لم يكن الاسم صادمًا ولا غرائبيًّا إنّه قريب من البداءة والعفوية بأقصى درجات الوضوح كالماء والتراب ، فهما العنصران الأساسان في تكوين تلك الضفاف وبثّ الحياة بها وهو ما أحببت أن يكون مدخلاً للنصوص،
فليست كلّ الأغاني مطربة ولا كلّها تتشابه وإن تشابهت الكلمات والمعاني يظلّ الإحساس في طريقة الغناء وإيصال ذاك الحسّ ما يميّز صاحبها
ومن هنا أقول إن طريقة الغناء هنا لها روحها الخاصّ كونها الأغنيات التراثية لساكني الضفاف ومؤرّخة حياتِهم بصورة ما .
حيث تتمحور نصوص صباح نيسان”أغاني الضّفاف” الصادرة عن دار فضاءات عمّان، حول الحالة العراقية المتألمة في كل فتراتها الزمنية والنضالية، وتنعكس بشكل صريح وواضح في أكثر من نص، بحيث تعيش الحرب في ذاكرة العراقي ومنهم صباح ليلتهب عليه الحنين إلى رفقائه، وهدير النّهر وأسماكه.
فلكلّ نص لغته الخاصة الّتي استدعاها بشكل عفوي, ولهذا كانت انسيابية اللّغة مرتبطة ببنية النص وطبيعته متماهية مع انسياب تلك الضفاف فكأنها نصوص عفويّة حددت نفسها بعد الانتهاء منها وليس أثناء الممارسة كما هو مألوف،فقد يكون نصًا رائعًا وإن خرق العديد من المسلمات.
لوحات من وجع الذاكرة،تعرض مأساة يمتزج فيها الألم الشخصي بالألم العام،وهذا ما جعلها تتحول من مجرد نصوص وجدانية إلى حالة اجتماعية بأناقة خاصة بالكاتب من حيث تراكيب الجمل والتّركيز على الإدهاش ببراعة الالتقاط.
والتّركيز على الإدهاش ببراعة الالتقاط وكما يحتل عنصر الماء في الوجود ثلثي الكرة الأرضية فقد حازت أيضًا على المساحة الأكبر من النصوص إلا قدرًا معينًا،بفضلها غدت كلّ الحالات على اتصال كأنها سلسلة حلقات أصبحت جميع الضفاف فيها على نهر واحد”نهر الدّم” حيث يصبح الاشتباك بين الصوت والماء حياة أخرى تنعكس في الحوارات القصيرة بقوة وكثافة.
فضلت نصوص الكاتب صباح نيسان تمتاز في مضامينها ولم يلتزم من خلال كتابتها شكلًا معينًا يخضع لبناء تحليليّ متدرج من قبله، إذ يطرح معاناته ويحاول أن يجد لها حلا، برغم حلكة الظروف وقساوتها إلا أنه لا ينسى ذلك النّهر الذي يتدفق دمه في شرايينه.
وقد غلب على معظم تراكيب النصوص ارتباط عناصرها بعلاقة انزياح وإسنادي معرفيّ ملائم، ما ولّد الكثير من التعابير المجازيّة، وبخاصة الاستعارة، حيث تترك تلك التعابير أثرًا يمنح القارئ عناقًا أسطوريًا لجذوره الأصيلة الّتي تعتنق عقيدة الزمان.
ونجد أيضًا في النصوص بصفة عامة الرمزيّة الّتي تميز بها الكاتب فتكثر فيها الانزياحات الدلاليّة، ما خرج بها عن طريق المألوف، مصورًا ومرمّزًا لقصة حب وأمن مفقود، وكمن يمسك بعصًا سحريّة يهشّ بها على الكلمات ليطوّر نظريّة جديدة غير كاملة فيبرهن على عدم الوضوح البدئي للحدسيات الخاصة بالصوت والماء انتصارًا للفكرة.
فتسمع في أحد نصوصه أنين الأسماك المستعار من الإنسان، وترى جدائل الشوق في الحياة الريفيّة،وهنا تبرز قوة التّوجع وتشابكها ببعضها البعض من خلال الجديلة، ومن المعروف أننا كي نعبر النّهر يلزمنا زورق ومجذافان فيكون بذلك الوصول أحتم مما لو عبرناه سباحة مجزّئين.
نصوص تمنح حكمة عميقة ودقة في كل قصة،يعلمنا شيئًا جديدًا،ببراعة التّلميح،وقصص الحب يمكننا تنشق رائحتها الزئبقية الحادة،ثم يمكن لذوي الإحساس العالي تلمسها من خلال تحولها إلى مادة تذكرية.
_______________________________________________