تأسست علاقتنا وتشكلت منذ سنين الطفولة الأولى كأخوين، وعززتها “توأمة” اسمينا في عيون الآخرين. وإن لم نولد من بطن واحد ولا في يوم واحد، إلا أننا تربينا معاً كتوائم.
كنا معاً ونحن نكتشف العالم من حولنا، وننظر إلى الخارج بعين واحدة ومن الزاوية نفسها، وبفارق عام لا أكثر. وبمرور السنين أصبحنا نشبه بعضنا في تفاصيل كثيرة من عاداتنا وممارسة حياتنا اليومية: نحب مادة اللغة العربية ونكره الرياضيات، ولوننا المفضل لون الخزامى، ونحب البيتزا ذات العجينة الخفيفة و”المقرمشة”، وكباب الدجاج، وممثلنا المفضل “توم هنكس”، ونرقص رقصة سكان المقابر على إيقاع موسيقى مايكل جاكسون، ونحن نردد كلمات أغنيته “ثريلر” التي حفظناها عن ظهر قلب. ونتباهى أمام أصدقائنا في الحي وزملاء المدرسة، أننا “كَمَنْزاريون”، ونتحدث، كيفما اتفق، ببعض مفردات لغة “الكَمَنْزارة”.. تأكيداً لتميزنا ولخصوصية المكان الذي ننتمي إليه.
وحين شببنا عن الطوق قليلا، حملتُ على عاتقي مسؤولية ولي الأمر في غياب أبيها: أتابع دراستها، وأحرص على مرافقتها إلى المراكز التجارية، وإذا أرادت أن تذهب لزيارة صديقاتها كانت تستأذنني قبل أن تطلب الأذن من أمها.
وعلى الرغم من تباين الجنس، الذي أخذت مظاهره تزداد وضوحاً بوتيرة أسرع مع تقدم سنين عمرينا، لم أرَ في تونس يوما غير ما أراه في أختي الصغيرة “شيماء” ، ولم يكن اختلاف جنسها في نظري بشبهها بليلى بنت الجيران، التي طرحت ثمار الأنثى على صدرها قبل أن يحين موسم قطافها. كانت تونس “صديقاً”.. نتعارك بالألسن وأحيانا بالأيادي.. نتخاصم وحين نتصالح نعانق بعضنا، وإذا مشينا معاً نشبك أيادينا!
***
هكذا مضت سنواتنا الأولى وامتدت، ونمت علاقتنا وتوثَّقت من دون عهود أو وعود إلى أن تدخلت إرادة الكبار.. هواجسهم، مخاوفهم، وأطماعهم لاغتيال براءة الطفولة فينا، فبدأت وتيرة محاولات فصلنا عن بعض تزداد كلما تجاوزت علاقتنا الخط الفاصل بين جنسينا. وكانت أمها أشدهم حرصاً وأكثرهم اهتماماً بالأمر، وبمرور الأيام، واِقترابنا في السن من مرحلة البلوغ، ولم يتغير في علاقتنا شيء، بدأت نواقيس الخطر تقرع في رأسها وتفاقم قلقها.
لم أكن يوما على وفاق معها، ولا كانت علاقتي بها في أفضل حال.. لاسيما بعد ظهور زَغَب الولد على صدغي وبح صوتي. ولا أتذكر أنني تبادلتُ معها حديثاً ودياً كسائر أفراد الأسرة، وهي لا تكف عن وصفي بنعوت ما أنزل الله بها من سلطان. كنت في نظرها عاصياً ومتبطراً على النعمة. وكنتُ أرد عليها، كلما سمعتها ورأيتها تفتح فمها ناحيتي، بابتسامة تظهر عدم مبالاتي بها ولا بما تصفني به؛ وتستشيط غضباً وعصبية كلما تعمدتُ الجلوس في مواجهتها وغرس عينيّ في عينيها. ولعل علاقتي بتونس وتحريضي لها للتمرد على سلطتها ـ حسب ظنها ـ سبب موقفها مني.
وهي التي تعدُّ ابتسامة البنت عيباً وضحكتها خطيئة، أخذتْ تذكر ابنتها جهرا في حضوري وغيابي، أو تسكب في صوان أذنها خلف الأبواب المغلقة، سموم مخاوفها من خطورة التواجد معي في مكان واحد، وتحذرها حتى من مصافحتي؛ وتذكرها: “أصبح في سن المحرم عليك الاختلاط به شرعاً وعرفاً “. ولا تتورع في استحضار آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشـريفة لتأكيد “فتواها” وتزداد إيغالا فتُحرِّم وتحلل وتبشـر بالجنة وتحذر من النار!
وضعتنا تحت مجهر ظنونها.. لا يفوتها منا شيءٌ.. تحاصرنا عيناها في كل شاردة وواردة، وحين تعجز عن متابعتنا بنفسها، كانت تجند أحد أبنائها الصغار لتَقَفِّي أثَرَنا خاصة إذا اجتمعنا في صالة “الألعاب” في الدور تحت الأرضي؛ فنحن العروة التي عليها أن تبقي الشمل مجتمعا، أو الشـرارة التي ستشعل نار الفتنة.. وضعٌ لم يكن لنا خيار في صنع أسبابه، بيد أننا لم ندرك خطورة ذلك إلا بعد فوات الأوان.
وظلت تونس، حتى بعد أن توقفت عن دخول غرفتي تحت طائلة “ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما”، ظلت أختاً لا أكثر إلى أن فرقتنا رغبات وأهواء غيرنا ومصالحهم لتعيد تشكيل علاقتنا من جديد.
أرادا (أبوانا) تعزيز مكانتهما في سوق تحكمه شريعة “البقاء للأقوى” ولا مكان فيها للضعيف؛ فقررا تأسيس شراكة جديدة لخدمة مصالحهما التجارية ولحفظ المال في جيب الأسرة بموجب صك شرعي ووعد شَفَهي.. ظناً منهما أن ما أفسده المال سيصلحه البنون.
اتفقا على شروط العقد والوعد وعينُ كل واحد منهما على النصف الآخر من المُلك، وكنا، تونس وأنا وأختي الصغيرة شيماء وابن عمي “حيم”، ضحايا ذنب لم نقترفه أو كمن يُعاقب على خطيئة غيره!
***
جَفَّ حلقي عندما أبلغني أبي في حضور أمي بقرار تزويجي من تونس، فغص بكلماتي، وأنا أسمعه يضيف بصوت حازم لا يقبل نقاشا:
ـ اتفق معها على موعد الزفاف، وتفاصيل شهر العسل في غضون شهر فقط.
وسكت!
لملمتُ صوتي وحروف كلماتي المبعثرة، وأبديت اعتراضي بصـرخة وأنا أكرر التعبير نفسه عمداً وبلهجة مُستنكِّرة:
ـ من الخضراء*؟!هذي اختي فكيف تكون زوجتي؟!”.
وكأنه سدَّ الهواء عن أذنيه ولم يسمع شيئا مما قلت، ظل أبي يعيد على مِسْمَعي ويذكرني، وهو ينظر في عينيِّ، أن النصيب الأكبر من الثروة سيؤول في نهاية المطاف لي ولأبنائي من بعدي إذا تزوجت تونس.
وأسكتني قبل أن أفتح فمي، فقال مستخفا:
ـ كفاك هبل ودروشة، شوف مصلحتك يا خبل.
وردَّ بصوت شديد، بعد أن سمعني أكرر رفضي لقراره، وقد اتسعتْ عيناه إلى آخر مدى وتجهم وجهه، وأخذ رذاذ زبد فمه يتطاير من بين شفتيه:
ـ مبسمح شقانا وتعبنا يروح لحد غير عيالنا
وأضاف كمن يصدر أمراً عسكرياً لا نقاش فيه:
ـ رضيت أو رفضت كله واحد عليَّ.
تمنيت، في تلك اللحظة، لو واتتني الجرأة والقُبح لأقول له في وجهه بنبرة الصوت نفسها:
ـ أبي لا أريد مالك، ولا أريد أن أكون مثلك.
***
وهو يذرع المكان جيئة وذهابا، ويُسَبِّحُ باسم الله ويحرك خرز مسبحته الكهْرَمَان التي لا تفارق أَصابعه، قال:
ـ إذا ما عجبتك تزوج عليها.
نظرت في وجهه المكفهر غير مصدق ما سمعت، وقلتُ، تحت وطأة الدهشة وغرائبية اقتراحه، بنبرة تشبه الصـراخ: “نعم!”، ثم افتعلتُ ضحكة بحجم المفاجأة التي أثارها اقتراحه. وتساءلت في سري: “هل أصبحنا، الخضـراء وأنا، في نظريهما، مجرد سلعة للمقايضة.. ضمانا لإبقاء الثروة في جيب الأسرة؟”.
وهممتُ بالرد عليه، وأنا أنقل عيني بين وجهه ووجه أمي التي لم تكفْ، طوال حديث أبي لي عن قرارٍ لم يكن لي دخل في اتخاذه، عن الإشارة لي بعينها وقرص كفي وهي تسحبني من رُّدْن “دشداشتي” إلى الأسفل لإسكاتي خشية أن يستبد به الغضب، فتستفحل عصبيته.
وبدا لي أن فكرة زواجي من الخضـراء، وما رافقها من حساب للأرباح والخسائر، أفقدتْ أبي حسه الإنساني والقدرة على تحكيم العقل والبصيرة المعروفين عنه، بل أنه حيّد عاطفته تجاهها جانباً، وهي التي كانت روحها أقرب إليه وأحب، وكانت أكثرنا تعلقا به.
وتفاديتُ، طوال ذلك النهار الوقوف أمام مرآة حمامي.
ـ 3 ـ
حاولتُ إبقاء الخضـراء إلى جانبي أختا لا زوجة، إلا أني وقفت عاجزا لا حيلة لي أمام دموع أمي وتوسلاتها أن لا أغضب أبي ولا أعصـي له أمراً؛ فأذعنتُ لرغبته، وتخليتُ عن حقي في قول كلمتي في أحد أهم قرارات حياتي، وراهنت على موقف الخضـراء مع أبيها؛ فهي البكر، والابنة الوحيدة التي لا يرفض لها طلبا ولا يرغمها على أمر لا تريده، بيد أن رهاني كان في غير مكانه، فحين انفردت بها أبحث معها عن مخرج لتلك “الورطة”، خيبت ظني وأثارت دهشتي بلا مبالاتها.
جادلتها بلا طائل؛ فقد ظلت تُماحك من دون أن تعطيني ردا مباشرا.. موافقة أم لا؛ فأوقعني موقفها السلبي وعدم اكتراثها بمصير حياتنا معاً في حيرة، وكأنها غير التي عرفتها:
ـ لن أرفض لكي تنجو أنتَ بجلدك، ولن اشترك معك في قطع شـعرة معاوية، تلك التي طالما سـمعتك تتشدق بها وتصـر على إبقائها ممدودة، إكراماً لك.
واستدركت:
ـ اقطعها لوحدك إن شئت، وسأقف أتفرج على النار وهي تلتهم الجميع وتأتي على الأخضـر واليابس.
وأضافت:
ـ وبما أنك الرجل في هذه المعادلة وصاحب قرار الرفض أو القبول.. أي الطرف الأقوى؛ فمن حقك أنت والواجب عليك أن ترفض إن كنت لا ترضى بي زوجة لك، ولا تريد أن تجد نفسك في “ورطة” بالزواج مني على حد قولك. كررتْ الخضراء كلمة “ورطة” أكثر من مرة، وظلت تذكرني بها ـ فيما بعد ـ كلما اختلفنا، أني وصفت الزواج منها بـ”ورطة”، وقالت، وقد تغيرت ملامح وجهها، وبنبرة صوت متقطعة:
ـ أما أنا فلاحق لي في اختيار من أتزوج، فصمتي دليل موافقتيشِئْتُأم أبيت.
خذلني لساني ولم يطاوعني على قول شيء؛ فقد بلغ ذهولي أشده، وبنبرة كشفت عن مرارة استسلام، قالت:
ـ هذا ما فَعَلْته عندما سألني أبي، وعندما طال صمتي افترض أن “سكوتي علامة رضاي”.
وقبل أن تختفي سألتها:
ـ هل هذا يعني أنك راضية عن قناعة؟
لم ترد على سؤالي المباشر، وإنما أرادت أن تلقي بالثقل كله على كاهلي، وتحملني مسؤولية اتخاذ قرار لن تقتصـر تداعياته عليّ فقط ؛ فواصلتْ حديثها وكأنها لم تسمعني:
ـ ألست أنت من كان يكرر على مسمعي ذلك؟!”.
وعلَّقتْ بنبرة ساخرة:
ـ ما الفائدة إذا رفضت، فإن لم تكن أنت سيأتيني أبي بزوج آخر لا أعرفه.
“بغل تعرفه خير…”.
ومضتْ، وسط حنقي، تجر خلفها بقايا ضحكة سخريتها، متلذذة بما تركته في نفسي من حيرة!
***
لم تكن الثروة ولا اسم “حيم” فحسب ما يجعل من تونس زوجة مطلوبة، فهي لا يعوزها جمال الوجه ولا فتنة الجسد.. ورثت عن أجدادنا الأوائل في “كمنزار” بشرة بيضاء كالحليب. عيناها لوزيتان عسليتا اللون تشعان جاذبية وذكاء، وابتسامتها ساحرة ولثغرها بريق.. خفيفة الروح ذات حضور مريح يثير فرحة من حولها.. لماحة بالفطرة وثقتها بنفسها عالية، بل أحياناً مميتة.
كانت الخضراء محط أنظار أصدقاء أبي وعمي ومعارفهما، الأثرياء ورجال الأعمال المرموقين على وجه الخصوص؛ فالآباء راغبون في المال، وأبناؤهم أعينهم على الجمال. بيد أن عمي ظل يحشر اسمي كيفما اتفق لرد الخطَّاب: “تكلم عنها يونس ابن عمها”.
كانت الخضـراء أنموذجا للأخلاق والجدية لمن في سنها ووسطها الاجتماعي.. شخصيتها مختلفة عن بنات الأثرياء والمُرَفَّهين من سكان حيّنا.. تستحوذ على إعجاب كل من يعرفها عن كثب، فيُضـرِبُ بها المثل. تتفادى المبالغة في التزين ولعلها لا تحتاجة، وترتدي من الملابس ما لا يلفت الأنظار.. لا تلهث وراء الموضة و”الماركات”، ولا تحفل بصـرعة الموبايلات، وكانت تصـر على ارتداء النقاب في الأماكن العامة والمزدحمة، ليس من باب الالتزام وإنما لصد عيون “الصيَّع والمتسكعين” حسب قولها.
الخضـراء باختصار لا تشبه غيرها من بنات جنسها؛ بيد أني لم أفكر، ولا خطر لي على بال أن تكون زوجة لي وشريكة حياة، لكن فجأة وجدتُها في سريري.. تشاركني وسادتي ولحافي والهواء الذي أتنفسه، بموجب عقد شرعي نحن ـ هي وأنا ـ طرفاه وإن لم نوقع على شروطه!
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC