أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
من أين يأتي كل هذا الكم من الجلد الذاتي Autoflagellation؟ من احتقار الذات العربية واعتبارها عاجزة، “جينيا” عن إنتاج الفكر والتمايز، و”النص المتعالي”؟ مع أن تأملا بسيطا وساذجا للتاريخ، يبين أن هذه الذات لم تكن فقط منتجة، ولكن أيضا قائدة للعالم معرفيا إذ منحته سبل التغيير والارتقاء باتجاه فصل المعرفة عن كل المعوقات المحيطة بها، وكان ابن رشد فاعلا أساسيا فيها بكتاب صغير غيَّر وجه العالم “فصل المقال فيما ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” الذي تم اعتماده غربيا ضمن حلقات نقاشية واسعة، أفضت بها إلى فكرة فصل الدين عن الدولة، للتمكن من توقيف التدخلات الكنسية في الفكر والسلطة. هذا الكلام ليس لتمجيد الماضي ولكن للقول بأن المعرفة ليست حكرا على الآخر، ويجب كسر هذه الرؤية الكولونيالية نهائيا والعودة إلى المفاهيم التي طورها فرانز فانون، وإدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهم، عن فترة ما بعد الكولونيالية التي اعتمدت الرؤية النقدية بما في ذلك نقد الحقبة الاستعمارية التي صنَّعت للعربي، صوراً عنصرية هي صورها وليست الحقيقة، فوضعته في درجات أقل من الحيوان.
وإذاً لماذا هذا الجلد الذاتي كلما تعلق الأمر بالرواية العربية ومقارنتها بالرواية الغربية؟ الرواية العربية ضعيفة؟ الرواية العربية لا ترقى إلى الرواية العالمية؟ الرواية العربية تحتاج إلى قرون لكي تصل إلى ما وصلت إليه الرواية عند الأمم المتقدمة؟ لا يوجد لدينا كاتب واحد ارتقى إلى العالمية؟ نجيب محفوظ قادته قناعات سياسية إلى نوبل؟ الكثير من هذه التصنيفات الواصفة للرواية العربية دون دراسة حقة للحقل الروائي العربي والتمعن فيه، ودون قراءة حقيقية للمنتج العالمي الذي يرتكز عليه “نقدة آخر ساعة” كما يقول المثل الفرنسي. هناك مفتاح صغير يمكن فتح الأبواب المغلقة بواسطته لفهم هذه الظاهرة، ظاهرة الجلد الذاتي.
أولا يجب أن نعرف أن التجارب الروائية هي تجارب فردية، قد تعبر عن معنى وطني أو قومي، لكنها تظل في الأفق الفردي والإنساني أيضاً وهو ما يمكنها من التعبير عن الأعم والأكثر شمولية. يمكننا أن نجد كاتباً كبيراً في بلد صغير ومتخلف وحتى دكتاتوري مثل إسماعيل كداري في ألبانيا. قد يقول قائل سنونو واحدة لا تصنع ربيعاً، صحيح، لكن تبشر به. كم روائي فرنسي يمثلون اليوم الرواية الفرنسية؟ الرواية اليابانية؟ الرواية الأمريكية؟ الروسية؟ الصينية الهندية؟ الإفريقية؟ عدد محدود سمحت به المؤسسة الإعلامية لأسباب ثقافية أو سياسية أو تجارية، بالمرور نحو دائرة الضوء، لكننا عندما نفتش في أعماق الكيانات الروائية سنجد موجات من الأسماء التي تمثل مختلف الحقول والبلدان: الرواية الجديدة، الرواية الاجتماعية، الرواية النفسية، الرواية البوليسية، الرواية التاريخية، وغيرها كثير. ونجد على رأس كل نوع أسماء لا تحصى في ظل إصدارات تتخطى متوسط ال 500 رواية سنويا في البلد الواحد. لا يوجد في اليابان فقط موراكامي، يوجد بجانبه ما لا يقل عن 100 روائي معروف، مترجمين إلى عشرات اللغات. بجانب الصيني مويان يوجد في بيجين وحدها أكثر من 600 روائي بأسمائهم المرموقة. السؤال الكبير: أي جهاز يوصل هذا ويترك ذاك ووفق أية مقاييس؟
سهولة الأحكام مدمرة للنسيج الروائي العربي، لأنها لا تنتقد عن معرفة معوقات الجنس الروائي عربيا وهي كثيرة، ولكن تنبع من تصورين، الأول الإحساس بالفوقية المرضية، الحكم بلا ضوابط علمية ولا حتى قرائية. والعمل تحت مظلة ترى في الآخر مطلق الكمال وهي رؤية كولونيالية مبطنة أو مدركة سلفا. أقرأ بلغات متعددة ما ينتج عربيا، أتابع عن قرب ما تقذف به المطابع الفرنسية لكتاب فرنسيين أو كنديين أو بلجيكيين أو سويسريين أو مغاربيين يكتبون باللغة الفرنسية. واقرأ بالإنجليزية من الأدب الأمريكي والانجليزي والمستعمرات القديمة والتابعة للتاج البريطاني سابقا، وأقرأ بالإسبانية ما تنتجه إسبانيا وأمريكا اللاتينية وما يصلنا منه أو نطلبه مباشرة من أسواق الكتب العالمية عن طريق أمازون أو غيرها. لم أصادف في قراءاتي نقادا أو “كتبة” يجلدون ثقافتهم بالشكل الذي رأيته ولمسته عربيا. صادفت روايات ساحرة ومهمة عالمياً، ولكني صادفت أيضا روايات لا تحمل من حيث القيمة إلا عناوينها. والرواية العربية لها ما لها وعليها ما عليها. الكثير من الروايات العربية ترتفع بقرائها نحو حالة الإدهاش، وهناك روايات تجعل المرء تتساءل كيف وصلت إلى هذه الدرجة من الاهتمام والمتابعة. حتى النقد في هذا تبعي، يسير وفق إملاءات القوة. يكفي أن تشتهر رواية عربية في العالم الغربي، في الأغلب الأعم لأسباب سياسية مخبرية، لينزلق النقد العربي نحوها ممجدا، مع أن نفس الرواية كانت أمامه لسنوات طويلة، ولم يبد أي اهتمام لها حتى سقطت في النسيان. فجأة، وكأننا اكتشفنا البارود، تتابع المقالات في الارتفاع بالرواية عاليا دون رؤية إبداعية أو نقدية.
