أن تتمشى في شوارع مدينةٍ مهيأةٍ للحبِّ على مدارِ الساعة أشبه بالنزهةِ داخلَ قوسِ قزح.. تلك هي القاهرة.
ليس بالإمكان التحدث عن القاهرة ورؤيتها خارج دوائرِ الشِّعرِ وأبعاده، وهي الواقفة على الحدِّ الفاصل بين الواقعيِّ والسحريِّ، فحين ضمَّنَ ابن خلدون وصفَ القاهرة في مُقدمته مُشيراً إلى أنَّ الخيالَ يفوقُ كلَّ المدن إلا القاهرةُ فهي تفوقُ الخيالَ، ذلك لأنه استطاعَ أن يُبصرَ المعنى داخل الشكلِ، فساعةُ تأملٍ مسائيةٌ في صحراءِ الهرم ولا شيءَ لديك سوى كوبِ شاي سياحيّ، وجهاتك الثلاث المفتوحة على الامتداد اللانهائي من الرمل، تُعادلُ ملايين الأعوام، فيكونُ جَوهرُ المكانِ ومعناه أكثرَ حضارةً من أبعاده المحسوسةِ، فأيُّ قيمةٍ حسيةٍ قابلة للامتلاك تُنتهكُ بمجردِ تَملكها.
ولو دققتَ أكثرَ ستكتشفُ أن أبسطَ الأشياءِ هي الأكثرُ تمييزا.. وأن معناها أهمُّ من كلماتها.. وأنَّ حقولَ القطنِ في الصعيدِ موزعةٌ بالتساوي في القلوبِ القادرةِ على إنجابِ الحبِّ والسلامِ والإنسان.. وأن كلَّ الوجوهِ السمرِ المعجونةِ باليأسِ والأمل هي من أهم أعمالها.
فبوَّابُ العمارةِ ” العمّ رمزي ” بكلِّ الوجوه التي مرتْ عليه والخسائرَ وأدواتِ الفرح الفقيرة استطاع أن يتجاوزَ أبعاده البشريةَ وسنواته الستين ليُصبحَ حارساً لذاكرةٍ جماليةٍ مطرزةٍ بلهجتهِ الصعيدية العذبة، وصانعَ فرحٍ من الدرجةِ الأولى وهو يروي عن أيامٍ خلتْ غالباً ما يكون هو سيدها بمبالغةٍ شعريةٍ وواقعيةٍ ممكنة.
فالقاهرةُ إذن ليستْ نيلها رغمَ أُسطوريتهِ وجَمالهِ، وليستْ أم كلثوم رغمَ دهشتها وروعتها، وليست طه حسين رغمَ بَصيرتهِ ومَعرفتهِ، ولا هي الأزهرُ الشريفُ بإشراقاته، ولكنَّ أمراً ما سرياً يَكمنُ في الأشياءِ ويَملكُ سرعةً ضوئيةً في الولوجِ إلى عالمك الداخلي، تَزدادُ به أبعادُ الأشياء، فتصيرُ أزقةُ الحسينِ الضيقةُ أرحبَ وأنقى فتتسعُ للمئات بتلك الابتسامةِ المرسومةِ كعاملِ جذبٍ تجاريٍّ في بعض الأحيان، وفي أحايينَ أخرى تكونُ ابتسامةً حَفرتها طيبةُ الإنسانِ المصري ونُزوعه الدائم للفرح، إنها أم الدنيا لأنها جامعةٌ لكلِّ الثنائيات.. الطمعُ والقناعةُ، الصفاقةُ والتأدبُ، الجبنُ والشجاعةُ، الأملُ واليأسُ، والقسوةُ والحنان، كلُّ هذا في شارعٍ واحدٍ وفي ساعةٍ واحدة، ولو تَجرَدتْ من كلِّ هذا لقيستْ ببعضِ الكيلومترات وصارتْ مجردَ خارطةٍ في كتبِ الجغرافيا لكنها اكتسبتْ صفاتٍ نهريةً وانحازتْ إلى حزبِ التحركِ واللا ثبات، فلا ساعةٌ تُشبه الأخرى كما وصفها محمود درويش، وهذه هي الصفةُ المشتركةُ والخيطُ الحريريُّ الذي يَربطُ كلَّ المدنِ المصرية وإنسانها، فبقدر ما تتعامل معها بمنطقها بقدر ما تتآلف معها.
لا شيءَ في مصرَ يَقبلُ التكرار.. وكلُّ شيءٍ هو الميلادُ الأولُ لكلِّ شيء.
هذا هو منطقها وفلسفتها التي يمارسه كبارها وصغارها، رجالها ونساؤها، وحرارةُ شموسها وبردُ مساءاتها.. تلك هي القاهرة.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC