الذات و الموضوع ، هناك في الحد الفاصل بينهما تحديداً ، انفتح الأفق على شمسٍ فلسفية جديدة .
لقد كان الاغريق في عصر الفلسفة الأولى و على رأسهم هيراقليطس ، ينظرون الى الفلسفة كشجرة المعرفة ، وحدة معرفية تتحلّق حولها كافة الفروع ، تلك التي تسمّى علوما ، و يحذّرون أيّما تحذير من تعاطي فارماكون الفلسفة على غير هذه الطريقة ، و لا تخلو سماء آفيزيا المعروفة باسم شذرات هيراقليطس من صواعق تهاجم التشيّء ، و الشيئيّة ، و المتشيّئين ، و كأنما كان ذلك الكاهن في معبد أرتيميس قد قرأ في وجه النجوم ما ستأول اليه الفلسفة فيما بعد ذلك بكثير !
المتاهة :
مع تطور العلوم في العصور المتأخرة ، العلوم التي كانت تتكيء على الطبيعة و تتحدث بلغة الرياضيات ، رُجحت كفة الموضوعية التامة ، و تم التعامل مع الانسان الذي في كفة الذاتية ، كموضوع خاضع لقوانين الطبيعة و كأنها تصنّفه شيئا من الأشياء ، تماماً كالماء ، و الهواء ، أو حتى النفط الخام !
اذ ذاك ، و أمام الفتوحات العلمية الباهرة ذات الانجازات الآلية التي تستهوي الأغبياء ! تم نكران الروح ، و نفيها الى خارج المشهد الجدير بالنظر ! فكانت بعد ذلك الدهشة الثانية ، عندما أدركت العلوم بيقينها التام بصحة فكرة الموضوعية التامة ، أنها لم تتجاوز بُعد الوريد من الحبل ! و ذلك بعد ظهور الكوارث الطبيعية ، أو بالأحرى (الكونية) المرتبطة بأسلوب التعامل مع الانسان كشيء ، أو مادة ، أو حتى آلة ، أي بعد معاناة الانسان الطويلة تحت حذاء الماديّة ، و بالتالي ثورته على المشهد التراجيدي الذي رسمته العقلية الموضوعية بكل سطوتها ، مما دعى تلك العقلية الى التنازل عن كثير من حقائقها المطلقة ، كالموضوعية التامة ، لتعيد الاعتبار مرة أخرى لذلك المنفي ، الأنا ، الذات !
العودة :
و لقد تبع هذه النية في العودة الى الأصل الأول ثورة فلسفية حديثة ، تمنهج و ترعى تلك المسيرة نحو فهمٍ أفضل للمفاهيم التالية :
الفلسفة / العلم / الانسان ..
لتوحد المشهد جامعة الذات و الموضوع جمعا مشروطا بتولية الذات زمام السلطنة ، و كان ذلك على يد ادموند هوسرل ، و من خلال فلسفته الظاهراتية (الفينومينولوجيا) ..
تراجيديا الوطن :
أما المأساة التي لا تخفى على العارف بهذه الحقائق ، الواقف على ما يجري من تطورات في الساحة الفكرية الأوروبية و الغربية عموماً ، الذي يفسر بدأ دخول العشرات من أفراد تلك المجتمعات الى رحاب الأديان ، في محاولة منها للبحث عن الخلاص الروحي ، فتتجلى على شيب رأسه عندما يرى الكثير ممن يدعي وصلا بالهم الثقافي في الوطن ، و هو لا يزال يضع الروح في منخل عقله الفارغ ، و كأننا نعيش حالة أوروبا عصر الظلام ! لتغلب على كل حواراتنا الفكرية اليوم شعارات عفا عليها الدهر ، مثل (تبقى الكلمة الأخيرة للعلم) ! ، و (افلاس الفلاسفة) ! ، و كل ما تجاوزته الساحات الفكرية الأوروبية بما لا يقل عن قرن من الزمان ، و كأنهم لتوهم أي في القرن الواحد و العشرين يدرسون خطة اكتشاف قارة جديدة تقع في الجانب الغربي من العالم يقال لها (أمريكا) ، في حين أن أمريكا الآن تلفظ أنفاسها الأخيرة على أقصى أطراف المجرة !
_________________________________________