أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يمثل الهدف الإستراتيجي: “مناهج تعليمية معززة للقيم، العلمي والابتكار ومراعية لمبادئ الدين الإسلامي، والهوية العمانية، ومستلهمة من تاريخ عمان وتراثها، ومواكبة لمتطلبات التنمية المستدامة، ومهارات ً المستقبل، وتدعم تنوعا في المسارات التعليمية”، في محور التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية في رؤية عمان 2040، مدخلا إستراتيجيًا لكل المستهدفات التعليمية لتحسين جودة التعلم، ولأن موضوع التسامح التعليمي يمثل أحد هذه المستهدفات كونه يجسد عمليا مفهوم الهوية العمانية والتربية المواطنية وتاريخ عمان وتراثها، ويعكس روح التغيير التي تتولّد في حياة المتعلم في تسامحه وسلامه الداخلي مع نفسه ومحيطه، حتى يرجى منه التأثير الإيجابي في واقعه وترك بصمة حضور في عالمه.
لذلك يطرح موضوع التسامح كمنطلق لجودة حياة المدرسة، تساؤلات معمقة تتجه إلى توظيف البعد الإنساني الاجتماعي التشاركي للمؤسسة التعليمية نحو إيجاد إطار عمل لنمو التوقعات وترقية جانب الشعور الذاتي لدى المتعلم في كون المدرسة بيئة نموذجية تحتوي الفرد وتسعى لبناء ذاته وتوظيف مهارات وإعداده لانطلاقته الصحيحة في الحياة في جوانبها الصحية والنفسية والاجتماعية، وتكيفه مع طبيعتها المتغيرة والتأقلم مع وظائفها المتشعبة، وبالتالي رسم صورة التسامح في شموليته واتساعه وتأثيره في منظومة الأداء، فمن جهة كيف نجعل من المدرسة إطارا لتحقيق التسامح المؤطر لقيم التكامل والحوار والتعاون وتفهم طبيعة الآخر والتعايش في بيئة تنافسية مختلفة؟؛ ومن جهة أخرى كيف توظف المدرسة الذاكرة الحضارية لديها في تأصيل ثقافة التسامح من خلال تأصيل مفهوم التعلم النشط لدى المتعلم وتقريب روح المفاهيم وإجراءات العمل لديه بالشكل الذي يضمن تكيف الفرد معها وقدرته على التلذذ بها والاستمتاع بتعلمها، بما يضمن وجود اتفاق تشريعي أخلاقي في بيئة التعليم تحقق هذا التسامح وتقرب قناعات المتعلم منه،؛ ومن جهة ثالثة كيف يمكن تقليل حالة التباين في الظروف المعيشية للطلبة لتبرز صورة تعاونية جمعية تنعكس على جودة حياة الطلبة محدودي الدخل والطلبة المعسرين وشعورهم بالانتماء لمدرستهم؟.
إن التسامح التعليمي بهذا المعنى يشير إلى حالة التوازن التي تعيشها المدرسة من خلال قيمها ومبادئها في جعل مناخات التعلم ميسرة للمتعلمين ونقل الأدوات والآليات وأساليب العمل إلى مرحلة التكيف مع طبيعة المتعلم مراعية نمط تعلمه والتحولات الزمانية والمكانية والفكرية والخبرات المتجددة لديه، في ظل ثقافة مدرسية تؤمن بالاحترام وتقدير الفكر وتمتلك ثقافة التغيير وشروط التحول وتبتكر من الأساليب النوعية ما يتيح للمتعلمين فرص تجريب البدائل وتنوع سيناريوهات العمل وضبط المؤثرات الحاصلة وترقية الخطاب التعليمي وحسن توجيه الفعاليات والأنشطة التعليمية، بما يحقق جودة التعلم ويشعر المتعلم خلالها بالسعادة والرضا عن سلوكه التعليمي، لذلك كان من المهم أن تعي الإجراءات والخطط التي تتخذها المدرسة هذا الجانب بحيث يشعر الجميع بمسؤوليته نحوها، وإنها جزء من المبادئ التي يؤمن بها كشرط لتعلمه أو تنفيذ عقد الاتفاق والالتزام في تعلمه للوصول إلى أفضل الممارسات وأنجع البدائل. إذ أن السلوك المترتب على هذه الجهود سوف ينعكس على حياة المتعلم وتعامله مع معطيات الواقع، فالمدرسة بذلك تصنع أنموذجا عمليا لممارسة التسامح الذي يصبح سلوك الفرد في كل مجالات حياته سواء في القناعات التي يؤمن بها حول ذاته وتصالحه مع الآخرين في بيئة تعلمه وفهمه لمقتضيات الخطاب التعليمي والتفسيرات والمبررات التي يضعها في ذاكرته عند التعامل مع تعدد المواقف وفي مقارنته لكل المعطيات من حوله، وفي أداء مسؤولياته في العمل ومع الأسرة، وفي ابتكار بدائل الحل، والمؤشرات التي يعكسها في تعلمه حول دور الإدارة والمعلم ونظام التعليم سياساته وخططه وبرامجه، إن من شأن التسامح التعليمي الذي تقدمه المدرسة للمتعلم تشكيل هويته ورسم صورة مكبرة لمستقبله المهني والحياتي وتوجيه هذا المسار وفق ما تختزنه ذاكرته الجمعية وما يستوعبه عقله وقلبه.
وبالتالي تحقيق قدرة المتعلم للوصول إلى هدف تعلمه بكل سهولة ويسر، بأن يكون متعلما نشطا مسهما في إدارة تعلمه، ومشاركا بفاعلية في نطاق تعليمه، ويصبح الموقف التعليمي ميسرا متيسرا لكل متعلم وفق طاقاته واستعدادته، وأن تتجاوب المدرسة مع هذا الاستعداد وتعزز فيه قيمة البحث عن البدائل والتوسع في الخيارات، وفق مرتكزات التشخيص والتصنيف وتوجيه الأدوات بالشكل الذي يضمن عمق الاستفادة منها في إحداث تحول إيجابي لدى المتعلم بقيمة تعلمه، فتصبح الأفكار والمعارف التي تعلمها مدخل للتطبيق العملي لها وترجمتها في سلوك المتعلمين، وغرس القناعات الفكرية في ذهن المتعلم، وتعميق الممارسات الوجدانية إليه ليصنع منها فرص للاستمتاع والجذب والتفاهم والسلام الداخلي.
وتبقى بيئة التعليم والتعلم بما فيها من تفاعلات، يتعايش في مناخها طلبة متعددو الأفكار والاهتمامات والبيئات الثقافية والاجتماعي، نموذجا مصغرا للتسامح الوطني في عموميته، يؤسس في حياة المتعلمين، شعورا جميلا بقيمة الاختلاف وأهميته في إحداث التكامل، ورسم ملامح التغيير القادم الذي يصنعه سلوك المتعلمين وكفاءتهم في أدائهم ونجاح المدرسة، وحصولهم على استحقاقات قادمة في التفوق الدراسي والأنشطة والتحصيل والمبادرات الطلابية وغيرها، وبالتالي ما تسهم به هذه التراكمية الإيجابية في المشاعر، في ترك بصمة إنجاز في حياة المتعلم، متجنبا الإساءة إلى زملائه، أو حالة التنمر والعداء التي قد تسببها الأفكار السلبية التي تصل إلى قناعات المتعلم وثقافة الأبناء من قبل الاسرة أو بيئة التعليم والأقران بالمدرسة، وفي ظل تداخل المعرفة ودور المنصات الاجتماعية وما باتت تحمله في فقه الأجيال من قناعات وأفكار قد تشوه صورة الحقيقة، أو ترسم لهم صورة تشاؤمية حول المستقبل، أو ما قد تسبب فيه من نزوع نحو الأنا والذاتية والتنمر الفكري وردود الأفعال السلبية أو ما باتت تبثه من مفردات وسلوكيات تتقاطع مع الفطرة السوية وتدعو إلى الاستقلالية المفرطة والحريات المفلسة والتفكير السطحي المؤدي إلى الإشاعة والتشكيك في القيم والمسلمات والثوابت أو أن ينظر إلى المنافسة في المستويات الدراسية في كونها حالة استئثار فردية وأنانية ذاتية، تفرض عليه سلوك الوصاية والفوقية والفردانية والسلطة والتحكم والوقوف في وجه كل من أراد أن يصل إلى هذا التفوق من زملائه المتعلمين، فيعاديهم ويثير بينهم الأحقاد والكراهية وغيرها.
أخيرا، فإن دور التعليم في ترقية معايير التسامح، يستدعي البحث في مسارات التأثير والاحتواء والتفاعلية عبر إعادة إنتاج دور المعلم والمنهج الدراسي والأنشطة الطلابية والسلوك الإداري، ولجان المتابعة الداخلية والخارجية التي تشق طريقها إلى المدارس زرافات ووحدانا، لتنسج جميعها خيوط التقاء متواصلة تتكامل مع خصوصيات المدرسة وتستجيب لمعطيات الواقع التعليمي فيها، وتتفاعل مع الثقافة المتولدة لدى مجتمع المدرسة على اختلاف بيئاتها، آخذة في الاعتبار كل المتغيرات والمؤثرات التي تشكل مدخلات السلوك التعليمي. إن التسامح التعليمي بذلك محطة استراحة لإعادة التفكير في كيفية توظيف الأرصدة والفرص المتاحة في بيئة التعليم، ونقل الخصوصية الوطنية والثقافة العمانية الأصيلة المعززة للسلام والتعايش والحوار والتكامل والوئام والإنسانية، لإنتاج السلام الداخلي وإنضاج روح الإيثار والخيرية في حياة الطلبة.