أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
كتب الناقد الحداثي حسين خمري الكثير من الأبحاث والمؤلفات النقدية التي تشكل اليوم رصيده الذي يحتاج إلى قراءة حقيقية من زملائه النقاد جزائريا وعربيا لوضع التجربة في مقامها دون إخراجها من سياقاتها التاريخية لأن التجربة النقدية الجديدة كانت فعلا نضاليا حقيقيا، وليس مثل اليوم حيث أصبح النقد الجديد، البنيوية تحديدا، مسلمة لا نقاش فيها. كانت معاناة “توطين” المناهج النصية مغامرة حقيقية. فحسين خمري من الأوائل الذين ذهبوا نحو هذه المناهج بعيدا عن النقد التاريخي الذي يقول كل شيء إلا النص وغناه الداخلي.
حسين خمري خريج جامعة السوربون التي أنجز بها بحثه في الدكتوراه، الدرجة الثالثة، مع أستاذة السميائيات جوليا كريتسيفا التي أشرفت على بحثه، قبل أن يعود إلى الجزائر ويلتحق بجامعة قسنطينة، ويناقش رسالته الدكتوراه تحت عنوان: “نظرية النص في النقد المعاصر” تحت إشراف الدكتور عبد الملك مرتاض. وفي ظل صراعات جامعة قسنطينة الداخلية، وجدت اللجنة التي كنت أترأسها، صعوبة كبيرة في مناقشة رسالة حسين. غياب مشرفه عن الجلسة زاد في تعقيد الموضوع. (وناقشناها اعتمادا على تقرير المشرف وسط زوبعة من الخلافات استطعت حلها مع رئيس الجامعة، لأنني كنت على علم بطبيعة الصراعات التي لا علاقة لها بالجانب العلمي، داخل جامعة كانت وقتها منتصرة لكل ما هو ديني، وتقليدي قديم). وهذا جزء من معاناة حسين التي تبعته حتى عندما تولى إدارة قسم الترجمة في جامعة قسنطينة. ذكرني الدكتور يوسف وغليسي في إحدى تدويناته بالحادثة: “إنَّ جلسة مناقشته أطروحة الدكتوراه حول موضوع “نظرية النص في النقد المعاصر”، والتي غاب عنها مشرفه، كانت أقرب إلى المعركة، وكثيراً ما خرجت المعركة عن حدودها، حتى وجد رئيسُ اللجنة (الدكتور واسيني الأعرج) نفسَه مُجبَراً على التدخُّل كلّ حين لتهدئة الأجواء وإعادة التذكير بقواعد اللعبة العلمية”. ونظرا لكونه من رواد الفكر المنهجي الحداثي (البنيوي والسيميائي) الذي لم تكن جامعتُه الأم مهيأة لاستقباله، في ذلك العهد، فكان لابد من تحمل تبعات الصراعات الثقافية والفكرية. تقول الدكتورة آمنة بلعلى في هذا السياق: “شغلت حسين خمري مسألة التمثُّل الواعي للمعارف واستيعاب سياقاتها الفكرية والثقافية بكثير من المقاومة التي مكّنته من معرفتها وتفكيكها وجعلها مطواعة مستسلمة له، لينتهي إلى صياغة خاصّة بإنتاج معرفته هو، ومحاولة بسطها للقارئ… تعكس أعماله النقدية نموذجاً نقدياً شغلته الفكرة فسعى إلى توضيحها وشغلته العلامات فعمد إلى استنطاقها وألهمته النصوص التي حاصرته، فعاش في منظومتها العلامية متصوّفاً فيهاً، متنقّلاً بين مقامات الدوال، مُمتطياً أحوال المدلولات، مقتفياً أنساقها المضمرة”. ولم يكتف حسين خمري بذلك وحده، فقد حاول الاشتغال على المصطلح الغربية من أجل توليفه مع الميراث النقدي والمصطلحي العربية على الرغم من الصعوبات المنهجية. فالمصطلح النقدي المتعلق بالنّص والمطبق على القراءات النقدي على النص الروائي أو الشعري، وتقاطعه مع المصطلحات الأخرى كان يحتاج بالضرورة إلى فحص الشبكة المصطلحية عن قرب، في المدونة التي كان يشتغل عليها، وصلته بالخطاب السّيميائي والبحث في خلفية هذا المصطلح في التراث النقدي العربي متى توفر ذلك، بقصد الوقوف على الأبعاد الدلالية والأدوار الوظيفية لمصطلح النصّ في الخطاب النّقدي. القيمة المعرفية للمدونة النقدية لحسين خمري تبين دقة الناقد في بحثه الكبير في توطين المنهج بكل منظومته المصطلحية من خلال إيجاد علاقاتها بالميراث النقدي العربي القديم. فهو يعرف جيدا أنها ترسانة وافدة، ولكنها ليست غريبة عن النص العربي الذي يجب إخضاعه لقواعد النقد العلمية.
كما اشتغل حسين خمري في المادة السردية في مختلف تجلياتها التخييلية. فعمد إلى البحث في “سلطان الحكي” من خلال اللغة التي تشكل لبنة هذه السلطة الكبيرة. فلا توصيل بدون لغة. كل حكايا العالم تعبر من خلال قنواتها. أي قيمة لنص “ألف ليلة وليلة” دون تلك اللغة الشعبية والنحوية أيضا التي عرفت كيف تصل إلى المستمع في الحلقات الشعبية وفي المقاهي من خلال الحكواتي، ومن خلال الكتاب والقراءة. أليست اللغة هي التي أنقذت أوديب من سطوة Sphinx سفينكس، في مسرحية “أوديب ملكا” لسوفوكليس. سلطة اللغة في المحاورة بين السفينكس وأوديب كانت حاسمة انتهت بانتصار أوديب الذي يدخل في مأساة أقسى عندما يواجه مأساة زواجه بأمه “جوكاست”. وقد اهتمت البلاغة الإغريقية بذلك كثيرا واسمته الجنس التداولي Genre délibératif الذي يراهن أكثر على ما يمكن تسميته بخطاب الإقناع واعتماد الكلمة بوصفها أداة البرهان وإجلاء الأسرار وإحقاق الحق. وهذا يتطابق مع مقولة مركزية في فكر ريكور P.Ricoeur الذي ترجمه جزئيا حسن خمري على الرغم من صعوبته ” معجزة الكلمة أو اللوغوس logos، منها وحدها تنطلق لحظات الحق لتعود إليها”. في كتابه في الدفاع عن نفسه من تهمة السحر “المرافعة” استطاع لوكيوس أبوليوس، أن ينقذ رقبته بفضل سلطة اللوغوس. فقد كانت التهمة قاتلة هي “الغواية بالسحر” وليس إلا سحر اللغة التي أغرى بها السيدة الغنية بودانتيلا من طرابلس، ليبيا، التي تزوجها، وأغرى بها بمرافعته العظيمة، جمهور المستمعين إليه وهو يدافع عن نفسه من تهمة لم يرتكبها. اللغة والبلاغة الدفاعية كانت هي جوهر المرافعة. سلطان الحكي وقوة الإقناع كانت لهما الكلمة الأخيرة في مرافعته Apologie.
الجهد “النضالي” في المجال النقدي الذي بذله حسين خمري كان كبيرا ومضنيا. فقد ترك وراءه ميراثا مهما، جزء منه ما يزال حتى اليوم في بطون المجلات الذي يحتاج إلى من يخرجه منها. ليس الأمر صعبا إذ يمكن مثلا، تكليف طالب دكتوراه في البحث عن هذه المادة وتنظيمها وقراءتها نقديا ونشرها لاحقا في كتاب “النصوص الغائبة”
مِن بين مؤلفاته النقدية المنشورة:
• 1983: بنية الخطاب الأدبي
• 1990: بنية الخطاب النقدي
• 2001: فضاء المُتخَّيل
• 2001: الظاهرة الشعرية العربية: الحضور والغياب
• 2007: نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال
• 2011: سرديات النقد: في تحليل آليات الخطاب النقدي المعاصر
كما ترجم الكثير من الأبحاث المنشورة في الدوريات والمجلات المتخصصة وكتابين مهمين:
• 2006: الترجمة في الجزائر، للفرنسي إرنست ميرسييه
• 2008: عن الترجمة، للفرنسي بول ريكور
قيمة جهود حسين خمري ليست في عدد الكتب والأبحاث ولكن في الموضوعات التي تناولتها. فهي موضوعات مرتبطة بفعل التأسيس ومعاناته الثقافية في وسط لم يكن مهيأ لذلك وصراعات سياسية كان سلطانها في الميدان الحركات السياسية التي كانت تحكمها التطرفات السياسوية من دينية وجهوية لم يكن للخطاب العلمي مكان يكبر فيه براحة وسجال حقيقي يعتمد العلم والرغبة في التجديد.
لم يكن حسين وحيدا في هذه المهمة النقدية الصعبة. فقد كانت هناك موجة نقدية تجديدية جزائرية، تبناها الطلبة العائدون من رحلة التعلم في فرنسا أو العالم الأنجلوساكوني أو العالم العربي.
يعتبر حسين خمري واحدا من الجيل النقدي الجديد المشبع بنظريات المدرسة النقدية الفرنسية التي كانت قد بدأت تنتشر منذ أن ترجم تودوروف تزفيتان كتاب الشكلايين الروس واضعا في عمق النقد الفرنسي الكلاسيكي قنبلة ستفجر النقد التاريخي كليا. منذ أن عاد من باريس وهو يجتهد مع كوكبة نقدية لتهوية النقد الجزائري والعربي من التاريخ، واختيار النصية كسبيل حي للارتقاء بالنقد حتى لا يظل رهين العلوم الاجتماعية ويسير نحو التخصص. ثقافة حسين الفرنسية وحضوره لمحاضرات كريستيفا، وغريماس، وجيرار جنيت، وبارث، وكلود بريمون، وتودوروف، وغيرهم، في باريس، ساعدته على الدخول في عالم بكر لم يكن النقد الجزائري المكتوب باللغة العربية، قد دخله من قبل، لأن في الجانب الفرانكفوني، كان زملاء قسم اللغات الأجنبية قد دخلوا غمار التجربة النصية. ولأنه عالم بكر، فقد ظل حراس النقد التاريخي وعسسه يصغون إلى هسيس التكسرات اللغوية التي كان يحدثها الجيل الجديد في الجزائر خاصة والعربي عموما، فواجهوها بكل الوسائل بما في ذلك “التكفير”. أتذكر في إحدى الندوات، في جامعة قسنطينة، في قاعة المحاضرات، قام أحد الطلبة بلحية كثة ، والذي أصبح سياسيا كبيرا لاحقا، وبدأ يوزع تهم التكفير والتبعية للغرب الاستعماري والماسونية علينا نحن الذين كنا على المنصة، يومها ضحكنا بقدر ما تألمنا أيضا، وأدركنا العقبات التي تنتظر النقد الجديد لكي يفرض نفسه، وسط غابة من الجهل كان لها سدنتها . في الوقت الذي كان فيه الجهد المغربي الجار قد انحاز نهائيا لهذا المشروع النصي في النقد العربي مع كوكبة من النقاد، محمد برادة، محمد بنيس، محمد الأشعري، والخطيب، فتمت ترجمة باختين، تودوروف، غريماس، بارث، وكتاب “الشكلانيون الروس”، الذين شكل مرجعا للنقد الجديد، وكتاب مورفولوجيا الحكاية لفلاديمير بروب. درب البنيوية بكل غواياتها كان قد فتح. ولحسين خمري دور كبير في ذلك. وعلى الرغم من الصراعات التي اتخذت لاحقا طابعا فكريا، فرض النقد الجديد نفسه، على الرغم من أن النشر في الجزائر لم يكن متابعا لهذه المشاريع النقدية الكبيرة. أتذكر يوم كنت في اتحاد الكتاب “الفقير” منذ أن رفض وصاية الأحزاب بما في ذلك حزب جبهة التحرير الوطني. جاءني حسين بمخطوطة كتابة الأول: بنية الخطاب الأدبي متمنيا نشره، وكنا قد استطعنا أن نحصل على وعود تبني وزارة الثقافة نشر عشرة كتب. وهو ما حدث، من بينها كتاب حسين خمري، الذي ظهرت فيه علامات النقد الجديد وكان يبشر بتجربة قادمة، فذة.
انخرط بعدها حسين في تجربة النقد على مستوى العالم العربي. فاشترك في الكثير من الندوات المتخصصة، التي درست مآلات النصية التي وصلت إلى أزمة كيفية تذوق النص الإبداعي وحبه، التي كان مصدرها التعامل مع النص بوصفه كيانا بلا أي امتداد حياتي ومجتمعي. جزيرة معزولة كليا.
فجأة وجدنا أنفسنا أمام غابة من المسلمات غير الدقيقة. النقد العربي مال في العشرين سنة الأخيرة نحو السهولة الكبيرة في التعامل مع الظواهر الأدبية، ولم يتوقف ولا مرة واحدة بصرامة وجدية ليتأمل منجزه بكثير من التبصر وقليل من التواضع، على الرغم من جهود نخبة عربية ومنها حسين خمري حاولت فهم آليات هذا التدهور والتي نادت ولم يسمعها أحد، بضرورة التنبه لمخاطر النصية الفجة. وضرورة إعادة قراءة التجربة كلها والوصول إلى حوصلات تجعل النقد يتقدم لا أن يتجمد في نقطة التثبت. والقيام بما قام به الناقد الكبير تزفيتان تودوروف، قبل سنوات قليلة، عندما وقف وفي يده مشرط النقد الذاتي في التفاتة غير مسبوقة، فانتقد الرحلة النقدية التي تفصل النقد عن دوائره الاجتماعية الطبيعية، التي كان وراءها هو وجيل أصدقائه البنيويين من الستينيات حينما أدخلوا في النقد الفرنسي تجربة الشكلانيين الروس. طرح في كتابه: الأدب في خطر la littérature en péril، قضية شديدة الأهمية في مسألة الأدبية التي تشكل حجر الزاوية في أي معرفة نقدية: هل علمنا أبناءنا حب النص والقراءة لفهم العالم الذي يحيط بهم؟ أم أننا أرهقناهم بالنظرية دون أن يكون لذلك تأثر على النص؟ نحن لا نعلم أبناءنا القراءة الفعالة التي ترتكز على المتعة ومواطن جمال النص، ولكن على الآليات التي لا تهم القارئ إلا في حدود التخصص الضيق. هل نعلمهم النظريات، أم نمنحهم الوسائل العملية لقراءة نص من النصوص وحبه والتأثر بجمالياته؟ وكان سؤاله من وراء ذلك هو تبيان المخاطر المحدقة بالأدب اليوم، فجاء جوابه قاهراً لكل المنجز النقدي الذي مشى على عكازة واحدة تتلخص في شكلية النص، لقد فضلنا الشكل وطريقة الكتابة واللغة على المحتوى الذي يشكل، جزئياً، مبرر الأدب الناجح والجيد.
في الثانويات، بدل أن نفكر في المعنى العميق للأعمال الروائية، فضلنا تحليلها الآلي وفحصها كأنها جثث مخبرية، بالرجوع إلى السيميائيات والبراغماتية وغيرها، على قيمتها، ونتساءل بعدها لماذا لا يحب التلاميذ ستاندال أو فيكتور هوغو وبقية الكتاب الكلاسيكيين الذين أصبحوا تلقائياً مكروهين. لهذا، فالخطر الكبير ليس في موت الكتاب، أو اندثار القراءة، ولكن في خسران توصيل متعة القراءة والمعرفة الفنية، وتحول النقد إلى نظام من الرموز والشفرات التي تحتاج إلى فكها، وليس مسلكاً مهماً للمعرفة وفهم النصوص.
السبب الأساس، هناك تصور مغلوط للأدب يقطع مع العالم الذي نعيش فيه، فُرِض على الجـــــانب التعــليمي وعلى النقد أيضاً الذي أصبح ميكانيكــــياً، وكذلك على كثيـر مـــن الكــــتاب. بينما يبحث القارئ بطبيعته العفوية عما يعطي معنى لوجوده من خلال المؤلفات، خارج هذه المعادلات النقدية التي فرضت عليه.
نتجت عن هذا التعامل غير الصحيح مع النص الأدبي ترسانة مصطلحية ضيعت القارئ كلياً، لم تراجع ولم تضبط ولم تُرهن، إذ إن عمر بعضها قرابة القرن بالمسوغات نفسها، لدرجة أن أصبح لكل ناقد مصطلحات تنشأ في الأغلب الأعم على الفراغ، أو على فهم خاطئ للنظريات النصية التي تشكل مرجعاً له. لا يمكن لظاهرة من الظواهر أن تتطور إلا بالمراجعة الفعالة لما أنجز حتى اليوم، ووضعه في مجال اختبار للتقويم والتصحيح والاحتفاظ به إذا كان استعماله جيداً، أو التخلي عنه. الأمر في هذا السياق ليس معقداً.. أن يتم جرد المصطلحات التي استقرت في العالم النقدي العربي واعتمادها نهائياً إذا ثبت جدواها، أو التخلي والتعويض لكل ما هو مرتبك علمياً. لا يمكن لنقد أن يتطور في ظل ترسانة مصطلحية غير دقيقة. هناك مجموعة من المصطلحات، متداولة اليوم، ولكن أساسها فهم خاطئ أو محدود في مرجعها الأوروبي أو الأنجلوساكسوني. يمكن ضبط ذلك بإرادة نقدية أقوى، تتوخى خدمة النقد أولاً وأخيراً. من بين ذلك، مصطلحات نقدية فردية لا سند لها على الإطلاق، وتدور في فلك صاحبها.
طبعاً، للناقد الحق في فعل ما يريده، لكن على المؤسسة النقدية العربية، إذا وُجدت، أن تفرض نفسها كقوة مقاومة توقف حالة التسيب الذي أنهك النقد والطلبة والجامعيين، لدرجة أن يجد الباحث نفسه في أدغال مصطلحية مرتبكة. وينسى من نحتوا المصطلحات أن كل المصطلح هو اختزال لمعرفة بكاملها مخبأه فيه، وليس مجرد أنانية نقدية تدور في فلك الذات والاستراحة داخل اليقين المناهض أصلاً للمعرفة التي هي حركة دائمة في التغيير المستمر. ونظراً لضخامة هذه الترسانة المصطلحية، يبدو أمر هزها صعباً، وربما مستحيلاً. مع أن الحلول التقنية الأولية متوفرة؛ مثلاً، عقد سلسلة مؤتمرات عربية نقدية يحضرها الفاعلون في المجال النقدي، توفر فرصاً كبيرة لوضع المصطلحات الأساسية في الحقل الأدبي رهن النقاش والسجال، مع أوراق عمل واضحة ودقيقة، لا تكفي فيها الانطباعية التي تتأسس عليها –للأسف- الكثير من العناصر الثقافية التي تخل بالعلمية.
لا نستغرب اليوم أن نجد جيلاً نقدياً ضائعاً داخل أدغال المصطلحية التي ليست أمراً ثانوياً ولكنها من الضرورات العلمية. الهدف من وراء هذه المؤتمرات، الخروج بثبت مصطلحي عربي شامل يرتكز على وفاق معرفي مسبق في المجال النقدي، ينشر في شكل معجم، ويقدم بل يفرض على الطلبة الباحثين في رسائلهم، ويطبق على الحقل المغاربي أولاً، حيث النشاط النقدي الجديد بارز، ثم التنسيق على مستوى عربي للوصول إلى تكوين منظومة مصطلحية قريبة من بعضها، من خلال إنجاز معجم نقدي موسع يعتمد في الجامعات العربية. طبعاً، قد يصطدم ذلك بإرادة جيل استقر على الوهم المصطلحي ولن يقبل بأي تغيير، لكن إثارة الأمر والذهاب فيه عميقاً يشكل اليوم أكثر من ضرورة، حتى ولو بقي المشروع سلسلة ورشات مفتوحة. ربما جاء جيل، غير جيلنا، وأخذها مأخذ الجد وناقشها بعمق أكثر، ووضعها في سياق ما يجب تغييره.
النقد ليس دائرة مغلقة، وليس نصوصاً منجزة، كما يرى ذلك حسين خمري، لكنه عالم حي ومتحرك، مشروع مفتوح باستمرار على المنجز البشري العلمي. على هذه الحركة أن تنعكس على الإرادات النقدية العربية الحية، وتهز يقين ما هو مثبت اليوم خطأ، وإلا سنعود إلى التراب مخلفين وراءنا جيلاً بنى مشاريعه النقدية على الوهم والخطأ واليقين، ورّثناهم لهم دون التمكن من تصويبهم نقدياً. نرى ملامح ذلك اليوم أمام أعيننا من خلال الأبحاث الجامعية المقدمة للمناقشة، حيث كثير من الدراسات والأبحاث يقوم بها طلبتنا الذين أصبحوا أساتذة أيضاً، تبنى على مصطلحات مرتبكة وضعناها بين أيديهم، دون التمكن من تصويبها أو تقويمها، لقنّاهم إياها كحقائق مطلقة تكاد تكون مقدسة، لن تشيع في النهاية إلا معرفة مزيفة وعطالة نقدية حقيقية، لأن طلبتنا سيعيدون إنتاج ما تلقوه منا.
للأسف أحلام حسين خمري كانت كبيرة وواسعة، لكن الموت القاسي وضع حدا لها. لم يمنحه فرصة أكثر لاختبار جهوده بنفسه ومراجعة أبحاثه وتطويرها، من أجل الدفع بالجيل الجديد، على الأقل المتميز منه، إلى اختبار مقولاته أطروحاته النقدية والدفع بها إلى الأمام والتجلي أكثر. ولمَ لا تكوين “حلقة” حسين خمري التي يمكن أن تتحول إلى مساحة واسعة لمناقشة المعضلات النقدية المعاصرة؟