أما وقد جمعنا عقد شرعي في سرير واحد، وحين أرادتْ أن تلعب دور العروس ليلة الدخلة، قبَّلتُ رأسها ورجوتها أن لا تستبدل فستان الزفاف بقميص النوم. ومثلما كان موقفها من قرار زواجنا، لبَّتْ طلبي بنظرة لم أراها من قبل في عينيها!
أمضينا الليل بطوله كل في مكانه ومع نفسه: هي في السرير داخل الغرفة وأنا على الكنبة في الصالة، وبذلك حررنا تفاقاً ضمنياً لطبيعة علاقتنا الجديدة، ومن دون عقود أو شهود.
قررنا أن نكون زوجين بموجب عقد زواج فقط ولا شيء آخر إلى أن يأتي يوم نقرر فيه بمحض إرادتينا، وطبيعة مشاعرنا آنذاك تجاه بعضنا، مصير زواجنا وعن قناعة تامة لا تفرضها مصلحة ولا تخضع لحسابات المال وفي ضوئه يُتخذ قرار.
***
في اليوم التالي، وعلى طاولة الفطور، طلبت تونس إلغاء كل حجوزات السفر والإقامة لقضاء شهر العسل “مادام زواجنا أصبح مع وقف التنفيذ”، هذا ما قالته، وأضافت:
ـ وعندما تتخذ، مرة ثانية، القرار المناسب لك حينئذ لكل حادث حديث.. قد أقبل بقرارك أو أرفضه.
واستدركت بنبرة حادة، وقد زاد اتساع عينيها:
ـ بس تذكر..
سكتت ثم وقفتْ، وأكملت حديثها، قبل أن تستدير وتدخل الغرفة:
ـ تذكر أنك أنت من اتخذت القرار لا أنا، في هذه وفي الزواج كله.
تفادياً لإثارة علامة استفهام، والحيلولة دون إتاحة الفرصة للتأويلات والتكهنات، اتفقت معها لاحقاً على تمديد إقامتنا في الفندق. قسمنا مرافق الجناح بالتساوي بيننا حسب اقتراحها: “لي الغرفة والحمام الملحق بها، ولك الصالة والأريكة والحمام الخارجي”، وبناء على رغبتها، أيضا، وافقت على أن لا أدخل شقها من المكان إلا بعد الاستئذان.
سبعة أيام كاملة حاولت خلالها إعادة تشكيل تونس “الأنثى” في عقلي، وإلغاء عمرٍ من حضورها في نفسـي كتوأمي، وتخطي الحاجز النفسـي الذي كان يكبلني ويحول دوني والاقتراب منها، ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل؛ فخرجنا من الفندق، بعد سبعة أيام بلياليها، مثلما دخلنا!
***
مضت بضعة أسابيع، بعد عودتنا إلى بيتنا، أظهرنا خلالها لكل من حولنا ما يجب أن يكون عليه “عروسان عاشقان”.. مثلّنا الدور بمهارة يقف عاجزا دونها أفضل الممثلين براعة. وكانت تونس أكثر تقمصاً للدور وأكثر إقناعا.. لاسيما حين تلتقي أنفاسنا وأحدنا يطعم الثاني حبات الرطب أو شم رائحة زهور الياسمين، وحين تبالغ في لعب دور الزوجة الحبيبة؛ فتضع رأسها على كتفي وتلصق جسدها بجسدي. كنا نتصرف كعاشقين يَتَصَيَّدان كل لحظة لإظهار السعادة أمام أعين أفراد أسرتيهما.
وتصالحنا مع كوننا شخصين ـ رجل وامرأة أو ذكر وأنثى ـ ينامان بموجب عقد شرعي في غرفة واحدة، هي على سرير الغرفة الوثير، وأنا على سرير مطوي أحضـرته من مخزن أثاث ملحق الضيوف.. أنصبه كل ليلة في الطرف البعيد للغرفة، وفي النهار أخفيه في خزانة الملابس!
ـ 2 ـ
الخضراء. يصعب التكهن بما يدور في رأسها وتفسير تقلبات مزاجها؛ فقد تمادتْ ذات ليلة متعمدة في إثارة غَرِيزَتي بلعب دور الفتاة المغناج بعد أن خَلعتْ عن جسدها رداء الخجل، وظهرت من ركن الملابس مرتدية بدلة رقص شرقي وعلى وجهها ابتسامة غواية وفي مشيتها وحركة قوامها غنج ودلال.
وبدأت، على أنغام عزف منفرد على آلة “القانون” المنبعث من نظام صوتي توزعت سماعته المخفية بين سقف الغرفة وجدرانها، رقصة مُتَوَهِّجة .. تكسـر مشيتها وهي تدوس الأرض بأصابع قدميها، وتثني قدها الممشوق وتهزه.
ظلت عيناي تلهثان وراء جسدها الفاتن على طول الغرفة وعرضها. كانت أنثى ساحرة بامتياز أفقدتني صوابي، ونسيت أنها الخضـراء زوجتي مع وقف التنفيذ حسب اتفاق صغتُ بنوده ووضعت شروطه بنفسـي ليلة الدخلة!
كنت في أوج تفاعلي معها: أهز جسدي واقفاً.. أصفق حيناً وأُطوح بذراعيّ في الهواء وأفرقع أصابعي حيناً آخر، وحينما مرت بالقرب مني ودارت حولي وأخذت تميل بكتفيْها من الخلف وتلصقهما بكتفي، وهي تنفض جسدها بخفة ودلال، شعرت برعشة صاعقة سرت من رأسي إلى أخمص قدميّ، وزادت رائحة دخان العود المعبق برائحة جسدها من تأزم جسدي.
بدت لي تونس في تلك اللحظة امرأة فاتنة.. تجلت فيها كل أنوثة نساء الدنيا؛ فوقعتُ فريسة شبقي وأمسكتُ يدها وأدرتُ جسدها كله ناحيتي، وحالما اقتربت أنفاسي منها صرخت: “لا”، ودفعتني عنها بقوة!
حاولتْ التخلص من قبضة يدي على معصمها ومن ذراعي الأخرى التي طوقتُ بها رقبتها، إلا أني جذبتها بشدة إليّ، وكانت أنفاسي أسرع إلى خَدِّها؛ فقاومت بشراسة لبوة لكن سرعان ما تقوضت مقاومتها بعد أن أخضعت جسدها بقوة ساعدي، واستسلمتْ الأنثى داخلها لرغبتي فهوينا على السرير ككتلة واحدة.
وأطلقتْ صرخة لم أسمعها.. تجلى صدى دويها على مُحَيَّاها، قبل أن تسحب وسادة وتغطي بها وجهها.
دست على أرضها البكر، وبدأتُ بذلك العد التصاعدي في مسيرتي لإفساد حياتها، وصوتها يطن بين أذنيَّ وهي تقول لي ذات مرة مضت: “لو لم تكن يونس حيم ابن عمي لتزوجتك، وأعرف أن من سيتزوجني لن يكون مثلك. فأنت قدري وستكون سبب فشل زواجي وإفساد حياتي، وفجيعتي”.
***
لم أركض إلى الحمام للتخلص من لزوجة جسدي، ولم أشغل نفسـي بالبحث عن ما يؤكد لي طهارة جسدها، وإنما استلقيت إلى جانبها من دون حراك غير تثاقل هواء الزفير والشهيق، وظلت هي صامتة تغطي وجهها بالوسادة، وأوتار القانون سياط لاسعة تمتد من الجدران وتتدلى من السقف لتجلد ظهري!
ابتسمتُ.. لا ابتهاجاً بشيء؛ فليس فيما ارتكبت من حماقة بحق الخضراء ما يثير البهجة، وإنما تذكرتُ صورة عروسي صباح ليلة الدخلة، التي طالما حلمتُ أن أصنع لها من صدري وسادة، وأنا أقبض بأطراف أصابعي شعرة علقت بشعر صدري وأعيدها مازحاً إلى رأسها.
انتهت وصلة القانون، ساد الغرفة هدوء موحش لا يقطع رتابته غير ضجيج أنفاسي ولهاث جسدها، الذي قرفصته في وضع أشبه بوضع الجنين في الرحم.
شعرتُ بتعاسة بالغة، ودخلتُ في حالة بائسة من تأنيب الضمير، أغرقت نفسـي في كم هائل من النعوت والأوصاف البذيئة. وددتُ لو كانت بيدي طريقة لمعاقبتي على ما فعلتْ؛ فقد سفحتُ دمها ولم أحقق فوزاً ولا قبولاً، ولا رفعتُ راية النصـر على تلال صدرها، كنتُ أنا المنتصـر وكنت أنا المهزوم أيضاً!
وإن لم أرتكب خطيئة فيما حدث، لكني، من دون شك، ارتكبتُ فعلا شائنا بإرغامها على ما لا تريده وإن كانت هي سببه ومن دفعني إليه.. لاسيما أني أنا الذي وضعتُ، وفي ليلة زفافنا، شروط العقد الذي ستقوم عليها حياتنا الزوجية المؤقتة وأولها أن لا ننام في سرير واحد، وأن لا يتخفف أحدنا من ملابسه في حضور الآخر.
***
عندما قررتُ إبقاء زواجي بالخضراء “مع وقف التنفيذ”، أخذت على نفسي عهداً أن لا أقترب منها إذا لم يكن ذلك بدافع الحب أولاً، ومن الطرفين، لا بموجب تمكين الزوج من الاستمتاع بجسد زوجته كحق شرعي له بغض النظر عن رغبتها.
فتونس لم تكن بالنسبة لي مجرد بنت عم زوجوها ـ راغبة أم رافضة ـ من ابن عمها، وإنما كانت توأم روحي، ولن أضعها في خانة الزوجة المانحة للمتعة بالحلال ليس إلا!
حاولتُ الاعتذار عما دفعتني إليه، ولم أجد ما يُقال غير كلمات مكررة إلى حد الابتذال لا تقول شيئاً.. خرجت من فمي على عجل، فردت من دون أن تلتفت إليّ:
ـ لا تعتذر عن تحصيل حقك.
قالت ذلك وكأننا في سوق “الجمعة” للبيع، والشراء، والمقايضة.
وغرقنا في الصمت حتى ظننت أنه لم يعد بيننا ما يقال، لكن صوتها جاء هذه المرة تَعِباً ومخنوقاً بان في نبرته اعتذارٌ صادقٌ:
ـ أنا نفسي لا أدري لماذا تماديت إلى هذا الحد؟!
وأكملتْ بنَفَسٍ متقطع وارتعاشات خجولة:
ـ بعد أن طغى عليّ مؤخرا إحساس بقصور أنوثتي.
وبعد قليل:
ـ أنوثة لم تُحرك فيك ساكناً طوال الأيام الماضية، بعد أن فقدتُ الأمل في استمالة عواطفك!
شعرتُ كأن سهماً حامياً اخترق صدري؛ فقد أخذتني المفاجأة في دوامة فادحة.. مَشْدوهاً بما قالته عن محاولتها لاستمالة عواطفي.. الأمر الذي لم يخطر لي على بال! لعل ما طرأ، في غفلة مني، على تصرفاتها في الأيام الأخيرة أتى في سياق محاولاتها تلك؛ فقد كانت تُعنى بمظهرها وزينتها أكثر من أي وقت مضى، وتبالغ في استخدام العطور وإحراق البخور قبل أن نأوي إلى الفراش ليلا.. كل في مكانه من مساحة الغرفة الواسعة.
حملتُ جسدي إلى الحمام ـ جسدٌ أَصابه الوَهَن ـ بعد أن غطيتُ جسدها بملاءة السرير. وقفتُ طويلاً تحت “دش” ماء ساخن.. محاولاً إزالة آثام تصرفي الأهوج عن جسدي.
كانت ليلة مظلمة.. حالكة السواد. فقدتُ فيها عقلي وبصيرتي!
ـ 3 ـ
لم يبدُ على ملامح وجهها ولا في نظرة عينيها، وهي ترد عليّ تحية الصباح بالبرود المعتاد، ما يشيرُ إلى أننا دخلنا مرحلة جديدة في حياتنا الزوجية.. المرحلة التي تبدأ عادة في ليلة الدخلة، وإن كان دخولنا جاء من الباب الخطأ، بعد أن أمضينا أسابيع ونحن نمثل دور زوجين عاشقين. تعاملت معي كأن شيئا لم يكن، وكأن ما حدث البارحة لم يحدث قط!
خرجتْ هي وبقيتُ أنا وسط ذهولي، مشفقاً على نفسي منها ومني لفرط حيرتي.. لا أدري كيف ألملم شتات أفكاري، وأرتب خطواتي القادمة، ومن أين أبدأ يومي وكيف؟
خشيت أن يؤسس ما حدث بالأمس عتبة بداية لنهاية كل ما كان بيننا.. الآني منه والآتي وما سبق، وتداعياته على الأسرة ستكون أشد.. تتحمل تونس الجزء الأكبر منه؛ فأنا لم أكن في فعل الخطيئة وحدي، ولا كنت الشرارة التي ستضرم النار وتحرق فصول تاريخ أسرتنا.
***
لم ينطق لساني بكلمة واحدة طوال ذلك النهار، ولم تكن لي رغبة في رؤية أو التحدث إلى أحد. أمضيت النهار بطوله في غرفة بملحق الضيوف، التي أعتدت اللجوء إليها كلما اشتدت حاجتي للبقاء وحيداً.
قضيتُ ساعات صباح ذلك النهار مستلقياً على السرير.. مُتعَب الذهن أبحلق في السقف لا أعرف أصدق من: عواطفي أم عقلي، وتزيد من حيرتي عبارتها تلك “أنوثة لم تُحرك فيك ساكناً، بعد أن فقدتُ الأمل في استمالة عواطفك!”.
كنتُ بحاجة لإسكات الضجيج والصـريخ الذي اكتظ به رأسي، والحد من تدافع المخاوف والهواجس، وصخب الصـراع الذي استفحل داخلي، وأن أتخلص من الغضب الذي اجتاحني على نفسـي وعليها، فلم أجد شيئا يعينني على مرور الوقت القاتل وتخفيف ما أشعر به وأنا حبيس ذاتي غير نصف زجاجة “فودكا” نسيت أمرها، منذ أشهر، في مخَبأ سـري بحمام الغرفة.
ومضيتُ ساعات المساء أتجرع “الشـراب” على مهل، ومعه لوثتُ جسدي وهواء الغرفة بدخان علبة سجائر كاملة.. أفكر فيما عليّ فعله عندما يحل الليل وآوي إلى فراشي، وتونس على بعد نَفَسٍ مني.
صحيح لم يكن قرار الزواج قراري.. لاسيما أن الفكرة برمتها كانت خارج دائرة اهتماماتي وخطط مستقبلي، وانصياعي لأمر والدي ورضوخي لدموع والدتي المريضة لم يأتي من باب لعب دور المسيح “المُخَلِّص”، بيد أن تصـرفي مع الخضـراء لم يدفعني إليه أحد وإنما كان بمحض إرادتي، وإن هيأت هي أسبابه، حينما اعتقدتُ واهماً، في غفلة من وعي، أن علاقة امتدت عمراً يمكن إعادة تشكيلها من جديد بشهوة فارت ثم انطفأت في غضون دقائق!
***
بعد طول تفكير وتمحيص أقنعت نفسـي وأنا في حالة ذهنية غير سوية، بعد أن سهَّل الشـراب عليّ الأمر، كغواية عاهر، وأنا أسكب آخر ما في القنينة من فمها مباشرة في فمي، بضـرورة إعادة الكرَّة.. قبلت هي أم رفضت لا فرق!
اعتقدتُ خطاء، ونسيت وعدي لنفسـي، أن هذه الليلة ستحدد مصير حياتنا الزوجية.. إما الحفاظ على زواجنا، وإن لم يكن لنا خيار في مده، أو إعلان الانفصال وتحمل تبعاته وما سيترتب على ذلك من خلاف وشقاق سيطال أفراد الأسرة كافة، ولن يسلم أحد من ناره!
ولم يدرْ بخلدي سابقاً أن اليوم الذي راهنت عليه لاتخاذ قرار تحديد مصير وضعنا الزوجي سيكون كارثياً، وسيرمي بعُفُونَة الدنيا في وجهي، ولا يحمل شيئاً من تفاصيل ما كنت أتوقعه!
***
“كل لعبة ولها بَسْ“، هذا ما سمعته من جدي لأمي حين تكالبت عليه أمراض الشيخوخة.. لازمة كان يرددها كلما سأله أحد عن صحته. “كل لعبة ولها بَسْ” قلتها لنفسـي سراً مرة، وكررتها بصوت مسموع مرات: “سئمتُ لعب دور الزوج العاشق.. دور لم أسعَ إليه وإنما أجبرت على لعبه، ولا رغبة لي في مواصلة التمثيل”، وزدت عليه، منتشيا بقراري “الليلة سأفعل ما لم أفعله ليلة الدخلة”.
بَيَّتُ نيتي لإثبات أن فحولتي كفيلة بإعادة ما انفلت من علاقتنا إلى نصابه.. كمن فرَّط في ملك طال وقته وحان الأوان لاستعادته. ولعله حديث العقل في وقت لا تؤخذ فيه رجاحة العقل مأخذ الجد: إما أن نتصالح مع وضعنا كزوجين أو الانفصال وليذهب المال والجاه إلى الجحيم.
***
دخلتُ الغرفة؛ فوجدتها جالسة على السـرير ساكنة لا تفعل شيئا، وقد حضّـَرت نفسها وكأنها أدركتْ أن ما حصل البارحة يمثل البداية الحقيقية لحالة زوجية أمضينا أسابيع نحاول تجاهلها، وإن كنا نمارسها أمام الآخرين بتجلياتها كافة.
جربتُ افتعال حديث بهدف تهدئتها والاعتذار عما بدر مني الليلة الماضية.. حاولتُ فتح ثقب في جدار الصمت العازل بيننا، الذي تعاونا معاً على وضع حجر أساسه، هي بغواية أنثى وأنا بشبق ذكر، بيد أنها سرعان ما كانت تجهض محاولتي بردود لا تتجاوز “نعم” أو “لا”.. تقولها بصمت بهيم أو بنظرة مستغربة نافدة وكأنها لم ترَ وجهي من قبل.
لم تفعل تونس شيئا غير أن تؤدي دور العروس المغصوبة على أمرها في ليلة الدخلة. وأظنها بذلك تتعمد دفعي إلى ارتكاب حماقة ما تضاعف من أزمتي مع نفسـي مثلما فعلت ليلة البارحة.. وسيلتها للانتقام مني وتأكيد نبوءتها “أنت قدري وستكون سبب فشل زواجي وإفساد حياتي، وفجيعتي”. 4%
***
طغى عليّ إحساس بالإهانة؛ فاندفعتُ إليها بغيرة رجل شرقي قرر أن يثبت ذكورته ويثأر لرجولته على جسد أنثاه، بيد أن جسدها البارد، وعينيها المغمضتين والتقزز الذي كان يظهر على ملامح وجهها قوياً وحارقاً كلما اقتربت أنفاسي الملوثة برائحة الشـراب والدخان من أنفاسها، كان يحتاج إلى أكثر من دفء جسد آخر، واعتقاد خاطئ بأنّ الملامسة الأولى قد أغلقت باب علاقتنا السابقة إلى الأبد، وشرَّعت باباً آخر على مصـراعيه لريح أخرى مختلفة.
بدت الخضـراء وكأنها انسلخت عن جسدها فغدى ليس منها. حاولت غرس خنجري على وهاد أرضها من دون حاجة لإشباع جوعي؛ فانكفأ جسدي على نفسه وأنا أراها تُشيح وجهها في كل الاتجاهات وتصده عن وجهي. ولم يكن بوسعي اغتصاب مشاعرها، مثلما أجبرت جسدها البارحة على الرضوخ لقوتي، ولم أبذل جهداً أكثر؛ فانسحبتُ انسحاب فارسٍ انكسر سيفه.
جلستُ على حافة السـرير، خبأتُ وجهي بين كفيّ حائراً مستشعراً حجم مصيبتي. كانت خسارتي فادحة. فقدتُ إيماني بذاتي وخسـرتُ تونس الإنسانة ولم اكسبها زوجة أو حتى شريكة سرير.. علاقة تبقي علينا معاً بموجب عقد شرعي!
كمن تلقى طعنة خنجر في صدره بيده، فهي التي افتعلت أسباب كل هذا التجني.. مني عليها ومنها عليّ، وتعزز ظني أنها دفعتني متعمدة للإساءة إليها مرتين.
جثم على الغرفة وعلى نفسينا صمتٌ ثقيل موحش.. أخرجتنا منه بنشيج خافت حرك بخفة أطراف السرير، ومعه شعرتُ بأطراف أصابعها الباردة المرتعشة تلامس ظهري. وحين التفتُ مندهشا، كانت عيناها اللوزيتان تغمرهما الدموع، ويدها الأخرى تُكَفْكِف ما فاض منه على خديها، قبل أن تقول بصوت خافت بالكاد يُسمع: “أرجوك روح لسريرك“.
