يرتبط مفهوم الهوية الوطنية في اللغة العربية من الوطن والموطن ، فالوطن هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان ، ويتفاعل معه حياتياً ووجدانياً ، إنه الأرض المحددة في جغرافيتها السياسية بعدما صار للدولة مفهوم ومحددات قانونية وسياسية ، وقد جاء في لسان العرب في تعريف الوطن أن الوطن : هو المنزل الذي تقيم به ، وهو مواطن الإنسان ومحله ووطن بالمكان وأوطن أقام ، وأوطنه اتخذه وطناً ، والموطن ، تفعيل فيه ، ويسمّى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن ، وفي التنزيل العزيز : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة وأوطئت الأرض ووطنتها توطيناً، واستوطنتها أي اتخذتها وطناً ، وتوطين النفس على الشيء كالتمهيد.
وجاء في معجم الصحاح للجوهري أن الوطن يعد محل إقامة الشخص مع أفراد آخرين، ثم اتسع معنى المواطنة ليشمل إضافة إلى النسبة إلى البلد، الشعور بالتعلق به، أكثر من غيره، والانتماء إلى تراثه التاريخي وعاداته ولغته. وتؤكد القاعدة الأساسية في القانون الدولي العام ،وجود رابطة فعلية بين المواطن والدولة التي يحمل جنسيتها أي أن يكون عضواً فعلياً بالجماعة الوطنية له حقوق وعليه واجبات تجاه الدولة والمجتمع الذي يعيش فيه ، والرابطة الجنسية تتطلب أيضاً ، ارتباط الشخص عائلياً ووجدانياً بالدولة أو ارتباطه مادياً بإقليم الدولة بالاستقرار أو العمل فيه ومقراً لمصالحة أو اشتراكه في الحياة العامة في هذه الدولة).كما أن المواطنة لها أصل عربي مشتق من موطن الإنسان وإقامته ، فالإنسان الفرد المرتبط بالمكان الذي يقيم فيه ، وانتماؤه إليه هو مواطن ” في إطار التعلق بالأرض ، وتبعاً لموارد العيش . على أن مصطلح (مواطن )صار مرتبطاً بمضامين قانونية وسياسية واجتماعية مع تطور فكرة الدولة الحديثة.كما أن الالتصاق بالمكان ، والتعلق بالذكريات ، والتطلع إلى الآمال ..أوجدت شعوراً وطنياً عند المواطن ، هذا في الوقت الذي صار الدفاع عن الوطن واجباً دينياً وأخلاقياً وقانونياً . جاء في الحديث الشريف:( من مات دون أرضه وهو شهيد ) .وتحوّل الدفاع عن الوطن في مواجهة الغزاة عملاً بطولياً فيه نوع من القداسة ، ثم انتظم في إطار القانون وما يفرضه من التزامات. ولذلك لا يوجد أي تعارض بين الوطن والمواطنة، إذ أن كلمة المواطنة مستمدة من الوطن، فالمواطنة إذاً تتحدد على مرتكزين أساسيين لا انفصال بينهما وفق هذا المفهوم اصطلاحًا أولاها، ( جنس الإنسان ) وثانيهما، الأرض التي يعيش عليها الإنسان الذي يعيش على أرض محددة تكون له وطنا، ويسمى هذا الإنسان مواطنا، ويشترك مع غيره، ويتفاعل معهم، ويدافعون معا عن هذا الوطن الذي يجمعهم .كما أن صورة المواطنة في المدينة والتاريخ والتراث العربي الإسلامي نجدها حاضرة في هذا المفهوم بصورة واضحة وجلية ، ففي أدبيات التراث العربي نرى هذا المفهوم شائعاً من خلال الكلام عن حب الوطن والموطن “والاشتياق له والحنين لأهله وإلى مكان إقامة الإنسان في صباه وشبابه .ومن ذلك قول لابن الرومي في قصيدة وجهها إلى سليمان عبدالله يستعديه على رجل من التجّار أجبره على بيع داره .
