لا يمكن للشاعر أن يكتب قصيدة عميقة إذا لما يعش الشعر كحياة
لا بد أن تنعكس اللغة الشعرية على لغة المقال
حوار- أحمد سعد
الشاعر والكاتب العراقي أحمد عبد السادة عضو المجلس المركزي في الإتحاد العام للكتاب والأدباء العراقيين، أصدر في 2007 مجموعة شعرية تحت عنوان “ثريات”، ولديه مجموعة شعرية تحت الطبع بعنوان “الاسم الكامل لجلجامش” ويعمل حاليا كمسئول لصفحة آراء في جريدة الصباح العراقية منذ ثلاثة أعوام تقريبا، عبد السادة يعتبر من مؤسسي فكرة الجمع بين الشعر وكتابة المقالة، إذ تندرج مقالاته بصورة أساسية ضمن مجال النقد الثقافي.
التقت” أثير” الشاعر والكاتب أحمد عبد السادة ليحدثنا عن علاقته بالشعر وعن رؤيته لوضع الشعر في المنطقة العربية والعراق تحديدا..
أود أن أعرف مفهومك للشعر وما هي نظرتك له كشاعر؟
في الحقيقة اندلاع الشعر أمر لا يمكن أن يفسر ضمن إطار المنطق أو الأمور العلمية، الشعر هو اندلاع مفاجئ في الذات البشرية، وهو بوصلة أولى توجد معك منذ الطفولة وتقودك إلى عالم الجمال في هذا العالم وبالتالي أنا أؤمن بالتكوين الأولي للإنسان، وأؤمن بأن الإنسان عند ولادته يمنح بوصلة معينة لا يمكن أن تفسر علميا كما أؤمن بوجود بوصلة أولى للإنسان تقوده إلى بعض الأشياء بدون إرادته لكن بعد ذلك يمكن أن يكتشف قيمة هذه البوصلة ويقوم بتطويرها ويقوم بالإحساس بأهميتها كما أنها أيضا يمكن أن تقوم بتحقيق الذات الإنسانة، بالنسبة لي مثلا الشعر كان طريقة حياة قبل أن يكون طريقة كتابة، وأنا أسميته مرة في إحدى المقالات بالشعر السائل، وهو الشعر الغير مكتوب، ولا يمكن أن تكتب شعرا عميقا ومهما إذا لم تعش الشعر كحياة، وتكتبه في مشاهداتك وإحساسك، فالإحساس بالأشياء هو الذي يقود إلى الشعر، والإحساس العالي والعميق بالأشياء هو شعر لكنه غير مكتوب واسميه سائل أي غير متشكل إلى قصيدة، وهذا الشعر هو الذي يقود إلى الشعر المكتوب، والشعر كحياة هو الذي يؤدي إلى طريقة متقدمة في كتابة الشعر، وبالتالي أنا أؤمن أنه لا يمكن للشاعر أن يكتب قصيدة جميلة وعميقة إذا لما يعش الشعر كحياة.
ماذا تعني لك الأمكنة وما مدى حضورها في تجربتك الشعرية؟
الأمكنة أعتبرها ماكينات مولدة للشعر؛ لأنها تمنح تجربة مهمة للشاعر وبنفس الوقت تمنح له آفاق وملامح جمالية جديدة والشعر هو ابن الاكتشاف، ما دام هناك في المدينة شيء يمكن أن يكتشفه الشاعر وملامح جمالية جديدة.. كل هذا ينصب في قاموس الشاعر وينصب في بوتقة مخيلته، وبالتالي الشاعر عندما يكتب القصيدة بالتأكيد سيستحضر الأمكنة الجديدة التي مر بها والتي انصهرت في مخيلته، والتي سكنت في أعماقه وبالتالي يذوب كل هذه المشاهدات والتجارب والأمكنة وملامح الطبيعية في قصيدته ولغته أيضا.
المكان له تأثير كبير ومباشر على الكتابة الشعرية، ولا بد للشاعر أن يتأثر بمحيطه لكن يجب أن لا يكون أسير هذا المحيط وعليه أن يكتشف مدنا أخرى وملامح أخرى، وعن المكان وتأثيره في اللغة حدث هذا الأمر عند الشعراء العرب في العهد الأموي والعباسي، عندما كانوا في البادية والجزيرة العربية، استجابت لغتهم للمكان والبيئة الصحراوية ومعطيات هذه البيئة، المكان يعكس نفسه على اللغة وهو مرآة اللغة والعكس، فكل منهما يتأثر بالآخر، وعندما غادر بعض هؤلاء الشعراء للأندلس نستطيع أن نشاهد لغتهم التي اختلفت نهائيا وأصبحت لغة أكثر شفافية؛ لأن المكان كان مليئا بالطبيعة الجميلة والمناخ المعتدل، فاللغة استجابت للمكان وعبرت عنه، وتعتبر دائما العامل المترجم للمكان وملامحه، لذلك نرى أن هؤلاء الشعراء الذين توجهوا للأندلس تغيرت ملامح لغتهم تماما فاستجابوا لطبيعة المكان وبالتالي يمكن أن نقول أن المكان أحد مطورات اللغة ويساهم بتطويرها بسبب ما يوفره من معطيات جديدة.
