عندما بدأت موجة الاحتجاجات والمطالبات بالتغيير فيما يعرف بالربيع العربي، تحّرك بعض المثقفين العرب في مقاربة واعية لهذا الحدث الكبير، وارتبك البعض الآخر، لاعتبارات سياسية وثقافية، وأتخذ البعض موقفا مغايرا لطبيعة دوره ومنهجه كبوصلة في التفكير الواعي، وطرح الآراء النيرة في سياقاتها الايجابية التي تجترح النظرة التي تؤصل إلى الفعل الإنساني القويم بما يرسي البناء المؤسسي القائم على قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، دون تجاوز أو ابتسار،والدفاع عنها باستماتة وحيوية،باعتبارها حجر الزاوية في انطلاقة حضارية إنسانية وتعددية ثقافية ومجتمع مدني فاعل ، بحيث تلامس احتياجات المجتمع وغاياته في توازن وتناغم ، ،ونحن هنا لا نريد تبرئة المثقف من كل التراجعات التي حصلت في واقعنا العربي خلال العقود الطويلة،وفي ظل غياب الحريات والشفافية والديمقراطية، ما أدى إلى هذا الانفجار الكبير والثورات المطالبة بالتغيير والحريات بعيدا عن القمع والاستبداد وغيرها من الممارسات التي كانت نتيجة طبيعية لهذا الثورات العارمة التي فاجأت الجميع بالصورة الراهنة، لكنها نتاج طبيعي للاستبداد وممارساته القمعية والشواهد عديدة في هذا المضمار . فلا شك أن بعض هؤلاء المثقفين أنجرف إلى هذا المربع السلبي بالاختيار، وليس جبراً ،وأسهموا بأنفسهم في هذا الوضع،وهذا الأمر قد لا يمثل الغالبية من المثقفين في الوطن العربي، بل إن بعضهم رفض هذا الواقع و تلك الممارسات في حدود ما هو متاح من النقد ، لكنها بقيت محدودة التأثير، لكن البعض يرى أن المثقف العربي بصورة عامة، أصابه ما أصابه نتيجة إحساسه بعقدة الذنب المتولدة عن قناعته الذاتية ، وقناعة المجتمع من خلفه ، بأن الفكر الذي قاد الأمة العربية إلى الفاجعة التي نعيشها الآن،هو فكره ، والنخبة السلطوية التي أدارت السيناريو المأساوي للانهيار هي صنيعته ، وأن الذي وقع من تراجعات سياسية وثقافية ونهضوية ، كان المثقف شاهداً سلبياً عليه،إن لم يكن مشاركاً فيها بشكل أو بآخر . باعتباره لم يكن ناقدا وموجها للسلطة باختيار طريق الصحيح الذي يلبي مطالب الأمة وخياراتها في الحرية والديمقراطية.
ولذلك على المثقف العربي في الظرف العربي الراهن هو السعي عبر نشاطه النظري والعملي إلى الإسهام الحقيقي خاصة في الجانب الفكري، إلى التركيز على مطالب الحرية والديمقراطية في المجتمع العربي بعيدا عن الغلو والتطرف ، وإيجاد الحراك الحقيقي الذي يسهم في تفعيل المجتمع المدني الفاعل، بعيدا عن التدخلات والممارسات القمعية لبعض النخب السياسية ،وهذا لا يعني أن المثقف يستطيع الإجابة على كل الأسئلة الراهنة والمتشابكة ، وحل كل المعضلات القائمة في ظل هذه الثورات والتحركات السياسية في العديد من البلدان العربية ، لكن وظيفته هي الطرح الايجابي والحيوي لمسألة الحرية والانحياز لمطالب الشعوب ، والسعي إلى كشف القضايا والإشكاليات والبحث في مضامينها الجوهرية ، وتحفيز الناس على التفكير فيها بما يهدف إلى وضع هذه الإشكالات موضع النقاش والنقد الجدي للخروج بأقل التكاليف ، وليس الهروب والتقوقع والمعايشة في الأبراج العاجية . فالمثقف الوطني الغيور على استقرار وطنه هو الذي يحرج الساكن الثقافي إلى نشاط فاعل وحيوي لقضايا الأمة ومطالب شعوبها، وبالطرق الحضارية، بعيدا عن الطرق التي تؤدي إلى الاعتساف في المطالب، وفوضى التكسير والتخريب الغير مبررة.
إن مطالب التغيير المنشودة ، تعتبر إحدى المطالب الأساسية للمثقف ومنطقاته، باعتباره أحد الرموز الكبيرة في مجتمعه، ولا يمكن أن يتحقق الاستقرار في ظل ممارسات استبدادية وقمعية، وإذا استطاعت بعض النخب السياسية، تدجين بعض المثقفين، عن لعب الدور الأهم في حمل مشاعل الحرية، والمطالبة بالتغيير، ورفض الاستبداد والقمع، والمطالبة بالكرامة الإنسانية، فان هذه الممارسات ستكون وقتية، ومع تراكم الاحتقان ،فان الثمن سيكون كبيرا، والتغيير سيكون مكلفا وباهظا، ولذلك فان التغيير سيصبح لا مفر منه مهما كان الثمن ، وهذا ما حصل لبعض النخب السياسية، في بعض بلادنا العربية، التي لم تعي ذلك الوعي، واعتقدت بأن هذا السكون هو القبول بهذا الوضع، وهذا عكس الواقع وسننه، وطبيعة الأشياء وتحولاتها، ووصلت ببعضهم إلى مستوى الغرور، بأنها تستطيع أن تفعل ما تريد، حتى وان كانت ضد مطالب الأمة ورغبة شعوبها في التغيير، وخسرت هذه الرهان في نهاية الأمر!..صحيح أن المثقف العربي، ليس هو الذي يفكر عن بالنيابة عن السود الأعظم من الشعب،لكنه يملك الكثير من الرؤى والأفكار والآراء النيرة التي تسهم في طرح الأفكار الناقدة للأوضاع بصورة واعية ورصينة، ومناقشة القضايا التي تستهدف ما هو سلبيا من قرارات وخطط وتوجهات في حياة المجتمع وقضاياه الحيوية، سيما قضايا الحريات والانفتاح السياسي والإعلامي، وحقوق الإنسان وكرامته، ورفض ما هو سكوني وجامد في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية.
إن السكوت والمحاباة التي حصلت في بعض المجتمعات العربية ـ من بعض المثقفين العرب ـ أسهم فيما هو راهن الآن في ظل الانعطافات الكبيرة في مسيرة أمتنا، وربيعنا العربي، وان زلزاله إحدى الشواهد على هذا الواقع وتحدياته، وهذا ليس موقفا ايجابيا حكيما ، ويخالف مهام وأهداف المثقف، وربما يعد خروجا من التاريخ، وجمود على الفكر، وتدمير الوطن ،أو حالة من حالات العقم الفكري، خاصة عندما يصورون ـ بعض المثقفين ـ ما يحصل في الربيع العربي، بأنه مؤامرات خارجية تستهدف تدمير الأوطان !! متناسين تلك العقود الطويلة من الاستبداد والقمع والقهر السياسي والفكري، من تلك النخب التي لا تريد أن التغيير إلا بكلفة كبيرة تخسرها الأوطان والشعوب، لذلك عندما يكون المثقف العربي صوته عاليا، وكلمته مدوية في نقد السياسات التي تقترن بالديكتاتورية والتطبيقات الشمولية والممارسات القمعية، وغيرها من السياسات، التي لا تحترم حقوق الإنسان وحريته وكرامته،وهذه التي ستجنب الأوطان، الكثير من الحروب الأهلية، والتوترات، والمغامرات السياسية التي جلبت على أمتنا التراجعات على كل المستويات جراء السياسات الشمولية وفي غياب الحرية، لذلك على المثقف العربي في ظل هذه السياسات والممارسات مسؤولية كبيرة وهامة، فهو ذلك الإنسان الذي لديه الحصيلة الفكرية الكبيرة من الفكر والثقافة والخبرة، ويستطيع أن يلعب دورا مهما وايجابيا في المجتمع ،وإبراز معطيات وضرورات الحرية والديمقراطية للوطن بعيدا عن الإلحاق والتعسف والإقصاء.، كما أن النقد البناء البعيد عن الأغراض والأهداف الغير وطنية، هو الذي يؤسس لمجتمعات قوية وحضارية وفاعلة في الحياة الإنسانية، قوامها العدل والمساواة والحرية المسئولة التي تعرف حدود الحقوق الإنسانية الكاملة البعيدة عن المحسوبية والمحاباة والقهر الاجتماعي الذي يوّلد الاحتقان والإحساس بالظلم، وهو ما جرى بعد ذلك في زلزال الربيع العربي.
إن القراءة الواعية لحركة الشباب العربي في ربيعه الشهير يكشف الميل الشديد لقضية الحرية والكرامة الإنسانية، والتطلع لبناء أوطان قوامها السير نحو التقدم والنهوض، تحت مظلة الحريات العامة، والشفافية والديمقراطية ومحاسبة المفسدين، وقانونية القرارات العمومية التي تمس حياة المواطن ومصيره،,هذا ما برز في شعارات هذه الثورات واحتجاجاتها،والإصرار على الديمقراطية الصحيحة والاختيار الشعبي في الانتخابات، ورفض التسلط الاستبداد والقمع. فالمثقف يجب أن يتساوق مع المطالب العادلة للأمة، وان يكون أمينا مع أحقيتها في التطبيق، وفي الوقت نفسه مطالب أيضا أن يسهم في بلورة أفكار عقلانية ومتوازنة عند طرح هذه المطالب، للتخفيف من التوترات التي عادة مع تكون بارزة مع حركة الثورات، وترشيدها، وخلق الوعي بأهمية البعد عن الانفعال أو التشنج أو القفز على الواقع، أو حرق المراحل، وهذا من مهام المثقف وأصحاب العقول النيرة التي تستهدف التأسيس الايجابي لمطالب الأمة بالصورة التي تنجز الأهداف الكبرى ، ومن أهمها بناء مؤسسات قادرة على إرساء تقاليد سياسية وفكرية قائمة على حرية الرأي، والقبول بالاختلاف، والتعدد، والانفتاح الإعلامي، والشفافية، وتأسيس مجتمع مدني فاعل..وغيرها من الأفكار التي تسهم في ترسيخ قيم حضارية وديمقراطية تنبثق من قيم هذه الأمة وميراثها الحضاري، ومتفاعلة مع الآخر،في إطار من التفاعل والندية والاستفادة من منجزات العصر وتطوراته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