حادثني أحد الأصدقاء عن مقالي السابق في صحيفة (أثير) الالكترونية، وناقشني في بعض ما ورد في هذا المقال عن دور المثقف في التحولات التي حدثت فيما سمي بـ الربيع العربي، وأدوار المثقف العربي في هذا الحراك فكريا، والحقيقة أن المثقف ليس بعيدا عن كل التحولات التي تحدث في عالمنا العربي ، بل وفي العالم بأسره، فالمثقف يعتبر المحور الفكري لكل ما يجري في المجتمعات حاضرا وماضيا، وإن كان صوته أقل الأصوات خفوتا، بحكم بعده عن الدينامية المحركة للقرار المؤثر في الكثير من الكثير المؤسسات الفاعلة ،لكنه يظل عنصرا قويا في كل التحولات في الجانب الفكري ، بصورة أو بأخرى،لكن أزمة المثقف، وتراجعه عن أدواره ،أو قد تم إقصائه،أو صدمته بسبب التحولات الكبيرة التي حدث في العقد الأخير من نهاية القرن العشرين وما بعده.
فقد طرحت مسألة نهاية المثقف مع بدء الانهيارات الكبرى في الأيديولوجيات والفلسفات في العقد الأخير من القرن الماضي ، وعلى وجه الخصوص مع سقوط المعسكر الاشتراكي برمته و في مقدمته الاتحاد السوفييتي السابق ،هذا السقوط المفاجئ هز قناعات كثيرة عند شريحة المثقفين والمفكرين الذي كانوا ينّظرون لهذه الفلسفات . وبعض هؤلاء كان يشغل الكثير من الوظائف والمهام في مؤسسات الثقافة والفكر والإعلام . وجاءت هذه الانهيارات لتشّكل له صدمة عنيفة . وهذا لا ينطبق على الفكر الماركسي واليساري فقط ، بل المثقف الليبرالي الذي كان يمتلك أيديولوجية معبرة عن قناعاته ، والتي تقترب أو تبتعد عن هذا الفكر أو ذاك .والمثقف العربي أيضاً أصابه ما أصاب المثقف في هذا العصر ، خاصة المثقفين المتأثرين بهذه الأفكار أو المقتربين منها ، ومن هؤلاء المثقف القومي والمثقف الليبرالي .لكن البعض يرى أن الصدمة الكبرى في حياة المثقف العربي و التي شكلّت له منعطفاً خطيراً في أيديولوجيته الفكرية ،جاءت مع هزيمة 1967 ، لكنه استطاع أن يراجع قناعاته وينقذ نفسه ، ويعيد النظر في بعض ما اعتنقه من أفكار وأوهام ، وهذه المراجعة ربما أنقذته من نهايته كمثقف ملتزم بقضايا أمته ومجتمعه وعصره ، وفاعل في الدفاع عن المبادئ الأساسية التي كانت راسخة في وجدانه . و دافعة للإبداع والتقدم والحرية، وظلت الانسدادات الفكرية تجاه المثقف تتراكم بفعل الاحتقان السياسي والتذبذب الفكري وغياب الحريات بمضامينها المتعددة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى جاءت الانهيارات الأيديولوجية وتبعاتها وأزمتها القائمة. وجاءت العديد من الكتابات الجادة في الغرب تتحدث عن نهايات السياسة ونهاية الأيديولوجيا . ونهاية المثقف ونهاية الديمقراطية . آخر مقولات هذه النهايات ، نهاية التاريخ عند الليبرالية الغربية لفرانسيس فوكوياما .وتلقف بعض الكتاب الذين لا يتورعون عن توريد الأفكار والنظريات في الغرب عن طرح ما يقوله الغرب ويستعيره بلا مناقشة أو نقد ، ليعرف ما مضامين هذه الأطروحات ومطابقتها على واقع العربي وأزمته الحقيقية .وبالفعل طرحت مسألة ” نهاية المثقف ” على المثقف العربي ، واستعيرت الأزمة الثقافية والأيديولوجية في الغرب بكل ظروفها ، وإسقاطها على الثقافة العربية . وهذه بلا شك نظرة قاصرة ولا تعبر عن الواقع العربي وظروفه وقضاياه .