كونك شاعر نشيط الكترونيا، هل أنت مع أن يسوق الشاعر إبداعه وإنتاجه عبر الإنترنت؟برأيي أن عملية النشر عميلة تواصل مع الآخر وأنت عندما تكتب تجربتك الشعرية وأحاسيسك، فأنك تبحث عن متلقي بالتأكيد، أنت لا تكتب من أجل أشباح، أنت تكتب لتؤثر كلماتك في المحيط والإنسان والمجتمع، وهنالك هاجس داخلي يحتم عليك بأن تتواصل مع الآخر، وإلا لماذا تكتب، هنالك إحساس بأنك تريد أن ترى آثار ما كتبت في الآخر، فأنت تترجم ذاتك، وقضية ترجمة الذات لا بد فيها من متلقي، والشاعر الذي لا يبحث عن متلقي هو في الحقيقة لا يبحث عن حضور ولا يبحث عن تكريس لوجوده أو تحقيق لذاته، فمسألة البث والتلقي هي مسألة أساسية في الحياة في كل المجالات ولا بد أن يكون هناك باث ومتلقي ليتم التأثير والتأثر، والشعر أيضا ضمن هذا الإطار، وبهذه العميلة يمكن أن يحدث التواصل الكامل ومن ثم تحدث عملية التأثير ويليها التغيير، وبدون تأثير لا يوجد تغيير، والشاعر الذي لا يسعى من أجل إكمال هذه العميلة هو يعيش في منطقة الغياب، ويعيش في ظل الوهم بأنه يفترض من الآخرين أن يبحثوا عنه، والشاعر الذي يكتفي بالسكن في منطقة الظل هو شاعر في منطقة نصف حضور ونصف غياب.
المثقفون يشتكون من تدني مستوى الشعر في الوطن العربي، وظهور ما يسمى بالدخلاء على الشعر خصوصا بعد هذا المد التكنولوجي، إلى ماذا يعود ذلك؟هنالك مشكلة فعلا؛ وهي مشكلة انعدام المعايير بعد هذا المد التكنولوجي والفضائي، أصبح هنالك مواقع في الإنترنت غير خاضعة للقواعد الفنية واللغوية، وهذه المواقع تنشر لمن هب ودب، وبالتالي أسس هذا الشيء لطوفان من مدعي الشعر ومدعي الكتابة، وأسس جيش من الطفيليين على الثقافة والكتابة، الذين لا يعرفون أبجدية الكتابة والشعر، وهنالك بعض الصحف الملتزمة لا تنشر سوى القصيدة صاحبة الشروط الفنية القوية، لكن بعض الصحف استجابت إلى هيمنة المواقع الالكترونية واستجابت لهذه الظاهرة السلبية والمتمثلة بنشر ما هب ودب ونشر طالح الكلام، لكن في النهاية رغم اتساع الظاهرة السلبية لكنها ظاهرة مشخصة ومعروفة ولا يمكن أن تدفع الشاعر للانزواء، فالشاعر في النهاية مسئول ولا بد من فرز الجيد من السيئ والصالح من الطالح، وبالتالي هذه هي مهمة النقد الحالية، ومهمة الناقد في فرز ما هو سيء وما هو جيد، وإظهار وإشهار الشعر الجيد وتسليط الضوء عليه بشكل مكثف وبنفس الوقت تشخيص ما يسمى بالشعر وما لا ينتمي إلى الشعر بصلة، وكشف هذا الشيء وتعريته، وبالتالي الناقد هو ميزان ممكن أن يرفع كفة وينزل كفة أخرى، وأعتقد أن هنالك خلل بالعملية النقدية العربية، وهنالك بعض المحاولات لإظهار الشعر الجيد وتعرية الشعر السيئ، لكنها عملية ناقصة ولم تؤدي الدور المطلوب، فنرى ظاهرة مدعي الشعر في استفحال دائم في المواقع الالكترونية، وأعتقد أن سلطة النقد أو العملية النقدية يمكن أن تساهم في التقليل من هذه الظاهرة أو تخفف منها.
حدثنا عن الأسلوب الذي أتبعته في كتابة المقال وإدخال الشعر في كتابته وتحويله إلى عمل إبداعي، وهل حدث ذلك نتيجة عملك في الصحافة؟
في الحقيقة لغة الشاعر لا بد أن تنعكس على كل شيء يكتبه، وبالتالي عندما أكتب المقالة أو العمود لا بد أن تنعكس اللغة الشعرية على لغة المقال أو العمود، وأحيانا يكون هنالك تصدير للموضوع حيث أتعامل مع العمود أو المقال بصفته نصا جماليا وليس مجرد إيصال معلومات، وليس تحليلا باردا أو شرحا باردا، وأحاول أن أجعل من المقالة نصا جماليا يشجع على القراءة، ويمنح للقارئ شهية القراءة، وأعتقد أن اللغة هي بوابة الاشتهاء القرائي، أنت لا يمكن أن تكمل مقالا لغته جامدة، ولا يمكن أن تكمل مقالا لغته باردة وتقريرية وعادية، لكن تشدك اللغة في المقال، خاصة إذا كانت بطريقة مدروسة وغير مجانية، وعندما كنت مسئول الصفحة الثقافية في جريدة الصباح العراقية لمدة 3 سنوات، أزعم أنني وبعض الزملاء قمنا بتأسيس ملامح جديدة في الصحافة العراقية وكان ذلك بمشاركة العديد من الكتاب كأحمد عبد الحسين، ووليد فرحان وصلاح حسن السيلاوي، والعديد من الأسماء الثقافية الأخرى. هذه الملامح في المقالة تلبس لغة الشعر، لكنها تحافظ على رصانة التحليل والفكرة، ونستطيع أن نسميها مدرسة جديدة، فهي ملامح تبلورت بعد العام 2005م-2006م في جريدة الصباح بالذات، وأثارت انتباه الكثير من النقاد والمراقبين للعملية الصحفية، فشخصوا هذه المسألة؛ بأن هنالك ملامح شعرية في الصحافة، من حيث الاهتمام باللغة والانزياحات اللغوية والمجاز والاهتمام بالفكرة وإيصالها، لكن لا يوجد تحليق هائل وغامض، بل يوجد توظيف للغة شعرية، بمقال سواء نقدي أو تحليل لظاهرة اجتماعية أو سياسية، وأعتقد بأننا في الصباح العراقية أسسنا المدرسة الصحفية التي تمزج بين لغة الشعر وبين رصانة المعلومة وفكرتها.
إلى أي مدى أثر وضعك كمسئول في صفحة آراء في جريدة الصباح على تعاملاتك مع الكتاب والشعراء؟
في الحقيقة لا بد أن أشير بأني ضد المثقف النصوصي، أي المثقف الذي يكتب نصا ويذهب إلى البيت لينام ويستريح، أنا مع المثقف الذي يكون لديه رؤية ويكون لديه موقف من الأشياء وإلا لن يكون مؤثرا أبدا؛ لأن النص الشعري هو ابن المخيلة والمجاز والانزياحات والشعر يوصل رسالة جمالية وأحيانا رسالة معرفية قد تكون ناقدة للكثير من الظواهر الاجتماعية والدينية والسياسية لكن مغلفة بإطار جمالي ومحكومة بالشروط الشعرية وبالنسبة لكتابة المقال أعتقد أنه في العالم العربي والعراق تحديدا توجد الكثير من الظواهر السلبية مثل ظاهرة استحضار التاريخ بأبشع صوره، واغتيال الحاضر والحداثة باسم التاريخ المقدس الزائف، وباسم التخلف الموجود في هذا التاريخ، وفي العراق والعالم العربي عموما هنالك استحضار قاتل ومتوحش للتاريخ، لكل الجوانب السلبية وزرعها قسرا في الحاضر ومحاولة إجبار الناس عليها واعتناقها، وهذا الأمر لا بد أن يدفع بك كمثقف تطمح إلى التغيير إلى مواجهة هذه الظواهر وهذا المد الظلامي، وبالتالي هنالك الكثيرين من المدافعين عن هذا المد، ولا بد من أن يحدث نوع من الصراع ونوع من المواجهة، وهذه المواجهة حتمية في النهاية ولا بد منها، وبدون هذه المواجهة والتصدي لهذا الظلام لا يمكن أن يتغير شيء، وأنت كمثقف لا بد أن تكون كاشفا لهذه السلبيات، لو سكت المثقف من الذي سيتكلم، ستكون الساحة للظلام ويعزل المثقف نفسه ويختفي ضوء النقد نهائيا، وأنا أحيانا أكون سعيدا بهذا السجال وبهذا الهجوم العنيف من قبل بعض الأطراف الظلامية التي تسيء؛ لأني أشعر بأني قمت بتشخيص الكثير من العلل الموجودة في الواقع وبعض المعتقدات والمفاهيم، وبالتالي ولأن هذا الشيء كان تشخيصا دقيقا ومؤثرا دفع هؤلاء إلى الرد بقوة وبقسوة وأحيانا إلى التهديد، وأنا تعرضت إلى التهديد واضطررت للمبيت في جريدة الصباح لسنة ونصف تقريبا بسبب التهديدات التي تعرضت لها من قبل بعض التيارات الإسلامية، لكن هذا الشيء لم يدفع بي إلى الركون أو الاستسلام أو التضحية بالنقد وكشف الظواهر بل على العكس تماما، وفي النهاية هذا هو واجب المثقف وإذا تخلى عنه فهو يتخلى عن ضرورة وجوده في هذا المجتمع.