في ثقافتنا الروائية ننسى شيئا مهما، الماركتينع؟ منطق السوق. لكن هل منطق السوق بكل هذه الأهمية وهذه القيمة في الحكم عن الجدوى. الكثير من الروايات المسوقة عالميا وعربيا لا تخضع لأي تقييم جمالي ولكن لأغراض أخرى كثيرا ما تكون علاقاتها بالأدب واهية. المهم هو القالب والمقاييس الثقافية والإيديولوجية أحيانا التي وضعت سلفا ليتم إدراج الأدب داخلها. كثيرا ما تكون كولونيالية في جوهرها. عقلية “الرجل الأبيض” المتحضر والمشيع للمعرفة لم تتبدل بعد حقب العبودية والحروب الكولونيالية. لهذا لا يمكن فهم فكرة “الجلد الذاتي” والرفض الكلي خارج أي جهد تاريخي أو معرفي، ولا الإجابة عن عدميتها إلا بالعودة إلى مفهومي الكولونيالية وما بعد الكولونيالية. أدمغتنا مستعمرة ومحتلة كليا، فكيف لها أن تفكر بحرية؟ لا نرى الأشياء إلا عبر الأقانيم التي وضعت في طريقنا إذا أردنا لنص أن يشتهر، وإلا سيظل في دائرة التضييق والموت البطيء، في غياب مؤسسات بديلة ومقاومة. الرواية العربية لا يمكن عزلها عن الرواية العالمية بكل إيجابياتها وسلبياتها، ومنجزها وعيوبها. فهي ليست لا أقل ولا أفضل ما أنتجه العالم، لكن لها مكانتها المحلية والعالمية لمن يكلف نفسه فضول المعرفة. فهي تعبير إنساني مهم، كلما اتسع بلا خوف من الآخر، عبَّر عن إنسانيته ومشتركه العالمي الذي لا ينفصل عن المحلية. يمكن لأي كاتب عربي يملك الموهبة والمعرفة، أن يكتب عن الحرب اليمينية، أو عن الأنظمة الدكتاتورية العربية، أو عن ثورات قُتِلت في البيضة، يمكنه أيضا أن يكتب عن جريمة صارخة حدثت في بلد عربي ما، لكنه في النهاية لن يكون إلا معبرا عن مشترك إنساني ما، سواء بالكتابة عن الحرب التي ليست خاصية عربية أو أوروبية، أو عن غيرها من الموضوعات، ويمكنه بعيدا عن كل هذا، أن يكتب عن الحب ويحرك شجن قارئ في الهيملايا أو في أقاصي أستراليا، وهكذا.
لقد ورث المثقفون العرب الذين خضعت بلدانهم لكولونياليات بغيضة سطرت المعالم وفق أهوائها. وكل من انتفض داخلها، وضع خارج مداراتها. وإذا اخترق الكاتب الأغشية التي وضعت في طريقه، لن تسمح له بالظهور مطلقا، أو الرؤية الواضحة، وإذا وصل إلى الاختراق، سيكون ذلك عن طريق حركات مقاومة للمسخ الثقافي وكثيرا ما تتبناها قوى ديمقراطية ليبيرالية متفتحة أو يسارية، عالمية، تثق في الثقافة وتؤمن بالعبقرية خارج دوائرها. على الرغم من ذلك نيو- كولونيالية هي المشرفة على المعابر. المشكلة ليست هنا فقط ولكن في الرؤية التي أصبحت تتحكم أيضا في فترات ما بعد الكولونيالية بعد أن وجدت من يتبناها ويسير بها عميقا إلى الأمام لفرضها بوصفها السبيل الأوحد للرؤية الموضوعية دون نقد لرؤى الحقب الكولونيالية الماسخة، فيعيد إنتاج المسخ نفسه باحتقار الذات والانتقاص من قيمتها. لم نعد في حاجة إلى الوافد الاستعماري، فهو بيننا ويتنفس نفس هوائنا. هو المنتج الضامن لاستمرارية حقب الابتذال واعتبار العربي متوحشا وغير قادر على الإنتاج التخييلي نظرا لقصوره “الجيني”. عندما تترسخ هذه الرؤية القاهرة تصبح عنصرية لا تولي أية أهمية لثقافتها ولتاريخيها.
موضوع يستحق نقاشا أطول من مجرد مقالة.