الأبجديات هي البدايات والمصدر و الموئل والمنهل، وهي الهيكل البنيوي مجازاً والمنهج السابق للمنتج التدويني ثم المعجمي. والإصطلاح (أبجديات) في العربية أختصر ترتيب الهجاء الحروفي (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت)، الشاملة لحروف العربية ،والتي أقحمت في الاساطير والميثولوجيا ردحاً. وطار اصل (أبجدي) الى اللغات العالمية من خلال اليونانية، حينما رتبتها بنفس المنوال في الميراث الحضاري الشرقي ودعيت (ألفا بيتا) وبالإنكليزية اليوم alphabetic . والألف والباء والجيم هما الباكورة الثلاثية للكتابة الهجائية، التي كانت ثمرة دهور من التهذيب والإرتقاء بالكتابة، منذ نوعها التصويري الأول عند السومريين حوالي العام 3200 ق.م، ثم الإختزالية أو التجريدية التي حضرت للحروفية، التي أملتها إقتحام اللغة الأكدية على الكتابة بعد أن تلاقحت مع سومر بحدود العام 2600 ق.م. ومن المعلوم أن الأكدية من اللغات الجزيرية أو المورثة للعربية أو هي العربية الأولى برأي البعض. وهكذا فطبيعتها توحي بتراتب حروفي وأصوات ساكنة ومتحركة، على عكس السومرية التي كانت تتكون من مقاطع، ترتب بشكل منهجي بحيث أن المعاني تختلف حينما يقدم ويؤخر مقطع. وهكذا كان التحول نحو الأبجدية أو إختراعها طفرة كبيرة في سياقات إنتقال البشر من البدائية للوعي والحضارة، و(الابجديات) موائمات لذلك الاصل مع مختلف الثقافات.
ونلمس في مكتشفات الحفريات والبحوث اللسانية، فجوة زمنية طويلة نوعا ما بين الإنتقال من الكتابة السومرية الصورية 3200 ق.م الى التجريدية 2800 ق.م ، وبين تحولها الى الأبجدية لاحقاً. والكتابة في بواكيرها سواء كانت تجسيدية او تجريدية، رسمت على شكل مسامير أملاها طبيعة قضيب القصب المشضى المستل من (الأجمة) أو الهور العراقي ، لذا دعاها الغربيون المسمارية cuneiform . وبين 2800 حتى 1200 ق.م، لم يعثر بعد على النقلة التطورية بينهما، وهي حقبة تدعوا للريب، حيث عثر على أقدم الأبجديات في الشام ، حيث كشفت أول مرة عام 1933 في مدينة أوغاريت برأس شمرة قرب اللاذقية مكتوبة على رقيم صغير الحجم يحوي عدداً من الصيغ المسمارية ماهي إلا حروف أبجدية لم يكتشف قبلها مثيل ، بل لقد تأكد الباحثون ان هذه الابجدية هي الاقدم التي تم العثور عليها حتى اليوم في العالم وانها تعود الى حوالي العام 1300 ق.م، ووجدت صيغ ابجدية في سيناء أحدث منها قليلا. ويبدو أن الأفاق مفتوحة في العثور يوما على صلة الوصل أو التدرج في إنتقال أولى الأبجديات الأكدية أو البابلية أو الآشورية. ولاسيما أن ثمة أمر محير في سياقات التأريخ، هو وجود قوم يدعون(الإتروسكيون Etruscan )، كانوا قد رحلو الى إيطاليا من سواحل الشام ومحيط خليج الأسكندرونة بحدود العام 1200 ق.م، وهم من نقل الكتابة الأبجدية الى أوربا أول مرة قبل اليونان وبثوا الأديان وأنشاوا المدن وأقاموا العمائر وجسدوا بواكير الفنون. ،ويكمن الغريب في تاريخهم أنهم تكلموا لهجة سومرية متأخرة، وهذا ما تكتم عليه الغربيون منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى سنين قليلة مضت، وحقيقتهم خالفت الكثير من المعطيات والمسلمات ،ومنها بأن السومريون لم يكونوا في جنوب العراق والخليج (البحرين وعمان)، وموهانجو دارو في الباكستان فحسب ،بل كانوا كذلك في الساحل الشامي ونقلوا (الأبجديات) الى أوربا قبل أن يتداولها اليونان بخمسة قرون.
ولا يغيب عن عين الراصد بأن الآثار اليونانية في آسيا الصغرى هي الأصل والأكثر من البر اليوناني، ناهيك عن وجود كتابة (حيثية شاعت في الأناضول وشمال الشام، و عاشت حتى العام 1200 ق.م، وقضى عليهم الآشوريون، وهكذا خرجوا هؤلاء القوم من التأريخ الشرقي وهاجروا نحو الغرب، وتحولت مقتبساتهم الحضارية واللسانية لتشكل صلب وموئل الألسنة اليونانية واللاتينية تباعاً. لذا فأن تسمية (غروبا) التي تحولت إلى (أوربا)، و التي عنت (الغرب) أو (المنطقة الغربية) و أطلقها الأكديون على آسيا الصغرى (تركيا واليونان)، هي الأقرب إلى التصور أللّغوي(الإيتومولوجي) بالمقارنة مع الإسطورة الخيالية التي تناقلها الإغريق من أن (قدموس)شقيق أوروبا مضى إلى بلاد اليونان باحثاً عن أخته هناك، ووصل إلى (بيوتيه) وأنشأ مدينة(قدميا) شمالي ثينا، وقام هناك بتعليم الناس أبجدية الكنعانيين ، وأن (أوربا) بنت الملك(أگينور) ملك صور شاركت مع النساء في معركة (طروادة) المشهورة. وأن (زيوس) رب الأرباب في أثينا، علم بجمال وكمال أوربا، فجاءها على هيئة ثورو كانت تلعب مع أترابها على شواطئ البحر، فأغراها ودفعها إلى إمتطاء ظهره وعبر بها عباب البحر، حتى اذا وصلا إلى اليونان أعلن زواجه منها، وهكذا حملت القارة أسم أوربا….الخ ،وهي أسطورة ساذجة، تعكس فراغ وجهل.
ومازالت أبجديات اليونان ثم الرومان تحمل رسومها أشكال ترجع لأصل الشرق القديم (الأكدي الكنعاني )،في المعنى والصورة. إبتداءاً من هجائها الأبجدي ( ألفا – بيتا –گاما)، فالفا تعني البقرة(أليفه أو علف العربية) و(بيتا) تعني البيت و(ﮔاما) وتعني الجمل ، وكل رسم له مجاز وتسلسل تصويري سافر من الشرق القديم نحو الغرب المغالي بمركزيته. فمازال رسم المثلث بقرنين A مقلوب يوحي برأس بقرة ،ورسم مربعين فوق بعضهماB يوحي بأنه بيت ، وk ويعني كف ويوحي بأنه أصابع، أو m ويعني ماء ويوحي بسطح الماء المتموج، ،وعين (آي بالإنگليزية وأوكين بالشمالية واوگي باللاتينية) وهي حرف(O) الدال على شكل العين. واصل سومري. وحرف R ويأتي من رأس ويوحي بذلك ، ومن الطريف أن السومريون كانوا يشيرون صوريا الى الرجل برسم (قدم أو رجل)، وهكذا مكثت في العربية حتى اليوم الخلط بين الكلمتين(رِجِل ورَجُل). وهنا نشير الى أن الكثير من الكلمات السومرية قد اخترقت كل الألسنة ومنها العربية، ،ونجد إن الإنكليز يخبرونا بأن 75% من لغتهم هي مفردات سومرية، فكيف ذهبت الى هناك ولم تعم في بيئتها الماكثة. لكن نجد ان الباحث العراقي بهاء الدين الوردي(عاش في المغرب)، يخبرنا بأن كل أسماء الله الحسنى صيغ لكلمات سومرية لا لبس فيها.
وهكذا أمست تلك الرسوم الرامزة الصادرة من الشرق سبب في رسوخ ثقافات وإثراء ذاكرة شعوب وفرز لهويات سواء كتبت بالأبجديات اللاتينية أو السريلية أو حتى الجورجية والأرمينية وحتى الهندية. يقول فيليب حتي في معرض مناقشته لإنتقال الأبجديات الشرقية ، حيث إنتقل حرف الهجاء /الكنعاني/ شرقاً إلى الآراميين الذين نقلوه إلى الفرس حيث أصبحت الآرامية لغّة رسمية عندهم ومن ثم أخذه العرب ليكتبوا به لغّة القّرآن الكريم. وبعد ذلك إنتقل إلى شعوب آسيوية أخرى. وقد حصل الفرس والأرمن والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية، وحروف البهلوية والسنسكريتية هي من أصل آرامي، وقد حمل الكهنة البوذيون من الهند، الأبجدية والسنسكريتية إلى قلب الصين وكوريا. وهكذا وصلت الحروف الكنعانية شرقاً بطريق الآرامية إلى الشرق الأقصى وغرباً بطريق اليونانية إلى الأمريكيتين، مطوقة العالم كله. وهنا نشير الى أن الآرامية كانت لغة الخليج وجنوب الجزيرة العربية والعراق والشام قبل حلول العربية.
وجدير أن نشير الى طبيعة العلاقة الأبجدية بين اليونانية وحضارات الشرق إجمالا والتي أشار إليها مارتين برنال في نظريته التي أطلقها العام 1987 بأن ما يقارب من 70 في المئة من ألفاظ اليونانية شرقية ، مقسمة بنسبة 50 % أكدية و كنعانية(شقيقتين) و20 % مصرية وأما ما تبقى منها (30%) فهو هندو- أوروبي”. وأهم ما في هذا، أن الألفاظ العّربية في اليونانية هي مفرادات الحضارة، أي المفردات السياسية والتجارية والزراعية والدينية والمعمارية والفنية، إضافة إلى مفردات المفاهيم المجردة الضرورية لنشأة الفلسفة والعلوم الرياضية.
وهكذا كانت الأبجديات سبب في نقل أمهات أفكار الشعوب القديمة وجماليات ألسنتهم فكان التدوين السومري للشعر إبتداء من 2800 ق.م، وهو نهاية شوط طويل من المنتج الشعري الشفاهي، الذي تناقلته الأجيال دون تدوين، كما حصل مع المعلقات مثلا التي دونها المسلمون حينما شاع التدوين . أما شعر اليونان كما عند هوميروس في الإلياذة والأوديسة، التي هي الطبعة اليونانية لملحمة كلكامش، فأنه لايتجاوز العام 700 ق.م. أما التدوين الأدبي العبراني الذي تمثله التوراة وما لحقها، فإنه لا يتعدى القرن 500ق.م .وفي هذا السياق نكتشف الريادة واصل هذا الضرب من الإبداًع الإنساني، الذي لا نستغربه اذا أسترسل في الشعر العربي في بيئة مقاربة ،حتى فيما يدعى(جاهلية)، ومكث الشعر ناضجا حتى عند إنحسار الحضارة.
والأبجديات العربية وتنظيم تراتبها يعود الى ثلاث مدارس خرجت من تخوم سومر وهي البصرة، أولها مدرسة الخليل بن أحمد الفراهيدي (100-175هـ719-791م) (اصله عماني)،و إضطلعت بترتيب المواد على الأبجديات حسب مخارجها وتقسيم المعجم إلى كتب، وتفريع الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية، وحشد الكلمات في الأبواب، وقَلْبُ الكلمة إلى مختلف الصيغ التي تأتي منها. والثانية هي مدرسة أبي عُبيد القاسم بن سلام، وقواعدها بناء المعجم على المعاني والموضوعات، وذلك بعقد أبواب وفصول للمسميات التي تتشابه في المعنى أو تتقارب، وكانت طريقة أبي عبيد من أولى المراحل التي بدأ فيها التأليف أللّغوي، ولكن بدأ كتبًا صغيرة، كل كتاب يؤلّف في موضوع، مثل كتاب الخيل، وكتاب اللبن، وكتاب العسل، وكتاب الحشرات،….الخ. أما الثالثة فهي مدرسة الجوهري و تنتسب إلى الإمام الجوهري الذي إبتكر منهجاً قرّب اللغّة إلى الإدراك حتى اليوم. ومئات المعاجم والكتب أللّغوية مرتبة ترتيب الجوهري مما يدل على عِظم مدرسته. ونظام هذه المدرسة ترتيب المواد على حروف المعجم بإعتبار اخر الكلمة بدلاً من أولها، ثم النظر إلى ترتيب حروف الهجاء عند ترتيب الفصول، والأول سماه بابا، والثاني فصلا، فكلمة “بسط” يُبحث عنها في باب الطاء لأنها اخر حرف فيها، وتقع في فصل الباء لأنها مبدوءة بها.
لقد إحتاج المعجميون العرب إلى أكثر من قرنين للإنعتاق من سطوة وتأثير الفراهيدي عليهم. فقد إبتكر منهجية فريدة يحصي فيها جميع كلام العرب وألفاظهم فلا يخرج منها عنه شيء ، وتقوم على أسس لسانية رياضية منطقية جعلت منها منهجية معقدة لا يستطيع استيعابها إلا المتخصصون، في حين يصعب منالها على عامة المتعلمين. وهكذا وصلتنا الأبجدية العربية من نتاج تلك المدرسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