مبتدأ /
(لا أعرف إلا الليل قول فادح في فمي لمن يسهرون في المقهى والنادلات المبتسمات وغبار الطرقات يسرب التحديات تحت الإسفلت لعامل طريق تحت عجلات مركبة مسرعة الليل الذي يفتش في جيوبي عن فشل أو عن حارة مهجورة تحت ظل قلبي مكان للصمت …)
هكذا يختار أحمد العسم الليل مختلفا تماما عن ليل الآخرين ، ليل الثنائية المكثفة بالأحزان ، ليل الحب ، ليل الموت ، السفر البعيد المتصاعد من روح ثائرة , لا تصدأ ولا تنطفئ, بل تظل متوترة ومنكسرة ، مغتربة للأبد ، إنها حالة فريدة من الضياع الشرس ، حيث يكون المرء متلبسا بالأضداد، الصمت والفوضى , الحضور والغياب ، المرئي والبعيد ،علامات مختلفة منطلقة من ترادفه التام مع أشياء الليل بكل حالاتها ، الواقعية والرؤيوية , الذين يسهرون في المقهى, المتلبسون برغبة اكتشاف الظلام , النادلات اللواتي يسفرن بالفرح الشفيف , صورة الأنثى الحاضرة بالمعنى الجمالي الكامل , غبار الطرقات الذي هو صخب الأيام , مأساة الوجود الحارق ، مأساة الرغبة في امتلاك الملامح الواقعية , حيث العمل المضني الثقيل الخارج عن فضاء الجماليات.
هذه المرحلة الواقعية المعبرة عن قلق الشاعر وحزنه من تواتر المواقف المؤلمة , أظهرت عوالم رؤيوية واضحة من خلال الكنايات التي تنبيء عنها المقاطع ،مشاهد الاندثار والتلاشي , البحث المستمر عن مدينة دافئة , تدثره من وجع القلب , من برد الروح القارس , من مشاهد الحاضر المريض الذي يعيشه ، من الذاكرة المكتظة بالصراخ والتشرد جراء أوجاعه وجراحه ، ولا عجب بعد هذا الأنين المتواصل أن يأتي الليل مرادفا ومشابها لما يكنه الشاعر من خسارات .
يعبر الشاعر عن حلمه الصامت بأيقونتين ، أيقونة العشق الذي هو ليل الحب , وأيقونة الجفاف المتمثلة في ليل الموت ، وعبرهما تكون مجموعة (ليل يبتل) خالصة تماما لليل المنفى ،( الحب والموت), معادلان للمجهول وللحالة المأساوية القاسية , حالة توحد الشاعر بقسوة الحب ، الحنين الدائم للمعشوقة الراحلة وقسوة الموت ، ذكريات العابرين في المتخيل .
ومن منطلق ذلك ، تتركز الورقة على مرآتين لليل ، مرآة الحب ومرآة الموت ومدى التصاق الشاعر بهما , عبر أداة التشظي الحاد والتصدع الروحي المتوغل في الأعماق.
أ- ليل الحب /
بالشروع إلى عوالم الليل في نصوص مجموعة ليل ,نجدها مكثفة في صورة الحبيبة الغائبة ، الهاربة من القريب ، المتحررة من واقعية الحضور ، لذلك يستحضرها الشاعر كثيرا حينما يكون مقترنا بالظلام ، رمز هجوع الحواس ، رؤيا القلب تجاه الأشياء ، إنها العلاقة النقية الخفية بين الكائن والمرادف له من الكائنات وهنا يتحرر الشاعر من سلطه الفعل الجماعي ليؤسس فعله العشقي الخاص به وحده ، ذاته الأخرى ، معشوقته التي يرى فيها كل الأشياء الثائرة ، الحب والظمأ والرغبة والانصهار والمنفى، يرى أنها انتماؤه لكل ما يتصف بالخفاء ، أصوات الأعماق ، المناخات الحالمة ، غناء العشاق لكشف عواطفهم وأحاسيسهم ، يقول في إحدى قصائده ( لا عليك ادخلي أحلامك سأشتعل وتتسع مساحة جفافي/ وأنا عائد لا حزن لدي إلا على انتهاء الليل ).