ولي وطن آليت أن لا أبيعه وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكـرتهم عهود الصـبا فيه فحنّـوا لذلــك
إذن المشاعر الوجدانية والرومانسية طالما كانت رابطاً بين الإنسان والمكان ، ولكن من دون اكتسابها معنى حقوقياً محدداً . والسؤال متى اكتسبت مفردة ” مواطن ” المعنى الحقوقي أي المعنى الذي يجعلها مرادفة لكلمة citoyen أو citizen”.والمواطنة أيضا هي الانتماء للأرض التي يقيم فيها الفرد مع الآخرين في وطن يجمعهم ويتمتعون بالحقوق والكرامة الإنسانية، والالتزام بتأدية الواجبات عليهم بحيث يصيرون ” مواطنين أي يشتركون في الانتساب إلى وطن.ويساوي بينهم هذا الانتساب مساواة تجعلهم قادرين على التخلص ولو جزئياً من خصوصياتهم الفردية وعلى التواصل موضوعياً مع بعضهم ومع الغير على أساس صفة المواطنة فقط. فمجال المواطنة يختلف عن مجال الفردية بما فيها الدين لكون هذا الأخير ينظم العلاقة بين الله والعباد حتى في الروابط التي تجمع بين العباد. فمجال الفردية أو الخصوصية غير مجال المواطنة لأنه مجال الشأن العام الذي يهم الجميع على قدم المساواة ولا محل فيه للخصوصية الفردية وتعني المساواة هنا نوعاً من التماثل بين المواطنين بخلاف الخصوصية التي تميز بعضهم عن بعض كالدين واللغة والعرق والتي تدخل في إطار الحرية الفردية”.كما أن المواطن الذي تنطبق عليه صفة المواطنة هو ذلك الإنسان الذي يعيش على قدم المساواة مع أخيه الإنسان في حيز جغرافي محدد بغض النظر من جنسه أو لونه أو عرقه ، وكذلك انتمائه الديني أو المذهبي أو الاجتماعي ، وله كافة الحقوق وعليه من الواجبات ما على أقرانه المواطنين الآخرين الذين ينتمون للوطن الواحد الذي يجمعهم .
ويرى د/ علي ليلة في كتابه، (الموطنة وحقوق الإنسان): أن المواطنة هي الصفة المحددة من الفرد الذي ينتمي إلى جماعة سياسية معينة، أو ينتمي بجنسيته إلى دولة قائمة مع آخرين وعليه واجبات وله حقوق ، وبذلك تتحدد المواطنة على هذا الأساس بصورة عادلة بين الجميع ، ومن ثم ” يتعين القول إن وصف المواطنة باعتباره وصفاً يتعلق بالطرف الآخر في العلاقة مع الدولة ، هذا الوصف يتعين أن يصدق على كل من تشملهم الدولة بحاكميتها ، ويخضعون لولايتها ، والمعيار هنا لا يتعلق فقط بالوصف الذي قامت به الجماعة السياسية وتميزت عن غيرها ، ولكنه يتعلق بالنطاق الذي قامت على أساسه الدول وأخضعته لحكومتها ، ذلك لأن اشتمال سلطة الدولة على جماعات سياسية تضم أقليات بها ، هي صور متحققة في الواقع وتسفر عنها الحقيقة التاريخية في العديد من الحالات الماضية والحاضرة .إلى جانب هذه المفاهيم والتعريفات المشار إليها آنفاً هناك أبعاد أساسية لمفهوم المواطنة ، ويتمثل البعد الأول في التحديد اللغوي للمفهوم ، ويتمثل الثاني في التحديد الذي يفرضه السياق الاجتماعي والثقافي والحضاري ، بينما يتصل التحديد العلمي للمفهوم بالتراث العلمي الذي ينتمي إليه ، ومع تطور الدولة التاريخي ترسخت الكثير من جوانب الحقوق والواجبات للمواطنة ـ سنشير إليها في فصول قادمة ـ لم تكن متجذرة في مراحل تاريخية سابقة ، وهذه الحقوق والواجبات استندت إلى الحالة ” التي بلغها تطور المجتمع بالأساس. فقد بدأت المواطنة باعتبارها نوعاً من الانتماء للمكان حيث عاش الإنسان في مكان معين لا يستطيع فراقه وينتمي إليه. ثم أضيف بُعد الجماعة إلى بُعد المكان بعد ذلك وأصبح الانتماء موجه إلى الجماعة والمكان معاً، وحينما تطورت الجماعة وكبُرت فقدت تجانسها واقتصرت المواطنة على البعض دون البعض الآخر، ثم تطور الأمر إلى مرحلة جديدة حيث لعب الدين والكنيسة دورهما كمرجعية للمواطنة، وحينما تفجر الصراع بين الدولة والكنيسة وتراجعت الأخيرة برزت المواطنة مرتبطة بالدولة القومية معبرة عن الأمة التي شكلت مرجعية للدولة والمواطنة معاً.
ولا شك أن ثمة توازناً أو تقابلاً بين الحقوق والواجبات عند تحقق المواطنة الكاملة للمواطنين ، وتنشأ لهذا الجانب التقابل بين الحق والواجب ،وإذا كانت المواطنة تعطي المواطن حقوق المواطنة : الحقوق المدنية ، الحقوق السياسية ، الحقوق الاجتماعية ، الحقوق القانونية …الخ ، فإنها في المقابل تضع على عاتقه مجموعة من الواجبات القانونية ، والالتزامات المعنوية ، ومسؤوليات المواطنة ، كما تفرض عليه الولاء التام للوطن .ويحمي القانون ويضمن للجميع الحقوق المدنية والسياسية بما فيها حق المشاركة وصنع القرارات، كما يضمن تحقيق الإنصاف الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن حماية كرامة وحرية واستقلال كل مواطن.
لكن تجربة صحيفة المدينة أو دستور المدينة ـ كما يسميها البعض ـ والتي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم لسكان المدينة ـ يثرب تعطي نموذجاً فريداً ومتميزاً لمعنى المواطنة ومفهومها العميق ، لم نجده في مجتمعات أو شعوب أخرى سبقت العصر الأول الإسلامي أو في العصور اللاحقة عليه ، فقد صاغ الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الدستور ولغ فيه التعدد أو التنوع القائم في المدينة ،” وإنما صاغ دستوراً وقانوناً يوضح نظام الحقوق والواجبات ، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة ، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك . إذ جاء في صحيفة المدينة : ” وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثاً ولا يؤويه ، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل . وإنكم مهما اختلفتم في شيء ( فيه من شيء ) فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول ) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما دامو محاربين .. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين : لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، ومواليهم ، وأنفسهم ، إلا من ظلم ، أو إثم ، فإنه لا يوتغ ـ يهلك ـ إلا نفسه ، وأهل بيته،و لا شك أن ارتباط الإنسان بالوطن واستقراره به يعني أنه انتمى إليه وأصبح مواطنا على أرضه ” يحيا الفرد ويعبد ربه ومن خيراته يعيش ، والوطن نعمة من الله على الفرد المجتمع ، ومحبته والولاء له دائرة أوسع من دائرة محبة الأسرة ، في الوقت ذاته أقل من دائرة الانتماء المحبة والولاء للإسلام .وعليه فالانتماء للوطن إنما هو معزز للانتماء الإسلامي الذي هو الدائرة الكبرى كوطن أكبر للمسلمين . ومن إحسان الانتماء للوطن تنشئة الأفراد على المحبة والألفة والتماسك بينهم ، ويمكن أن يتم هذا في إطار الخلية الأولى للمجتمع وهي الأسرة التي اهتم بها الدين الإسلامي وأوضح أنه من لا خير فيه لأهله فلا خير فيه لوطنه . ولذلك فالانتماء للوطن لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع الانتماء للإسلام بل هو حلقة ودرجة تساعد عليه، أي على الانتماء للإسلام.ولذلك فإن المواطنة هي الانتماء إلى الوطن والمشاركة فيه بمجموعة بشرية قائمة بإرادة مشتركة مع الآخرين في العيش سوياً وفي حياة آمنة مستقرة ، ومن هنا فإن التأكيد على قيم المواطنة من شأنه أن يخلق بصورة متماسكة كالشعور بالأمان والاستقرار والخروج من إطار التبعية إلى إطار مبادئ وقيم تعيها الذات وتتمثلها قبل انخراطها واندماجها في الجماعة الوطنية . ولكي يتحقق المجتمع الأمن يتطلب الأمر أن يضم هذا المجتمع مواطنين على درجة كبيرة من الوعي بقيم المشاركة والانتماء وتحمل المسئولية وإبداء الرغبة في المشاركة الوطنية الراسخة والقدرة على ضبط النفس أمام الضغوط والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والعمل على إيجاد الحلول السليمة لها ، وكيف يكون لنا ذلك طالما يتعود عليه الفرد تعليمياً ومهارياً وتربوياً. إذن لا بد من تناول المنظومة التعليمية لهذه المعايير لكي يتم إعداد الفرد والمواطن والإنسان العربي إعداداً تعليمياً ومهنياً سليماً، وبني على أسس علمية سليمة . لهذا نجد أنه لا توجد مواطنة بغير مواطنين متعلمين وواعين وممارسين فعليين لأدوارهم التعليمية داخل المؤسسات التعليمية وبداخل المجتمع العربي ككل.كما أن المواطنة أيضاً ليست مجرد انتماء وحقوق وواجبات، بل إن المواطنة تعبير يجسد كل المعاني الرائعة في المجتمع والدولة من المشاعر المشتركة بين أفراد الأمة وخصائصها المتعددة من قيم وأفكار وغيرها من المقومات الجميلة في الأوطان. فالمواطنة انتماء عقلي موضوعي وأصيل لقيم الحق والخير؛ وتربية ذاتية واجتماعية وثقافية و…وكلما ارتفع المواطن في درجة المسؤولية وجب عليه أن يكون قدوة وعن قناعة،وعليه أن يعيش حسّ المواطنة بحالة وجدانية عالية لكي يكون قادراً على تحمل المسؤولية ، وبذل العطاء والتضحية بأريحية ، لأن المواطن في الأصل متشبه بالقيم السامية متمثل لها ،ومشحون بحب الوطن وقضاياه ، قد يقول البعض أن مفهوم المواطنة يعتبر من المفاهيم المتحركة في إطار الصيرورة الزمنية التاريخية المتغيرة يضيق أحياناً ويتسع أحياناً أخرى، لكنه في المجمل مفهوم اتفقت عليه الإنسانية جمعاء في عصرنا الراهن بمضامين واضحة مع اختلاف الثقافة السائدة في كل دولة ، لكنها تتقارب في أهدافه ومحدداته العامة .
______________________________________