***
اكتضت نفسي بأحاسيس متناقضة تجاه الخضـراء: أكرهها وأحبها في آن، أبغض الأنثى المثيرة فيها.. تلك التي أغوتني بهدف إرضاء غرور حواء داخلها ونرجسيتها ليس غير. ما أصعب أن تكره من تحب!!
وددتُ حينئذ أن أمسح دمعها بأصابعي وأن أحضنها.. أشبعها قبلاً وأضع رأسها برفق على كتفي وأضمها إليَّ أكثر، لكن، وعلى خلاف كل ذلك، سيطرت عليَّ حالة من الكراهية والنفور؛ فقررتُ أن لا أقترب منها ولا أتبادل معها حتى “السلام” الذي يتبادله الغرباء.. عقاباً لها، أو ربما تفادياً لرؤية شظايا صورتي المهشمة في عينيها.
– 4 –
امتد شرخ بيننا بحجم زخم علاقتنا السابقة وسنواتها الطوال، إلى أن تحولنا إلى غريبين يستنشقان الهواء نفسه ويشربان من ماء واحد، وينامان على مبعدة خطوات في مكان لا يملكان ما يبقيان عليه قائما.. شرخ ليس من صنع أيادينا وإن شاركنا في وضع أسبابه وكنا أدواته.. سيطول ويتسع، ولن تقتصر تداعياته علينا ـ هي وأنا ـ فقط.
غدا قلبانا أقل سـعة بنا.. نختلف لأتفه الأسباب، وأحيانا نصطنع ما يبرر خلافنا ونتعمده؛ ويلقي الواحد منا اللائمة على الآخر فيما انتهينا إليه، فارتفعت نبرة صوتينا عاليا وتجاوزت عتبة باب غرفتنا.
***
أصبحت تونس لا تُحْتَمل: حدية ونافدة الصبر.. تجتاحها عصبية جامحة تفقدها أعصابها وصوابها.. نزقة في تصـرفاتها ومتقلبة المزاج.. لا يُثنيها عن آرائها منطق أو حقيقة، وغدت ردود أفعالها معي عدوانية. فكلما اجتمعنا أو تحدثنا واستدعينا هفوات الماضي وأخطاءه، يزداد البون الذي يفصلنا؛ فيطغى على حديثنا اختلافنا، ويتحول نقاشنا إلى ميدان صراع يحاول كل واحد منا الإطاحة بالآخر خارجه!
بدا وضعنا معاً في غرفة واحدة أشبه بعدوين زُج بهما في زنزانة واحدة ولا أحد يقيهما من شر بعضهما. كان واضحاً أن مسار حياتنا كزوجين أصبح يميل أكثر فأكثر إلى الانفصال، فإن لم يكن انفصالا دائما؛ فليبتعد أحدنا عن الآخر، لعلنا نجد في الابتعاد ما يضمد جراح القرب!
في واحدة من نقاشاتنا، بعد أن توقفنا حتى عن تبادل تحية الصباح، اختلفنا؛ فتحول حديثنا إلى مشادة كلامية وارتفع صراخها؛ ففقدتُ صبري ووعي ورفعتُ كفي لأهوي به على خدها، ولكني تمالكت أعصابي؛ فكتمت صوتها براحة يدي، وسحبتها من شعر رأسها إلى السرير لأهدي من صراخها وهياجها!
كنا بحكم مطلقين، ولا يسعنا إلا أن ننفصل بجسدينا مثلما ابتعدت أرواحنا ولم يعد هناك ما يجمعنا؛ فأخذت أشيائي كافة، وانتقلت إلى ملحق الضيوف في عز النهار، ولم أعد أحفل بأحد، ولا أخفي إقامتي الدائمة هناك، بعد أن كنت أتسلل إليه كلما ضاق حالي وطغت على نفسي رغبة للبقاء بمفردي.
“رب ضارة نافعة”، هذا ما قلته لنفسي وأنا استدعي أسباب ما اختلفنا عليه: من يدري. لعلنا نحتاج إلى فسحة للابتعاد.. ترك مسافة بيننا.. هدنة للتفكير بِمَنْأى عن الضغوط سواء كنا سببها أم لا!
***
أخذت علاقتنا منحى أقرب إلى النفور منه إلى أي شيء آخر.. كنت أتحاشاها مثلما كانت تتحاشاني، وأصبحنا لا نتحدث إلا في حالات الضـرورة، ولا نجتمع إلا في المناسبات التي يحرص أفراد العائلة على حضورها، ومن يَتَخَلّف عنها لا عذر له.
ولعل أكثر ما كان يثير مواجعي، خلال الأيام الأولى بعد حدوث ما حدث، رؤيتها تمشـي أمامي، لا لشـيء غير أنها تدفعني إلى استحضار صورتها وهي ترقص على مبعدة من أنفاسي وتتمايل غنجاً ودلالاً، وقسوتي معها بعد أن أثارت متعمدة، كغواية شيطان، حس الذكورة فيّ!
***
عززت موقفي من الخصام معها بالابتعاد عن البيت. زرتُ بعض أصدقائي في أماكن أخرى من الوطن، وذهبتُ لزيارة عمتي في “كَمَنْزار”، حيث أدمنت الجلوس مع الصيادين على الشاطئ وهم يصلحون شباكهم ويكركرون الأرجيلة، ويثرثرون عن زوجاتهم، ويلعنون الكوريين والتايلنديين الذين استباحوا حرمة بحرهم، ولم يتركوا لهم غير فتات الأسماك.
ولبيّت دعوة صديق قديم تغيرت أحواله.. كان لا يقيم الصلاة ولا يصوم رمضان، فوجدته بعد غياب طال سنتين في وضع مختلف: داعية وواعظ.. يتنقل من قرية إلى أخرى ومن مسجد إلى آخر يدعو الناس إلى التمسك بدينهم، فأقمت معه في مسجد قرية جبلية نائية وبصحبته مجموعة من الشباب الذين نذروا وقتهم وجهدهم للدعوة والتبليغ.
وفي أيام أخرى اعتزلت فيها الناس جميعاً، وخاويت الليل وفضائيات الدنيا، والدخان.. لا أرى غير وجه خادمتنا الآسيوية “لانا” حينما تحضـر لي ما أطلبه من طعام وشراب.
***
لم يكن دافع اعتزالي وغيابي انتقاماً من تونس، وإن كانت هي التي دفعتني إليه مثلما دفعتني ذات ليلة، مُتَعَمِّدة، لارتكاب حماقة في حقها، ولا جلدا لذاتي بعد أن قبلتُ شروطها وأرغمتُ نفسي على مجاراتها، وأظهرت لها من اللين والصبر والتسامح ما قد بدا لها ضعفا وتساهلا، وإنما محاولة لترميم جرحي بعيداً عن من اشترك معي في بعثرته. كنت بحاجة إلى مسافة وقدر من البعد لاستعادة بعض ما فقدته مني!
لقد اشتركنا في تعذيب نفسينا، وتسابقنا للفوز بجائزة “أكثرنا قسوة وظلماً للآخر”؛ فلم تكن الخضـراء أفضل حالاً مني؛ فمثلي عانت، وكانت معاناتها أكثر وضوحاً؛ فقد ذبل بريق عينيها بعد أن انتشرت الهالات السوداء حولهما، واكتست قسمات وجهها ظلال الحزن والأسى، ولم تعدْ تبتسم إلا فيما ندر، وهي التي كانت إذا ابتسمت أثارت الحبور في نفس من حولها.
***
أصبحت الخضراء هامدة. صامتة. شاردة، وقليلة الكلام والحركة.. تتحاشى النظر إليَّ، وتتفادى الحديث معي أو الاقتراب مني إلا فيما ندر. وكانت ابتسامة أمها تزداد عرضاً يوماً بعد آخر، وهي تنثر الخبر وتكرره حيثما واتتها الفرصة أن تونس ورثت عنها بعض علامات “الوحام” منها الانزعاج من رائحة الزوج والاقتراب منه بينما واصلت الخضـراء صمتها، فلم تؤكد الخبر ولا نفته، ولعل تفسير أمها جاء لصالحها، فأعفاها من تفسير ما هي فيه!
واصلت الخضراء اعتزالها، وواصلت أنا غيابي.. لا نلتقي إلا في ساعات النوم، ولا نتبادل من الكلام إلا قليله، وفي الصباح يسرع من يستيقظ قبل الآخر في الخروج من الغرفة.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC