورة أمي، بصورة مربيتي وأمي بالرضاعة سلامة، التي كانت لي بمثابة أمي الثانية؛ فقد كانت أمي، ومازالت تعاني من اعتلال في الدم يتعذر عليها، إذا اشتدت نوباته العناية بي؛ فاستعانت بـ”سلامة” ـ شابة من أسرة متواضعة الحال ـ لإرضاعي، وحين اشتد مرضها؛ انتقلت أمي “سلامة” وطفلها “سنان”، الذي ولد قبلي ببضعة أسابيع، للإقامة في بيتنا.. لاسيما أن زوجها كان يعمل خارج البلاد. وأصبحت “سلامة”، إلى جانب العناية بي وتربيتي وبطفلها، تساعد أمي في انجاز بعض أمورها الخاصة.
بيد أن علاقتي بأمي سلامة لم تنته بتغيير مكان إقامتنا؛ فقد كانت تأتي إلى بيتنا في حي الشاطئ كلما احتاجت أمي لها. وكانت تصطحب معها أخي بالرضاعة “سنان” تلبية لطلبي، الذي بدأت بمناداته بـ”خوية” منذ أن عرفت ماذا تعني صلة الرضاعة، وسرى ذلك على ألسنة بعض أفراد الأسرة الصغار”.
***
كنت ومازلت أكنّ حباً وتقديراً كبيرين لأمي سلامة ولأخي بالرضاعة سنان، والذي توطدت علاقتي به خلال سنوات الدراسة الثانوية، فأصبح، إلى جانب أنه أخي الذي تقاسم معي حليب أمه، أعز أصدقائي، إلى درجة أن من كان لا يعرف طبيعة علاقتي به، يظن أنه حارسي الشخصـي. ولعل صلتي بساعد وعلاقتي به أتاحت لي الانفتاح على حياة سكان الجانب الآخر من المدينة؛ فتعرفتُ عن كثب كيف يعيش المعوزون، وبماذا يحلمون.
وطالما تجنبت كل ما يسـيء لهما بسبب تواضع مكانتهما الاجتماعية وحالتهما المادية؛ فعندما قرر عمي تعيين سائق خاص للعائلة، بعد أن زادت حاجة الأسرة لأكثر من سائق متفرغ بدل الاستعانة بسائقي المجموعة عند الطلب فاقترحت أمي حديد، والد ساعد؛ فـ”الأقربون أولى بالمعروف” حسب قولها.. لاسيما أن الرجل سائق محترف؛ فقد كان يعمل قائد سيارة نجدة في الخارج، ومن ثم في أكثر من مكان داخل البلد. اعترضتُ على اقتراح أمي، وأثنتْ زوجة عمي على اعتراضي، ولكل منا أسبابه؛ فقد عبرت أم تونس عن رفضها متبرمة: “ميكفي شيفت سلامه وولدها كل يوم في البيت“؛ فسحبتْ أمي اقتراحها، وقرر أبي التنازل عن سائق مكتبه الخاص “أشفق” لثقته فيه وكبر سنة. قلت لأمي، في وقت لاحق، ونحن وحيدين: “كيف لي أن أركب بصحبة “سنان” في المقعد الخلفي في سيارة يقودها والده: زوج أمي سلامة”؛ فسالت دمعة أمي، ودعت لي كعادتها: “الله يعطيك على قد نيتك”!
ـ 2 ـ
منذ أن كسـرت طوق الأسرة، وأعلنت عن تمردي بحثاً عن موقع لي لا يطاله المال، وأنا أختلف مع أبي جهراً حياناً وسراً في معظم الأحايين، وعلاقتي به، منذ نعومة أظافري، تراوح بين الجزرة والعصا. وكنتُ، كلما نظرت في المرآة ورأيت صورته تتضح أكثر فأكثر على وجهي، أصاب بالهلع رغم وسامة ملامحي التي ورثتها عنه.. خوفاً من أن أجد نفسـي يوماً أجلس على كرسيه!
وطالما قلت له وأنا أنظر في المرآة “أبي لا أريد مالك، ولست بحاجة إلى مكانتك الاجتماعية، فاتركني أعش الحياة التي اخترتها لنفسي”. كان يُريدني أن أكون نسخة منه في عصاميته ونجاحه التجاري مثلما وجهي شديد الشبه بوجهه، وأن أعيش حياتي بمشِيئَته لا بمشيئتي.. أسمع؛ فأطيع. يأمر؛ فأنفذ، ولا مجالا لإعترض أو نقاش. وهو لم يألُ جهدا على استدراجي إلى ربق الثراء وبريقه؛ ففي محاولة منه لثنيي عن رغبتي في مواصلة دراستي الجامعية في الخارج، أودع مبلغا في حسابي يكفي لإعاشتي طوال حياتي، بيد أن جاذبية رقم مدخراتي وإغراءاته لم تغير رأيي، بل زادتني إصرارا على التمسك بموقفي!
أما حين رفضتُ اقتراحه للالتحاق بإحدى الجامعات أو الكليات المحلية، وتفعيل دوري كعضو في مجلس إدارة المجموعة الذي لم أحضـر له اجتماعاً منذ أن رأيت اسمي ضمن قائمة أعضائه مع إعطائي وظيفة تنفيذية وتكليفي بمتابعة بعض مشاريع المجموعة، غضب ورمى في وجهي كثيرا من مفردات التهديد والوعيد.
وكعادته كلما احتدم النقاش بيننا في موضوع دراستي الجامعية أو أراد إجباري على الانصياع لإرادته، يؤكد بصوت عالٍ مستخف أن السوق لا تأبه للمتعلمين وحملة الشهادات قدر احترامها لأصحاب الكراسي والأعمال.
وقال ذات مرة يصف حملة الشهادات بالثرثرة والكسل:” كثيرو الكلام وقليلو الفعل يريدون كل شيء يأتي إليهم”، ولا يتردد في الإشارة إلى نفسه، فهو بالكاد يفك الخط وعلاقته بالقلم لا تتعدى رسم توقيعه على الشيكات وورق عقود الصفقات، وحقق كل هذه الثروة والنجاح في عالم التجارة من دون شهادة ولا دراسة. لقد حباه الله بذاكرة حديدية وذكاء فطري شديد يجيد إجراء عمليات حسابية معقدة من دون قلم ولا ورق.
_____________________________________________