صحيح أن هناك الكثير من التداخل والترابط في إشكالية الثقافة وأزمة المثقف في الكون عموماً ، وما أفرزته الإنسانية من مشكلات قد تتقاطر في الكثير من رؤاها ومضامينها ، لكن هناك أيضاً الكثير من التقاطع والتنافر في مفاهيم المثقف العربي عنه في المثقف في الغرب ، إلا إذا أصبح المثقف العربي نسخة ” كربونية ” من المثقف الغربي في أفكاره ورؤاه و إشكالياته ، ومن ثم فإن تسمية المثقف العربي تصبح هنا في غير ذات معنى . وتكون معالجة القضايا والإشكالات عند المثقف العربي مصطنعة ، وقراءة مختلفة لتاريخ الأمة ، ذلك أن النخب المثقفة في الغرب صاغت قضاياها وأفكارها من داخل الغرب نفسه ، ومن ثم فإن نخبنا العربية المثقفة عندما تستعير المشكلات والحلول من الغرب ، فإنها بهذه النظرة تصبح كتلة منفصلة عن المجتمع والأمة ، وتكون حلولها المطروحة مجرد استعارة وهمية لمشكلات غير قائمة ، وتصبح أزمة المثقف العربي أو نهايته مقبولة الطرح وواضحة للمتابع الحصيف ، وربما لا تحتاج إلى تنظير أو تحوير في هذا الصدد ، ومع ذلك فإننا نرى إن هذه المسألة ـ أزمة المثقف أو نهايته ـ قضية نسبية بين أوساط المثقفين العرب ، وقد لا تمثل الصدارة في إشكالية المثقف العربي الذي نقصده .
لنتفق أولاً أن المثقف في النهاية إنسان له ظروفه النفسية والاجتماعية ، وله حاجاته المتعددة كأي إنسان في محيطه ، ولذلك ليس من العدل تحميله قضايا واشكالات ليست من صنعه أو من بنات أفكاره ، بمعنى أن الكثير من الإشكال الثقافي وتأزمه أو الجمود الإبداعي قد لا يصنعه المثقف وحده ، لأن الثقافة عبارة عن تراكمات عديدة تصنعها الشعوب والمجتمعات الإنسانية ، وفق بيئتها وسبل حياتها ، لكن النخب بلا شك عليها الدور الأساسي في تفعيل هذه الثقافة وتحويلها إلى مؤسسة فاعلة في المجتمع .والمثقف العربي ينتمي إلى هذا الصنف من المثقفين الذي يسعون عبر نشاطهم النظري والعملي إلى إنجاز التطلعات الثقافية في المجتمع العربي ، في إيجاد الإبداع الحقيقي في نظرته ودوره وممارسته .
وهذا لا يعني أن المثقف يستطيع الإجابة على كل الأسئلة ، وحل كل المعضلات القائمة ، لكن وظيفته هي الانطلاق والإبداع ، والسعي إلى كشف القضايا والإشكاليات والبحث في مضامينها الجوهرية ، وتحفيز الناس على التفكير فيها بما يهدف إلى وضع هذه الاشكالات موضع النقاش والنقد الجدي ، وليس الهروب والتقوقع والمعايشة في الأبراج العاجية . فالمثقف المبدع هو الذي يوجد إبداعه وتحفيزه لأقرانه على الدور الفاعل من خلال الأفق الثقافي المفتوح ، والحفر المعرفي المستمر ، والمراجعة الدائمة لهذا الإبداع للارتقاء به إلى مستويات رفيعة .
إن رسالة المثقف العربي في المجتمع ليست هامشية بقدر ما هي هامة حضورياً ، وما يستتبع ذلك من مهام وأدوار ملقاة على عاتق المثقف في الانفتاح على الناس ، والتفاعل مع قضايا الوطن وهمومه ، وهذا الانفتاح المرغوب هو الذي يلغي الحواجز ، ويسمح بإقامة علاقة ثابتة وصحيحة مع المجتمع تجعل منه مثقفاً صادقاً مع نفسه ومجتمعه ، ويدرك بالتالي متطلباته الملقاة عليه ، وغرس بذور الثقة والتفاعل الإيجابي بين المثقف وقضايا الوطن في عمومه ، سيما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تعد من المتطلبات الملحة في وطننا العربي .