نلاحظ هنا المفارقة بين أمر الرحيل وحزن الفقد ، حيث من الغرابة أن يستسلم العاشق للجفاف ويطلب من محبوبته الدخول في عوالمها دونه ، رغم أنه يعلم مدى تأثير البعد والاغتراب عليه ، يعلم أنه سيظل وحيدا محترقا ببكائه , بليله الضائع في العويل ، وقد يكون الأمر مختلفا عما نفسره في معنى الرحيل ، إذ ربما يكون متعلقا بدمع خفي لا يظهره الشاعر حفاظا على زهوه وعنفوانه ورغبته في أن تكون العلاقة بينهما صورة واحده للمتعة والتشرد ، يكتظان بالليل معا ويشرعان كل الأشياء متحدين لا يفصلهما شيء ، لا الزمان ولا المكان ، إنها لحظة الترادف المطلقة التي تعبر عن صفاء العاشق والمعشوق ، لذلك عبر عن مضاعفة انكساره آخر الليل وعن دماره كلما توغل في العزلة والحنين .
ومن هنا كانت علاقة الليل و الهيام بالراحلة صفة بكائية غامضة ، غموضها إشارة حزينة لما يخبئه الشاعر من توتر وانفعال , إنه المعنى الحقيقي للأثر المهدور في التلاشي , لنتأمل حين يصف النبيلة التي شغف بها ، ((الوعود الأولى من الليل تدفع الوقت للمضي سريعا أنت النبيلة التي لمست حياتها في غفلة منها أحب يديك التي ترفض كسر الأيام … ، قولي قبل أن أطوي نسخة الليل وأفلت منك في جيبي حياة مبللة وعاطفة واسعة…)). رغم هذه العاطفة الواسعة التي يمتلكها الشاعر إلا أنها عاطفة مكللة بالخيبة , غير قادرة على التجدد ، بسبب رفض المحبوبة أن تقول شيئا عن مناخات الروح الهائمة وابتعادها القاسي الذي يحطم الشاعر ويكسر كل شيء داخله ، هذه اللحظة الأكثر حزنا ، حينما يتردد العاشق بالشكوى ، ولا أحد يسمع نداءه ، حينما يحاصره الوقت بالغياب ، ويكون الليل مجرد هذيان مطلق ، لا يعود له بالفرح المنتظر ، وفي مقطع آخر , يذرف كثيرا من الدمع ، كثيرا من الانتظار , يتألم , (( لم أترك للغرفة إلا ساعة يدي المفقودة منذ عام 2003 وخيار آخر وبندول الساعة الكبيرة المتعطل كي يذكر جسدي الذي خاض معه حرب شرسة مع الوقت وأنهكهما الحنين أغادر إلى جهة القلب المنطفئة ربما نبتسم أو نظل معا في الانطفاء ليس لدي في الجهات الخافتة إلا ضئيل الضوء والمسافة من الزواية الأكثر انتظارا للحب )) .
يظل الشاعر غامضا في حبه ، حالما رغم الجهات الخانقة التي تكتنفه ، رغم ملح الأيام وعشقه المريض بالتردد والكآبة ، لم يجد شيئا يدثره سوى بقعة ضوء باهته في آخر الزاويا، وثمة نافذة مفتوحة انتظارا للحظة الوصول التي لا أثر لها مطلقا ، وهنا جوهر القلق والحزن ، إن مأساة الشاعر هي الوقوف على مشاهد موغلة في الجفاف ، مشاهد أثار الهيام واقتفاء البعيد في الوقت ذاته , المرايا المتخيلة لحضور الحبيبة الذي هو في أصل المعنى اشتعال الضيق والحرمان والصور الفظة القاتمة.
ب – ليل الموت /
ثمة صورة أخرى تشاغل الشاعر عبر التجلي الخفي في آخر الليل ، عبر الصمت والسكون وهي صورة الموت ، الراحلون إلى الأبدية ، إنها صورة كاسفة حزينة تنبئ عن وجود ما لا يحتمل من البعد والتبعثر , يقول (( عليك حمل ليلك المصاب من سطح مفتوح وتقرأ حديثك في الأشواك …)) حتى في حالة اللاشعور ، الليل المصاب بمرادفات الحزن، يكون الشاعر أكثر خوفا من الإفصاح بشخصيته المهزومة ، ربما هي مرآة الشعراء تظل ضبابية مهما حاولنا الاقتراب منها ، يستحضر الشاعر كل الضمائر المختلفة ( المتكلم والغائب والمخاطب ) كلها في بوتقة شخصيته الذاتية ، الأنا المصابة بعذابات الليل (( الوقت والانتظار والثقوب والقلق في محتواه مرمى في حضن الأسئلة ) كما يقول .. ، هذه الأسئلة المكتظة بالألم و العبث تقود إلى عاصفة روحية شديدة , قادمة من جهات مختلفة ،
أولا الوقت ، حيث لا يوجد هناك تصالح روحي موجب مع الوقت بل دائما ما يمثل علاقة مظلمة داله على انحسار الفرح من ذاكرة الشاعر و يشير إلى ذلك في إحدى المقاطع (( أتعدد كثيرا في فراشي وأخبئ في الظلمة الوقت ولا أتحفظ على من يمر خلف النافذة )) .
نلاحظ أن السقوط في بئر الحرمان والعزلة مرادف لزمن مفقود ، غائب ، يمكن تسميته بزمن النهايات ، زمن الصدى , الفراغ الذي بين الكائن والحياة ، حيث الكائن – الشاعر- ملغي تماما من الواقع الحيوي ، غير قادر على إيجاد بيئة ملائمة لروحه الصاخبة , لذلك لا يعتبر الوقت لديه سوى مدارات مهجورة عارية من الحياة .
ثانيا الانتظار ، انتظار الغائب ، المجهول الذي لا يمكن الوقوف عليه ، علاقة الكائن الفاقد بالصمت و الأثر البائد ، كل اللحظات بالنسبة إليه إشارات ترقب وانكسارات قاسية ، إنه ترصد البعيد الذي لا أحد يعرفه سواه .
ثالثا الثقوب دلالة الوخز المستمر ، الهزائم المكثفة ، جراء العراء المحيط به ، صور التلاشي المختلفة ، حالات الخيبة التي يمر بها ، خيبات الحصول على المفقود .
رابعا القلق شكل الكائن المهزوم ، النتيجة الحتمية لواقع مظلم ، حاضر العذابات الفظة ، الزمن الجاحد الذي لم يستطع الشاعر سوى المثول أمامه
مرآة أخيرة
الشاعر, الكائن التائه في ” ليل يبتل “ يعيش جدلية الحضور والغياب , حاضر جسديا باعتباره كائن واقعي , يتمرغ في يوميات مغلقة غير مشرعة للمتحرر وغائب روحيا , إشارة للضياع الجارح , فقدان الجهة الأخرى , صورة الحلم المفقود ، الخفي الذي لا يراه أحد سواه ، وحده قادر على اقتفاء أثره الظاعن في البعد .
معنى ذلك ، إن مجموعة ( ليل يبتل )، خالصة لحزن الشاعر ودمعه اللامحدود , حاضره الشريد وانكساراته المؤلمة , وإن حاول أن يتحدث عن صور جماعية وزوايا غير ذاتية بالمعنى الظاهري إلا أنها في نهاية الأمر تقع ضمن عذابات الذات الأحادية تجاه الآخر ، الشعور الإنساني المتعلق بفكرة الانفصال عن الدائرة العامة رغم الوقوع في محاصرة أشكالها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