إلى أي مدى انعكس التغيير السياسي مؤخرا على الشعر في العراق؟
لا بد أولا من استحضار خلفية تاريخية لهذا الموضوع، وكما نعلم أن الحداثة الشعرية العربية انطلقت من العراق على يد السياب ونازك الملائكة والبياتي، إذ تم كسر عمود الشعر العربي في العراق، وكانت الموجة الحداثية الشعرية الأولى من بغداد، وبالتالي الشعر العراقي يتحمل مسئولية كبيرة في الحفاظ على الحداثة؛ لأن العراق الرافع الأول لراية الحداثة الشعرية فاستمر التحديث الشعري في العراق في الخمسينيات وفي الستينيات والسبعينيات وجاءت قصيدة النثر لتحتل مكانة مهمة في التجربة الشعرية العراقية وكان الأمر يسير بشكل تدريجي مثمر ومنتج وطبيعي في سكة الحداثة، لولا أنه حدث نكوص معين؛ وهذا حدث بعد الحرب العراقية الإيرانية، وحاجة النظام الدكتاتوري آنذاك للتعبئة الشعرية وللحشد الشعري المادح والرادح والذي يحاول أن يجعل من الدكتاتور بطلا مزيفا، فشجع ذلك النظام عودة الشعر العمودي إلى الواجهة إذ يمكن أن يستفيد من نظرته الحماسية للتعبئة من الحرب وتصوير المعارك والجرائم على أنها بطولات، وهذا ليس بالقصيدة العمودية، لكن النظام قام بتوظيف النظرة الحماسية والمنبرية في هذه القصيدة وبدأت مرحلة العودة إلى السلبية؛ لأنه تم كسر الحداثة الشعرية، وفي المقابل القصيدة النثرية بقيت ضمن سكة لم يؤثر عليها شيء، وبقيت تمشي على شكل فاعل ومنتج وأصبح هنالك الكثير من شعراء قصيدة النثر في العراق، ومن ضمنها الموجة الأخيرة التي ظهرت بعد 2003 وشكلت حضور مهم ليس فقط في المجال الأدبي والثقافي بل في المجال الإعلامي أيضا، فضلا عن تميزهم الشعري، يلاحظ أن هنالك الكثير من المفاصل الإعلامية التي قامت بالإمساك بها وإدارتها، وفي الحقيقة الآن المشهد الشعري في العراق بعد الأحداث والمعطيات الجديدة، أصبح مشهد متنوع وأضيفت له تجربة مهمة خاصة بعد ظهور شعر المنافي بسبب نفي مئات الشعراء أو العشرات منهم سواء بشكل إجباري أو بشكل طوعي بسبب الأحداث في العراق، وهذا النوع من الشعر يستعيد ذاكرة الوطن والأصدقاء.
ما هي مشاريعك القادمة؟لدي مجموعة شعرية تحت الطبع بعنوان الاسم الكامل لجلجامش وقريبا سوف يتم نشرها، ولدينا خطة لتهيئ كتاب للمقالات التي تم نشرها في جريدة الصباح وكما أشرت سابقا أني أتعامل مع المقالة كنص أدبي وليس كمقالة سياسية يمكن تنتهي صلاحيتها بانتهاء السياسي، دائما مقالاتي تعتمد على التحليل وكشف الظاهر وليس على الأحداث الآنية للسياسة، وأعتقد أن 150 مقالة تستحق أن تكون في كتاب وهي تمثل بصمة جديدة في كتابة المقال.
____________________________________________