فما نريده من المثقف العربي في هذا الصدد أن يكون حاملاً لمشعل الحرية الحافظ للثقافة الخلاقة المبدعة ، الصائن لقيمتها الإبداعية ، الهادف لبناء مفاهيم راقيةمن احترام الآخر وثقافته ، والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية .إن من الخطأ الفادح أن يختزل المثقف الثقافة في جانبها الضيق ، ودورها المحدود ، ويجعلها أحادية في نظرتها وتعاطيها مع القضايا المختلفة .فالتاريخ والحاضر يعلماننا ـ كما يقول محمد محفوظ ـ إن حيوية الثقافة وفاعليتها مرهونتان بتوسيع قاعدتها الاجتماعية ، وأما مقتلها الحقيقي يتجسد في خنقها في إطار نخبوي ضيق .وما يلفت النظر في التجربة الثقافية والعلمية والتاريخية هو أن الأفكار ارتبطت دائماً بالواقع … فلا توجد نظرية أو قانوناً قد اكتشف ، أو مدرسة فكرية أو عقدية قد نشأت ، إلا كانا ثمرة النشاط العقلي الرامي إلى حل إشكال قائم في دنيا الواقع أو لتطويره .فالثقافة ليست مشروعاً متعالياً على الواقع وشؤونه ، كما أنها ليست تراكماً تجريدياً لا صلة له بالناس ، وإنما هي حركة باتجاه صقل مواهب الإنسان وتهذيب سلوكه العام والخاص ، وجعله متناغماً مع الاختبارات الكبرى للمشروع الحضاري العربي .
ومن هنا فإن إبداع المثقف العربي مرتبط بشكل أساسي بطبيعة الدور المنوط به ، وبالواقع الذي يعايشه ، وبالظروف التي يتماهى معها .
فإذا كانت لا تربطه بواقعه أية صلة ثقافية وفكرية ، فإنه في اعتقادنا لن يتمكن من إنجاز إبداع حقيقي ، ذلك أن النواة الأولى للإبداع هي التفاعل الخلاق بين المثقف وواقعه . وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسجم واللحظة التاريخية . فتفاعل المثقف مع الواقع لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق تلك المقولة السلبية ” ليس بالإمكان أبدع مما كان ” إن التفاعل الذي نعنيه هو التهيئة اللازمة للشروط النفسية والعقلية ، لجعل الأديب أو المثقف يستوحيان من الواقع الأعمال الأدبية والثقافية ، كما أن الأرض الخصبة التي تؤهل الأديب أو الفنان لعمليات الإنتاج الأدبي أو الثقافي المبدع ، هي التي تشكل الرهان الإبداعي المبتغى في عملية البناء الثقافي ، ولكي يكون المنجز عملية مبدعة واعية في أفقها الصحي والانفتاحي للرؤى والقضايا الوطنية والقومية ، وفي مسارها المنسجم مع راهنها بظروفها الإيجابية والسلبية بعيداً عن الأطياف الخادعة .إن قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والإبداع الحقيقي هي من الأولويات في سلم الرهان العربي المقبل ، لأن الانكسارات التي صاحبت مسيرة الأمة في جوانبها المتعددة كانت بسبب ابتعادها عن تلك الأولويات وفي غيابها أو على الأصح تغييبها تردت الأوضاع في الثقافة أو الإبداع والتنوير الحقيقي .ونعتقد أن الصورة المشرقة والناصعة لدور المثقف العربي لن يتأتى إلا من خلال دوره المنتظر في الدفاع عن تلك الأولويات ، والتبشير بها و إشاعة ثقافتها في كل الأصعدة والمسارات، في ظل دعوات الغرب بفرض الإصلاح القسري على المجتمعات العربية، وهذه الإصلاحات يفترض أن نقوم بها نحن، وتأتي من قناعاتنا الذاتية وليس مفروضة من الخارج ،ولكننا للآسف لم نقم بهذه الخطوات المطلوبة في الوقت المناسب مماجعل الاشكالات الداخلية تتراكم وتصبح مسالة الإصلاح ضرورية وهامة في مسارنا السياسي والثقافي والفكري، وهذا ما نتوخاه من نخبنا الثقافية والفكرية في الدعوة إلى الإصلاح والى الانفتاح السياسى،وتطبيق الديموقراطية الحقيقية وليس الشكلية، المرفوعة شعارا المعدومة واقعا، كماطرحته الدولة الوطنية بعد الاستقلال،مما جعل الكوارث تتوالى على الأمة في غياب الديموقراطية وتغييب الشعوب عن دورها الحقيقي في ما يتخذ من قرارات وتهميش النخب الفكرية والثقافية.والآن لامناص من اضطلاح المثقف بدوره الحقيقى فى التنوير وغرس الوعي فى الامة بضرورة الاصلاح الجذري لمساراتنا المختلفة، وأهمها تناول القضايا التي تهم الأمة ونهضتها وتقدمها .
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC