” تسعى النفسُ، من حيث إن لديها أفكارا واضحة متميزة، وايضا من حيث إن لديها أفكارا مختلطة، إلى الاستمرار في وجودها لمدة غير محددة، وهي تعي سعيها ذاك “. سبينوزا
في نقد العقل المحض: “تبدأ كل معرفتنا مع التجربة، ولا ريب في ذلك البتة؛ لأن قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا، فتسبب من جهة، حدوث التصورات تلقائيا، وتحرّك من جهة أخرى، نشاط الفهم عندنا إلى مقارنتها، وربطها، أو فصلها وبالتالي إلى تحويل خامّ الانطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات تسمّى التجربة؛ إذن، لا تتقدم أي معرفة عندنا زمنيا على التجربة؛ بل معها تبدأ جميعا”؛ لذلك نجد النص القرآني يقف على التجربة أو المعيش من خلال الوسائل المتاحة للإنسان لبناء معرفة أو تمثلات متنوعة عن الكون، هذه الوسائل التي تمثلت في حواس الإنسان التي تنزع بها تجاربنا المختلفة إلى وحدة مركزية لمعالجتها يكمن في الأفئدة: ﭽ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ النحل: ٧٨؛ وبما أن قوى الحواس مختلفة، وزاوية النظر إلى الموضوعات تتأسس على تلك الزاوية المتباينة وفق أحوال الإنسان، باعتبار ذاته، وباعتبار غيره؛ فإن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تكون معرفة واحدة.
ولكن التجربة الإنسانية التي يخوضها الإنسان لن تكون مستقلة عن ذاته؛ فهذه الذات المجربة حاضرة، كما أنها لا يمكن أن تكون خالية مما يمكن تسميته بـ(المعارف القبلية) أو ميتافيزيقا المعرفة بالمعنى الكانطي، وهي معرفة لا يمكن أن تخضع لأي تجريب؛ لذا شرع كانط في تساؤله: هل يوجد نوع من المعرفة مستقل عن التجربة وعن جميع الانطباعات الحسية؟ فإن سلمنا بوجودها؛ فإنه يجب التسليم في الآن ذاته بأنها معرفة متعالية لا تخضع للحواس والتجربة، وربما كانت هذه المعرفة القبلية السبب في نطق آدم الكلمات إزاء الموجودات الحاضرة؛ فلولا الوجود الذهني السابق على التجربة المتأخرة لما كان ناطقا بها، أو محددا لها: ﭽﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﭼ البقرة: ٣٣، فإذا كانت التجربة الساذجة التي لا تنبني على معارف متعالية؛ لا تبني معرفة إنسانية؛ لأن الكائن لا يستحضر استعدادا لخوض هكذا تجارب؛ فإن ذلك يجعلنا نتفكر في مسألة اللغة الإنسانية والاستعداد الفطري الذي امتلكه آدم، ولعل الملائكة لا تفتقر إلى هذه اللغة التي لا نستطيع أن نتصور أنفسنا خارج عوالمها، كما جبلت عقولنا البيولوجية على الوعي بالزمان والمكان؛ فهل من لغة أخرى – إن صح أن نسميها لغة – أو طريقة للتفاهم وتبادل المعرفة هي خارج إحساسنا الإنساني؟ وهل يعد الوحي، وتوارد الخواطر في ميتافيزيقيتها هو نوعا من التواصل الفوق- لغوي إن صح هذا التعبير؟
وإذا كانت المعرفة الإنسانية مفتقرة أبدا إلى استعداد أو معرفة قبلية لخوض التجربة؛ فإن الإنسان كونه كائنا يتجاوز العوالم الفيزيقية الحاضرة إلى ما وراءها كما يدعي ألان سوبيو في كتابه (الإنسان القانوني)؛ فإن هذا يعني أن التحولات المعرفية وتسلسلها ضرورة حسية ثابتة بالتجريب؛ إذ يتوسل الإنسان كل معرفة سابقة أو لاحقة في بناء فكري جديد؛ فهو يضيف إلى قبلياته قبليات جديدة؛ فما كان تجريبيا في لحظة ما باعتبار سابقه؛ فإنه يعد (محضا) باعتبار لاحقه (تجوزا في التسمية) وضرورة في الإجراء والتسليم؛ لذا تزداد المعرفة اختلافا لاختلاف التجارب، وبناء المعارف والأفكار؛ وإننا نجد في تراثنا الفقهي والكلامي قولا مأثورا عن ابن تيمية: “كلما زاد علم العالم قل إنكاره على الناس”، وفي السياق ذاته يقول على الوردي في (خوارق اللاشعور):
“إن الباحث المبدع يمتاز عن الرجل العادي بكونه يعترف بإطاره الفكري؛ ولذا فهو أقدر على مواجهة الحقيقة الجديدة من غيره، والعجيب أن بعض الناس ينكرون وجود إطار على عقولهم، إنهم بهذا يبرهنون على تعصبهم الشديد؛ فكلما اشتد اعتقاد إنسان بأنه حرٌ في تفكيره؛ زاد اعتقادي بعبوديته الفكرية”، وهو في هذا ينطلق من وليم جيمس في (إرادة الاعتقاد):”العقل الإنساني متحيز بطبيعته، ولا يكون ذا مقدرة وكفاية إلا بتخيره ما ينتبه إليه، وبتركه كلّ ما عداه، بتضييقه وجهة نظره، وإلا توزعت قوته الضئيلة وضلّ في تفكيره، والذي يدعو المرء دائما لأن يعمل لإرضاء غرائز حب الاستطلاع هو إرادة تحقيق بعض الأغراض الخاصة”
فإذا كان الأمر كذلك؛ فما الموضوعية وما حقيقتها تلك التي ندعيها دائما في تفكيرنا ومعرفتنا؟ وأين محل الأهواء منها؟ كيف لنا أن نزيد من الموضوعية، ونقلل من الأهواء والانفعالات؟ وهل نستطيع امتداح الموضوعية بما هي موضوعية؟ يعيب سبينوزا في (الإيتيقا) جهابذة الفكر ونوابغه والفلاسفة الذين لم يتخلفوا عن إسداء النصائح المتسمة بالحصافة والبلاغة، ولكنهم تخلفوا عن تحديد طبيعة الانفعالات وقوتها وما تستطيعه النفس من جهتها للتحكم فيها؛ فلهذه الانفعالات علل محددة تسمح بمعرفتها بوضوح، وربما كان للنفس عليها سلطان؛ لذا يفرق سبينوزا بين ما يمكن تسميته بـ(العلة التامة) التي يمكن من خلالها وحدها إدراك معلولها بوضوح وتميز، و(العلة الجزئية أو غير التامة) التي لا نستطيع معرفة معلولها بها وحدها؛ فعندما ينتج شيء يمكن إدراكه بوضوح وتميز من خلال ذاته وحدها فإننا (نفعل) وإلا فإننا (ننفعل) وهذا الانفعال الثاني هو الهوى؛ فالنفس تكون فاعلة بالضرورة في بعض الأمور بوصفها تملك أفكارا تامة، وتكون منفعلة بالضرورة في أمور أخرى بوصفها تملك أفكارا غير تامة، ولا بد أن تتأرجح الذات بين هذا وذاك؛ فالتنزه عنه ادعاء خارجاني لا يمكن إثباته.
ولنحتسب ما اكتسبناه في حياتنا السابقة من أفكار ومعرفة عن أشياء مختلفة في محيطنا (موضوعا)؛ فـ(هذا الموضوع) الذي نمتلكه؛ نريد أن نعيد امتلاكنا له بتعبير (غوته)، وإعادة الامتلاك تعني إعادة التفكير فيه، وإخضاعه للشك؛ حتى لا يتحول إلى علة غير تامة تزيد من انفعالنا؛ لأننا في كل مرة نحاول فيها اكتساب معرفة جديدة؛ نستحضر معارفنا السابقة التي تحولت إلى (ميتافيزيقا) للمعرفة الجديدة التي نحاول بناءها بدافع النفس وأغراضها الخبيئة كما ألمحنا آنفا؛ وهنا – كما يقول الوردي- : “ينبغي أن نميز بين المتعلم والمثقف؛ فالمتعلم هو من تعلّم أمورا لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره، فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيّق في مجال نظره. وهو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه، وتحرّضه على الكفاح في سبيله. أما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها، ولتملي وجه الصواب منها”؛ فهو إذن يتأمل كل شيء وينظر إليه من خلال إطاره الفكري بغض النظر عن التسمية المدرسية التي أطلقها الوردي؛ و(هذا الإطار) الذي من خلاله ننطلق إلى الكون يتشكل من المصطلحات، والمألوفات أو ما أسماها جون سيرل بالمواقف التلقائية، والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إلى الفرد ويغرزها في أعماقه عقله الباطن فتتحول إلى أنساق قارة تحرك تفكيره، وتكون سلطة داخلية علاوة على السلطة الخارجية من مجتمعه.
فهل يمكننا أن نسمّي تمجيد (الموضوعية) نوعا من الوهم والخرافة؟ وهل الموضوعية تحمل قيمة أم لا قيمة لها؟ كعادته ينتقد (فريدريش نيتشه) زيف المجتمعات في ادعاءات القيم الفارغة التي تخالف الفطرة الإنسانية؛ إذ يقول: “مهما بلغ الامتنان الذي يكنّه المرء للروح الموضوعية – ومن منا لم يسأم ولو مرة سأما قاتلا من كل الذاتي ومن أنويته الممقوتة – فعليه في النهاية أن يتعلم الارتياب في امتنانه أيضا، وأن يلجم الإسراف في تجريد الروح من ذاتيتها وهويتها، وهو أمر يشاد به مؤخرا وكأنه غاية في ذاته وخلاص وتسام وأمر اعتادت عليه بخاصة مدرسة المتشائمين التي لها من دون شك؛ أسبابها الوجيهة لتمجد المعرفة المنزهة عن الغرض أكبر تمجيد”
إن نيتشه يجرد الإنسان المدعي للموضوعية؛ الذي يبالغ في تجريد ذاته من صفاتها الإنسانية؛ إذ تتحول هذه الذات الإنسانية إلى أداة أو مجرد مرآة عاكسة؛ إنه يعاني (انعداما لشخصه) إنه يشبه الأشباح ككائنات تنزلق على السطح؛ حتى لا يبقى من آثارها شيء، وإن بقي شيء فإنما هو عرضي باهت؛ فهو لا يستطيع الغوص في أعماقه؛ فهو نادرا ما يحالفه الخطأ في إنسانية هذا الخطأ؛ فهو لا يميز بين ذاته المختلطة بغيره، وربما عانى من حالة صحية، فشعر بتفاهة محيطه؛ فالإنسان الموضوعي عند نيتشه أداة قياس وتحفة مرآة ثمينة سهلة العطب والتعكر، تحفة تستوجب الرفق والاحترام، بل إنه مجرد وعاء ناعم، منفوخ دقيق متحرك، وعليه أن ينتظر محتوى ما، ومغزى ما ليتشكل وفقا له.
إنني أعتقد أن انعدام الفهم العميق للذات الإنسانية وسعي هذه الذات وراء الوهم، والقيم البعيدة عن طبيعتها؛ يجعل هذا الإنسان هشا وساكنا مؤقتا؛ لأنه يخشى أن يضفي على الوقائع وجوده الإنساني؛ فنحن لا نستطيع الفكاك عن أيدلوجيتنا ومعارفنا وأفكارنا ومذاهبنا؛ وإذّاك علينا أن نتهم المعرفة التي بنينها؛ فنجعلها معرضة لنسائم جديدة من أفكارنا أو أفكار الآخرين؛ حينها ندرك قيمة الإنسان القلق الذي لا يسكن في جمود المعرفة.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC