أثير- الأديب العماني أحمد بن عبدالله الفلاحي
نشر الأديب العماني أحمد بن عبدالله الفلاحي مقالًا له عن الراديو وحرب الخليج، وتقوم “أثير” برصده ونشره بنصه للقارئ الكريم.
حوار دار بيني وبين صاحبي حول الراديو والتلفزيون أثناء تلك الساعات العصيبة القاسية التي مرت بأمتنا إبان ما سُمِّي بأزمة الخليج وما أكثر ما كانت الحوارات تدور بيننا صاخبة حينًا وهادئة حينا آخر تعكس حالة الألم البالغ والجراح النازفة وكانت تلك هي حال الأمة كلها من أقصى مشرقها حتى نهاية مغربها توجع وتفجع واحتراق شديد يصلي القلوب والمشاعر ويفتت العقول.
كان صاحبي منصرفًا بكليته في تلك الساعة من أمسيتنا الحزينة إلى جهاز التلفزيون الذي أمامنا لمشاهدة ما عُرف باسم “السي. أن. أن” وهو من المسميات والعبارات التي أفرزتها تلك المحنة الأليمة وما أكثر ما أفرزت وما أبانت وكانت “السي أن أن” قبل تلك الأزمة مجرد محطة لاسلكية أمريكية تقدم خدمات إعلامية وإعلانية فورية في نطاق الولايات الأمريكية ولم يكن لها أي ذكر خارج أمريكا وخاصة في أقطارنا العربية ولكن مأساة العرب في الخليج قد رفعت من شأن هذه المحطة وأعلت من صيتها وصيرتها وقتذاك أشهر مؤسسة إعلامية لدى كل الناس في شتى الأقطار والقارات وحتى لقد طغى اسمها على اسم “البي بي سي” المحطة البريطانية التي اشتهرت منذ عقود من السنين ببثها الإذاعي لكل شعوب العالم وبلغاتهم المختلفة ولا شك أن هذا المكسب الذي أحرزته “السي أن أن” لم يأتها اعتباطا وإنما كان وليد جهد متميز ولقاء خدمة إعلامية جبارة ومتابعة سريعة دقيقة عاجلة رءآها بعضهم تقترب من الحياد أحيانا مما جعلها المصدر الأول المعول عليه في متابعة أخبار تلك الحرب العدوانية الآثمة المزعجة ومعها أو تتأخر عنها قليلا جاءت الإذاعة البريطانية ثم إذاعة “مونت كارلو” وبعدها “صوت أميركا”
ظل صاحبي وظللت معه نتابع وقائع الأخبار لحظة بلحظة وكان هذا دأبنا كما هو دأب أغلب الناس في ديارنا ننتقل من الإذاعة إلى التلفزة إلى الصحافة المتعددة ثم التفت صاحبي بعد فترة من الصمت فرضته متابعة صور الأحداث والوقائع الرهيبة التي تعرض على الشاشة التفت إلي قائلاً: أما زلت مع رأيك في الراديو بأنها الوسيلة الأولى بين وسائل الإعلام؟ ألا ترى أن التلفزيون بعد ظهور “السي أن أن” وأخواتها قد اكتسح الإذاعة إلى الأبد فأنت هنا ترى الخبر رأي العين في لحظة وقوعه أو بعد حدوثه بدقائق !! وكان صاحبي يعرف رأيي حول هذه المقارنة وقد سبق أن تجادلنا فيها لمرات عدة حتى قبل نشوء مشكلة الخليج وكنت دائما وأحسبني ما أزال أرى أن الراديو لا يمكن تجاوزه أو تخطيه مهما كانت الاختراعات الجديدة وابتكاراتها فإن الراديو سيظل من المخترعات البشرية الثوابت كالكهرباء والسيارة والتليفون والطائرة ونظائرها التي يستحيل الاستغناء عنها وإن تقدمت الاختراعات والصناعات وستظل تمثل حاجة أساسية لبني البشر هكذا رأيي وقد يأتي العلم بمخترعات أخرى أكثر جدة وتطورا ولكن الراديو في تقديري سيبقى كشيء لا بد للناس منه وفي ردي على صاحبي قلت : إن “السي أن أن” أثبتت وبما لا يمكن المجادلة فيه أن الراديو وسيلة لا بد منها لإنسان اليوم ولا يمكن للتلفزيون منافستها مهما كان تطوره التقني والدليل أن هذه “السي أن أن” وهي أحداث صيحة فيه لم تستطع إغناء الناس عن الراديو وأنت ترى كل إنسان أيا كان شأنه ومكانه مرافق لجهاز الراديو حيثما سار أو قعد وقد أحيت هذه الأزمة أهمية الراديو كما لم يحصل في أي وقت سابق بعد أن حاولت منافستها في السنوات الأخيرة وسائل الإعلام الأخرى كالصحافة والتلفزيون فقد أظهرت هذه الأزمة أن الراديو لا يمكن الاستعاضة عنها بأي وسيلة أخرى حتى وإن كانت “السي أن أن” في تطورها وسرعة خدمتها نعم لقد عادت الراديو بعد أن أخذ الاهتمام بها يتناقص بعض الشيء في الأعوام الأخيرة بسبب ظهور التلفزيون الملون ونقله المباشر عبر محطات الأقمار الصناعية ووكالات الأخبار المصورة السريعة عادت لتحرز أولوية الاهتمام ولتتربع على قمة عرش الإعلام بمجرد ظهور أزمة كبرى في العالم كمثل هذه الأزمة وعلى الرغم من الوسائل التقنية الحديثة مثل “السي أن أن” وأضرابها إلا أن الراديو بقي سيد الوسائل الإعلامية وأكثرها أهمية وحتى قبل الأزمة كان للإذاعة جمهورها الواسع وكل من يتابع برامج الإذاعات المختلفة ذات الصلة بالناس يدرك ذلك من خلال الرسائل الكثيرة التي تتلقاها تلك البرامج من متابعيها من شتى الأماكن والفئات.
وطال الحوار وتشعب وقام صاحبي أخيرًا لينهي المناقشة قائلا : إنك عنيد شديد المكابرة منذ عرفتك لا تتراجع عن رأي تراه حتى وإن بان بأنه خاطئ!!!. وخرج من المكان ولزمت الصمت فقد غادر صاحبي وأخذت أراجع نفسي أتأمل الأمر هل أنا حقا مثلما وصفني هذا الرجل؟ وقد تكرر منه لي هذا الاتهام أكثر من مرة وفي كل المرات لا أجد نفسي كما وصفني بل أجدني أكثر اقتناعا برأي رأيته لأنه الأصوب في نظري وتقديري وأجده قد ظلمني باتهامه إياي وهذه على أية حال صورة من صور الحوار بين الأصدقاء والاختلاف في الرأي وارد بين الناس ولكنه يجب أن يكون الاختلاف الذي لا يفسد الود وإنما يعظم الاحترام لمن نختلف معه ويوحي بالتقدير لرأيه المختلف.
وأترك صاحبي ورأيه وأعود إلى الراديو ولي معه قصة لعلها تستحق أن تُروى ولكني قبل ذلك سأقف سريعاً عند موضوع آخر يثور حوله النقاش أيضًا بيني وبين إخواني بل بين كثيرين من الناس وبعضهم البعض وهو موضوع يشبه في حاله الموضوع الذي ناقشته السطور السابقة بين الإذاعة والتلفزيون ونظرة بعض الناس إلى التلفزيون أنه اكتسح الإذاعة وأخذ دورها ومكانها وقد رأينا عدم دقة هذا الرأي على الأقل من وجهة نظر إنسان مثلي والمثل في ذلك ما يزال يبرز أمامنا غداة اشتعال حرب الخليج وذلك الموضوع الذي أشير إليه إشارة سريعة هنا هو موضوع كما قلنا يشبه حالة الإذاعة من حيث المنافسة التي يتعرض لها هو من وسائل الإعلام الأخرى ونعني بذلك الكتاب الذي وصفه الجاحظ قديمًا بأنه (وعاء مُلئ علمًا) ووصفه حديثا الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه القيم (الانفجار) بأنه (عالم الفكر) وما أجدر الكتاب وأحراه بهاتين التسميتين المعبرتين وقد دار الجدل والحديث حول تنازل الكتاب عن مكانه لوسائل الإعلام الجديدة وتقاصر دوره في التأثير ومن الناس فئة ترى هذا الرأي ولكني أبدا لست من هذه الفئة وما أزال أرى أن الكتاب يفرض نفسه ويتمدد على الساحة منافسا قويًا لكل وسيلة إعلامية في أمريكا وأوروبا واليابان وروسيا والصين والأمم الحية ولنقرأ معا إحصائيات انتشار الكتب الأكثر مبيعًا في العواصم التي ينظر إليها أنها الأكثر تطورا كما يرون لنرى كم هو الكتاب منافس خطير وقادر على التحدي والفوز وأرجو أن أعود لهذا الموضوع مرة أخرى لإشباعه وتأمل أمره على أكثر من جانب.
أما الآن فسأقص حكايتي مع الإذاعة التي أراها من جهتي تستحق أن تُروى طالما أن الحديث عن الإذاعة وقد لا يراها غيري كذلك وله رأيه مع وافر الاحترام… نشأت صبيا في قرية متناهية الصغر في بقعة بعيدة من أقاصي الريف العماني وكان الجو فيها على جماله الطبيعي أبعد ما يكون عن شيء اسمه راديو وبداية كانت جدتي التقية الصالحة تحدثني عن هذا الراديو التي لا تعرف هي نفسها كيف صفته أو حجمه وإنما هو فيما وصل إليها من أخباره صندوق من حديد يتحدث الشيطان بداخله ويُعتبر ظهوره علامة من علامات الساعة حيث إن النبي صلى لله عليه وسلم كما بلغها قد أشار إلى أن من علاماتها نطق الحديد قبيل ظهورها وها هو الحديد أصبح الآن يتكلم وقد روت جدتي أن جدي – أي زوجها – الذي كان تقيًا صادق العبادة قد نهى أناساً من أخواله يقيمون في مدينه تبعد بعض المسافة عن قريتنا كانوا ممن يسافرون إلى الهند وإفريقيا وأحضروا معهم الراديو نهاهم عنه ورجاهم التخلص منه لارتباطه بالشيطان ولأنه من عمل الكافرين تلك المعلومات الأولى التي استقتها أذناي عن الراديو وكانوا أحيانًا يطلقون على الإنسان الكذوب الذي يعتقدون أنه قليل الصدق فيما يرويه يطلقون عليه اسم الراديو لأن الراديو في وعيهم يردد الأكاذيب وقلما يصدق فيما يأتي به ولم يكونوا يعلمون من أمر ذلك الراديو شيئًا ولا شاهدوه في حياتهم إنما هكذا استقر في عقولهم وعندما كبرنا قليلا وتعلمنا القراءة وجدت ضمن كتب العائلة قصائد مكتوبة بخط اليد تحذر من خطورة الراديو وتوصي بعدم الاقتراب منه وتدعو لاجتنابه مؤكدة شيطانيته وأن إبليس مختبئ داخله ليغوي بني آدم وأنه من علائم الساعة وأنه حرام لا ينبغي استعماله من قبل المؤمنين وعلمت من أبي رحمه الله أن تلك القصائد كتبت ردا على الشيخ أبو بشير محمد السالمي الذي أفتى بجواز اقتناء الراديو وقام هو نفسه بشرائه من الهند في إحدى زياراته لها وأحضره إلى بيته في “بديَّة” مما جعل مجموعة من علماء ذلك الوقت يعترضونه ويقدمون له نصائحهم بتركه وترسخت تلك المفاهيم في نفسي عن الراديو بأنه أداة من أدوات إبليس وشيء من أشياء الكافرين التي لا تليق بالمؤمنين ولكني كنت مع ذلك أتوق في نفسي إلى رؤيته واستماع ما ينطق به وكثيرا ما كنت أسأل أولئك الذين يعودون من السفر من أهل قريتنا عن ذلك الراديو اللعين وصفته.
وذات مرة عاد أحد أبناء القرية وكان من هواة السفر وله اهتمام بالقراءة وإحضار الكتب والقصص القديمة كمثل ألف ليلة وليلة والإسراء والمعراج وقصة إبليس وقصة تودد الجارية وحسن البصري والسبع بنات ونحو ذلك وسبق أن استعرت منه العديد من هذه الكتب لأقرأها وأعيدها إليه ولكنه هذه المرة عاد من سفرته ومعه الراديو ذلك الشيء الشيطاني الذي كنا نسمع عنه ونمقته ونحب رؤيته وكان ذلك حدث الأحداث في قريتنا الصغيرة يومها وتسللنا نحن الصبية آحادا وجماعات للاطلاع على ذلك الشيء العجيب والاستماع إلى صوت الشيطان الذي يخرج منه واستقبلنا الرجل وأكرمنا كعادته من طرائف سفرته وفتح لنا الراديو الذي لم نستطع فهم أو تبين شيء مما ينطق به لعدم وضوح الصوت وخرجنا من عنده دون أن نتعرف على الراديو ونحيط بما وصف من غرائب أمره سوى أننا رأيناه وسمعنا خرخشته ومرت الأعوام وإذا أنا قد دخلت العام الرابع عشر من عمري وأصبحت شابا بمقاييس أهل الريف وراودني حلم السفر إلى حيث يسافر معظم الناس يومئذ وكل ما أتذكره الآن هو أنني ذهبت مسافرا عام 1965م مرافقا لبعض أقاربي الأكبر مني قليلا وبدأت معي من يومها تجربة السفر ومعاناته وعلى الرغم من المتغيرات التي صادفتني وبدأت تؤثر على فهمي للأشياء إلا أنني ظللت لفترة من الوقت متمسكا بقناعاتي تجاه الراديو وجادلني بعضهم ممن كانوا أكثر وعيًا وإدراكًا إلا أنني كنت ما أزال أصر على أن الشيطان هو الذي يحكي داخل الراديوم بيد أني مع مضي الوقت واكتساب معارف جديدة لم أكن أعلمها من قبل تغيرت نظرتي وأدركت خطأ رأيي وعشقت الراديو وأصبحت على صلة وثيقة به وتواصلت بالمراسلة مع إذاعة لندن وندوة مستمعيها المشهورة وطرحت أسئلتي على برامجها المختلفة مثل (السياسة بين السائل والمجيب) و (لكل سؤال جواب) و (قول على قول) وكذلك أصبحت صديقا حميما لإذاعة “صوت العرب” من القاهرة أيام مجدها في الستينات من القرن العشرين وكذلك الإذاعات الأخرى وعن طريق بعض البرامج الإذاعية المختصة تعرفت بالمراسلة على عديد من الأصدقاء من شتى الديار العربية من الجزائر وتونس والمغرب ومن اليمن والعراق وبلاد الشام و مصر ومنطقة الخليج ثم عدت إلى وطني عام 1970 بعد نحو خمسة أعوام من مغادرتي فإذا الأقدار تسوقني للعمل بالإذاعة العمانية التي كانت حينها ما تزال في بداياتها الأولى وهكذا اقتربت من الإذاعة والتصقت بها وأمضيت فيها عشر سنوات كاملة أسهمت في بعض برامجها بالإضافة إلى عملي الأصلي في دائرة الأخبار وعرفت أنها جذابة وجميلة وخيرة ولا علاقة لها بإبليس ولا بزبانيته أو أفكاره الشيطانية وتوطدت علاقتي بالإذاعة وتعزز ارتباطي بها وتواصل حتى الآن ومن نافلة القول أن عملي في الإذاعة أعطاني فرصة التعرف على زملاء أعزاء تحولت زمالتنا إلى صداقة متينة ستظل باقية مدى الحياة وما زلت أراهن أن الإذاعة ستبقى وسيلة إعلامية أساسية لا يمكن تجاوزها مهما تقدم العلم وارتقت المخترعات والمبتكرات وقد أعطتنا حرب الخليج مثلا واضحا على أهمية الإذاعة وضرورتها.
وأخيرا آمل معذرتك سيدي القارئ إن كنت قد أضعت وقتك في الحديث عن حوار جرى بيني وبين أحد أصدقائي أو في قصتي مع الراديو منذ صغري فقد تخيلت أن حواراً كهذا أو قصة كتلك ربما كان فيها شيئًا من الطرافة مع المتعة والتسلية وربما لا تخلو من بعض الفائدة أيضا فان لم تصب أيا من ذلك فأنت قادر على إسباغ عفوك على هذا الذي وسوست له نفسه الأمارة أن يكون كاتبا فتعاطى وحاول وربما قصر وخانته الموهبة والكفاءة.