إن ما جرت العادة على تقديمه في ما يكتب من استهلال أنه تبيان للمقصد الذي يندب إليه الكاتب، وللبواعث والصلة التي تربط الكتاب بما سبقه أو عاصره مما كتب في عين الغرض؛ إنما يبدو في حال الكتاب الفلسفي أمرا سطحيا، بل هو إن اعتبرنا طبيعة الأمر برأسه مناف للمقام وضد الغاية.
هيجل: فنومينولوجيا الروح
_________________________
قدم المحرمي كتابه (الاستئناف) للمكتبة العربية بأسلوب نقدي ولغة لا تخلو من الرشاقة والبساطة إذا ما تجاوزنا الهفوات النحوية البسيطة، وبعنوان مغر لافت للنظر استعاره من كتاب الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما؛ إذ وسم المحرمي كتابه بـ(استئناف التاريخ)، وبلاحقة تدور حول المثقف، والثورة، والنظام السياسي المنتظر الذي يبشر به المؤلف وفق نظرية لعلنا نقف عليها في لاحق السطور، وكل ذلك في صفحات لا تتعدى (126) صفحة من القطع الصغير؛ حيث نشر الكتاب في المنامة بمملكة البحرين عن دار مسعى للنشر والتوزيع، بطباعة لا تخلو من أناقة، وغلاف رمزي يحمل في طياته بعدا جديدا لبعث سياسي جديد للإنسانية، من أعمال الفنان سامي محمد وتصميم محمد النبهان، وقد قسّم المحرمي كتابه إلى مقدمة على هيئة مدخل أو مدخل على هيئة مقدمة! ثم أغراه الحديث عن (الثورة…الربيع العربي) في مباحث ثلاثة تناول فيها أسباب الثورات، وإرهاصات الربيع العربي، وكراماته، وأسبابه؛ ليعالج أبعاد الإعلام، والاستبداد، والثورة مقدما حديثا عن (سحر مواقع التواصل)، و(المثقف وتحرير العقل)، ثم فصّل الحديث عن المثقف والسلطة والثورة؛ ليبين دلالة المصطلح والجدل العلمي أو الأدبي حوله في مصادر مختلفة عربية وأجنبية، كما أفرد الحديث عن طبيعة المثقف الغربي، ونهاية البداية حسب تعبيره، وأنها طبيعة تنزع إلى النقد، ونزع لبوس القداسة؛ ليقدم الجدل العربي حول (المثقف في عالمه) معرّجا على التراث وبعض الأفكار عن الجابري، وإدوارد سعيد، وأحمد أمين، وعلى حرب؛ ليخوض في تجربة العلاقة الجدلية بين السلطة والمثقف، وطرح أسئلة متعددة، ويمكن حصرها في سؤاله: أن المثقف يمثل ضمير الأمة؛ فما سر الربط بين المثقف والضمير؟
ورفع المحرمي من منزلة المثقفين في عليين وكأنّهم طبقة فوق الناس، وأن السلطة تتوجس منهم خيفة، ومن أعينهم الواعية، وأقلامهم الكاشفة وألسنتهم الناقدة، وكتاباتهم المعرية للفساد! ولكنه جاء بعدها بعنوان يتمثل في (المثقف والسلطة) وتساءل: هل يمكن أن يكون المثقف هو السلطة؟ ويبين المؤلف أن المثقف (الرسول) (لا يتميز عن غيره من البشر سوى في درجة الوعي وحضور الذهن في ما يتعلق بقضايا الفكر وشؤون الأمة!!)، وأما العنوان الذي يحمل على عاتقه قضايا (المثقف والثورة) فقد جاء لبيان الدور الجوهري والقيادي للمثقف في الثورة؛ معتمدا على أرنولد توينبي في مختصر دراسة التاريخ؛ ليستدل على أن (الحضارات تبدأ بالانهيار حين تفقد الأقلية المسيطرةُ طاقتها الإبداعية؛ فتتوقف الأغلبية عن محاكاتها، وينقسم المجتمع حينها إلى فئتين: الأولى هي الفئة الذليلة والخاضعة والمستسلمة للواقع، والثانية: هي الفئة التي تعيش في الهامش، ولكنها تختزن روح الرفض والرغبة في التغيير والثورة)؛ وكل ذلك؛ ليضع القضية حسب زعم المؤلف في نصابها؛ إذ يرى المحرمي أن (العالم العربي يمر بلحظة تاريخية فارقة؛ حيث تمكنت الفئة المهمشة والمختزنة لروح الرفض والثورة من الصعود وإسقاط الأقلية المسيطرة الفاقدة للقدرة على الإبداع) لذا يمكننا أن نطرح على المحرمي سؤالا فحواه: هل هذا يعني أن الفئة المثقفة وبهذا التصنيف الغريب كانت مالكة لشرارة القدح في الثورة؟ وهل يستطيع المؤلف تقديم أدلة تاريخية على الأقل في سلطنة عمان عن الأقلام الكاشفة للفساد، والأنفس الثائرة للمثقفين، ودورهم في الحراك؟ أم أن القضية عولجت بروح التصوف في تاريخية البحث عن خاتم الأولياء؛ إذ كانت نعوته (أعني الولي الخاتم) تسقط بما يتناسب مع متصوف العصر ومنظّره؟
والغريب أن المؤلف في مبحثه عن (المثقف والربيع العربي) يورد نتيجة لدراسة قدمها ماهر الشريف سنة 1999م في قراءته لخطاب الأزمة؛ وفحواها: أن انفصال الدولة عن المجتمع يتمثل في الاستبداد وغياب الديمقراطية، وسيادة الأنظمة الأبوية، وغياب الفكر العقلاني؛ ولكنه ما يلبث أن ينقاد لرأي الطرابيشي في اعتراف الأخير بالرهانات الخاسرة لجيله حول القومية، والثورة، والاشتراكية، والديمقراطية، والمحرمي إذّاك وحين يعلق شرارة الثورة بعالم التواصل الافتراضي لا أراه إلا واقعا في خضم التناقضات بشأن رهانات المثقف ودوره (النبوي) العظيم! لأن هذا العالم الافتراضي لا يرتبط بالمثقف، وإنما يرتبط بعالم الفقر والأزمات العربية، وحرية الإنسان العربي المسلوبة وبؤسه، وبحثه عن روحه الإنسانية المهمشة في غياهب الكبت السياسي والديني والاجتماعي بإكراهاتها المتنوعة، ولكن المؤلف لا ينفك يضع المثقف أمام رهانات المستقبل، وفي مجتمعات يرى المؤلف أن الدين فيها يمثل أهم مكوناتها الثقافية؛ لأنه مجتمع الأنبياء والحواريين؛ السببُ الذي أعطى المثقف قداسة الرسول أو الحواري في خطاب محمل بحماسة العاطفة والخرافة والتقديس؛ وكأنه يطمح إخراجنا من استبداد السلطة العربية؛ ليدخلنا في استبداد مقدس نبوي مرتبط بالوحي على عادة الشرق وتاريخه المغرق في التقديس.
ويعتقد المؤلف في (سياسة الدول ونهاية التاريخ) أن تعريف المفاهيم النظرية أصعب من إدخال الجمل في سم الخياط، وهو أمام مفهوم السياسة وأبعادها؛ أمام معضلة مفاهيمية جامحة؛ وكأن السياسة نظرية تروم تفسير مبتدإ الكون خارج الوعي الباطني للزمن في الإنسان؛ ليخالف بزعمه هذا ما اعتاد عليه علماء السياسة، ونظريتها، وفلاسفتها الذين قدموا سؤال السياسة في أبسط صورة إنسانية كما فعل جون لوك، وجان جاك روسو؛ حتى عدّها سبينوزا علما واقعيا تجريبيا واضحا وممارسا؛ لذلك فإن المؤلف يتجاوز حدود آفاق الزمن، ويترك الآفاق المعرفية الحديثة لحقل السياسة ونظرياتها؛ ليحط رحال فكره عند أرسطو؛ ليزج بنفسه في قضايا تعد من باب ميتافيزيقا نشأة الدولة (إن صح هذا التعبير)، ويقدم في السياق ذاته تمييز فوكوياما الدولة عن القبيلة بـ(أربعة عناصر) وهو ينقل (خمسة منها!!) ووضع القارئ أمام قضية تتعلق بالنظرية السياسية التي قدم لها فوكوياما في كتابه؛ والتي تتمثل في الديمقراطية الليبرالية تقديما رصينا وعلميا منظما (أعني فوكويوما)؛ ينسفه المحرمي بدعوته للمؤلف إليه إذ يقول: (ولكن لما كان زماننا هو زمان اختبار الأفكار، وامتحان المقدسات وكشف الأسرار؛ فلا بد أن يتقبل فوكوياما ومريدوه المضي معنا في دراسة الأبعاد المعتمة من الديمقراطية، والأصقاع القاحلة من الليبرالية وهو ما سنقوم به في الفصل القادم)
وكل ذلك يمهدُ به المؤلف لإعلان الحداد والأجواء الجنائزية إذ سيتم القضاء النهائي على الديمقراطية الليبرالية معا أو على انفراد؛ ليدفنا في قفر بعيد عن الأيدلوجيات السياسية، وهو إذّاك لا يستطيع الانعتاق من أسر الكلمة وسحرها حين ينعت التجربة الإسلامية بها ولا سيما عند اختيار الخليفة، وكأن الديمقراطية عملية تنتهي عند صناديق الاقتراع لاختيار خليفة، أو رئيس للوزراء، إذ يقول: (وقد تمثلت التجربة الديمقراطية الأولى في الإسلام على مستوى اختيار الحاكم في اتفاق المهاجرين والأنصار على مبايعة أبي بكر وهو ذات ما فعله خلفاؤه الأربعة من بعده)، ومع اعترافه أن الليبرالية تتأسس على الحرية والمساواة؛ وبيانه أدوار فلاسفة الليبرالية بصورة مقتضبة مبتدئا بتوماس هوبز، وجون لوك، والاقتصادي آدم سميث، والعملاق الألماني كانط؛ إلا أنه في هذا الفصل المنعوت بـ(نهاية الديمقراطية الليبرالية) والمفعم بالجنائزية سيبلغ عنوانه: الديمقراطية فكرة تنقد وليست صنما يعبد؛ حتى يقع القارئ في حيرة من أمره من أهداف المؤلف وعنواناته الدوغمائية تارة، واللابسة ثوب النقد على استحياء تارة أخرى!
فوجه النقد الشديد للديمقراطية عبر الفيلسوف الألماني هيجل، والفرنسي جان جاك روسو في عبارات واقتباسات لا تخلو من القطع والاختزال والقلق منزوعة من سياقاتها المختلفة؛ ليصل إلى نتيجة تتسم بالموثوقية ومخالفة الواقع المعيش في التجربة السياسية في العالم المتقدم؛ ليعلن (سراب الليبرالية) متجاهلا التاريخ السياسي الإنساني والواقع الماثل؛ بل إنه يضع الديمقراطية والليبرالية والعَلمانية في سلة واحدة ليتسنى له حرقها جميعا، فيخلص البشرية من آثامها؛ فانتهى إلى قوله: (مما سبق يتبين لنا أن الديمقراطية الليبرالية التي توهم فوكوياما أنها نهاية التاريخ ليست سوى سراب كبير، وأن البقع السوداء في شمس الديمقراطية تكاد تتحول إلى ثقوب سوداء تبتلع إرادة الشعوب وتستلب جيوب الجماهير لتكدسها بيد مجموعة قليلة من أباطرة المال وكانزي الثروة؛ فهل انتهى التاريخ فعلا وهل أسدل ستار الأفكار حقا؟!) ولكن لماذا يطعن المؤلف هذه الطعون للتجربة السياسية الغربية؟
يحاول المحرمي تقديم تجربة سياسية بسيطة تتمثل في النظرية التي أطلق عليها بــ(وسطية الحكمة) لتناهض الفوكوية (نسبة إلى فوكوياما) والليبرالية والديمقراطية؛ فتغتسل الأمة من شرورها وأدرانها، ولكن قبل القراءة المتأنية لهذه النظرية علينا أن نتوقف على اصطلاح المحرمي المتشكل من المصدر الصناعي (وسطية + الحكمة)؛ فقد دأب الفلاسفة والنقاد عند إطلاق المصدر وإضافته إلى جوهر محدد من إثارة إشكالية جدلية متجددة؛ مثل: تاريخية النص القرآني؛ فهذا المصطلح الأخير يثير آفاقا تأويلية مفتوحة؛ يمكن الاعتراك في معامعه اعتراكا تسيل به دماء الأقلام، ولكننا كما نعلم أن (الحكمة) توسّط في الأصل، ونظرة ثاقبة للأمور، فهي أبدا منعوتة بالوسطية؛ فإضافة النعت إلى المنعوت لا يثير إشكالية إلا في حالة الشك، وإذ لا مجال للشك؛ فإن هذا العنوان أو الاصطلاح يعد ناقص المعنى؛ إذ لا يثير أي جديد يستحق النظر؛ فهو من تحصيل الحاصل عند نحت المصطلحات وبناء المفاهيم والحدود والرسوم؛ لذلك كان على المؤلف أن يبحث عن اصطلاح آخر لنظريته السياسية التي يبشر بها.
والآن هل يمكن أن نطرح التساؤلات الآتية: أين يمكننا أن نضع (استئناف التاريخ) وضعا تصنيفيا في المكتبة؟ في الأثروبولوجيا، أم الاجتماع السياسي، أم تاريخ السياسة ونظرياتها، أم النقد السياسي، أم الفلسفة السياسية، أم للأدب في الكتاب نصيب؟ سأحاول أن أضع القارئ بعد العرض التحليلي السريع لمحتوى الكتاب في بؤرة تشخيصية لنصوص من الكتاب سأختارها (ولا يخلو الاختيار من خبث الناقد)؛ حتى نستطيع مساءلة الكتاب مساءلة ندعي أنها علمية، وحري بنا أن نقف على المقدمة التي انطلقت من قضيتين:
الأولى، وتتمثل في تخوف الذهنية العربية من عودة الاستبداد على أكتاف الليبراليين؛
الثانية، أن المجتمع العربي متدين بالفطرة كما وصفه المحرمي.
ولا أدري كيف لي أن أنعت هذا الانطلاق، ولكنّه لا يخلو من أيدلوجيا جاهزة؛ إذ لا يتوقع من الكاتب أن يدرس ظاهرة بفكر مسبق جاهز للحكم؛ لأن البناء السياسي العادل في ظل التعددية الحتمية في البنية الاجتماعية للمجتمعات العربية وغير العربية يستدعي منا أن نؤمن جميعا بضرورة التنازلات في بناء الديمقراطية وتأسيساتها؛ لأن هذه الثقافة أنتجتها روافد مختلفة وأيدلوجياتها متعددة متبيانة، ولن نستطيع أن نصهرها إلا في ظل قانون يحافظ على المصالح الإنسانية في المجتمع السياسي بعيدا عن الدين باعتباره سلطة لا باعتباره ثقافة، وبعيدا عن الإثنيات باعتبارها تمييزا لا باعتبارها أمورا شخصية، وكل ذلك يستدعي الإيمان بالقيمة التي لا تقبل التجزئة وهي القيمة الإنسانية؛ كما علينا أن ندرك أن النظرية السياسية نظرية مبنية بناء تراكميا، وليست مستلة من فيلسوف بعينه؛ فهي منمذجة بناء على المدلول التطوري للعلم كما قدمه توماس كون في بنية الثورات العلمية.
وعلى الرغم مما قدم في النظرية السياسية من نقود لفوكوياما؛ فإنه مما يمتنع على المصادرة ضربة واحدة كما فعل (الاستئناف) حيث إن الأخير قد انطلق في نهاية التاريخ من الإيمان بضرورة استيعاب الطبيعة الإنسانية، وإن فهما لهذه الطبيعة لهو كفيل بإنتاج نظام يكفل للمجتمع السياسي رفاهيته وحريته على الأقل من الناحية النظرية؛ وهذا يعني استحالة سبك التجانس وقوالبه على مجتمع متعدد بطبيعته في أعراقه، ومذاهبه، ومشاربه، ولغاته؛ فالخروج من فكرة الدين الواحد، والقومية الواحدة، أو بمعنى أعمق فإن الخروج مما يشتت الإنسان ويجعله في حالة الحرب الدائمة لا يتسنى إلا بالدخول في إطار مدني جامع يؤسسه القانون ويحترم الذات الإنسانية وخصوصياتها، وما بقي لها من حرية الحالة الطبيعية كما يدعي جون لوك وغيره.
يرى إمام عبدالفتاح في الأخلاق والسياسة أن فرانسيس فوكوياما أسس فكره السياسي حول الديمقراطية على رهانات إنسانية راسخة؛ فالكائن البشري لا يرغب في العيش فحسب، ولكنّه ينزع الاعتراف من الآخرين بوجوده وجودا إنسانيا، وهذا جوهر الفكر الهيجلي، ولا أدري كيف يعتقد المؤلف أن هيجل يهاجم الديمقراطية، فإذا كان هيجل يهاجم الليبرالية والديمقراطية؛ فما البديل الذي قدمه الفيلسوف الألماني صاحب فلسفة الحق وفنومينولوجيا الروح؟ بل إنه يهاجم الاستبداد ويبشر بالليبرالية لذا أدعو المحرمي لقراءة المقدمة التي وضعها فوكويا إذ يتبين الآتي:
أولا: الخطأ المعهود في مصطلح التاريخ في عنوان كتابه، “وقد اختلط الأمر على الكثيرين للوهلة الأولى بسبب استخدامي لكلمة التاريخ؛ فهم إذ يفهمون التاريخ بمعناه التقليدي؛ أي باعتباره سلسلة من الأحداث (…) غير أن ما ألمحت إلي أنه بلغ النهاية لم يكن وقوع الأحداث؛ بما في ذلك الأحداث الخطيرة والجسام؛ بل التاريخ: أي التاريخ من حيث هو عملية مفردة متلاحمة وتطورية، متى ما أخذنا بعين الاعتبار تجارب كافة الشعوب في جميع العصور”[1]
ثانيا: أشار فوكوياما إلى أن هذا الفهم مرتبط بفكر الفيلسوف الألماني ج.ف.ف. هيجل، واستعاره كارل ماركس، وأصبح جزءا من المناخ الثقافي اليومي، ولا سيما عند تصنيف المجتمعات البشرية؛ “فعند هذين المفكرين أن ثمة تطورا متلاحما جليّ الملاحم للمجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية بسيطة قائمة على العبودية وزراعة الكفاف، إلى مختلف أشكال الحكومات الدينية، والملكية، والأرستوقراطيات الإقطاعية، وانتهاء بالديمقراطيات الليبرالية الحديثة، والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا (…) كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس أن تطور المجتمعات البشرية ليس إلى ما لا نهاية؛ بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الأساسية الرئيسية، وهكذا افترض الاثنان أن للتاريخ نهاية: هي عند هيجل الدولة الليبرالية، وعند ماركس المجتمع الشيوعي”[2]، ولا أدري كيف تصور المحرمي هيجل مهاجما للديمقراطية؟
ثالثا:كان يكون للمؤلف متاحا أن يقف على الارتباط الفكري والعضوي الذي قدمه فوكويوما عبر محتويات الفصول لكتابه؛ إذ إن (إعادة طرح سؤال قديم)، وشيخوخة الجنس البشري، ولا سيما الجزء الثالث (الصراع من أجل نيل الاعتراف والتقدير)، إنما يتأسس على مقولتين:
الأولى لهيجل أخذه المؤلف من فينومينولوجيا الروح أو العقل: متمثلا في: وليس بالوسع نيل الحرية إلا بالمخاطرة بالحياة، حينئذ فقط يمكننا التدليل على أن جوهر وعي الإنسان بذاته ليس مجرد البقاء على قيد الحياة، ولا هو مجرد الصورة المباشرة التي يبزغ فيها هذا الوعي لأول مرة.. فالفرد الذي لا يخاطر بحياته قد يعترف به فردا، غير أنه لم ينل حقيقة هذا الاعتراف باعتباره وعيا مستقلا بالذات[3]؛
الثانية؛ وهي لألكسندر كوجيف: الرغبة الناشئة عن طبيعة الإنسان- الرغبة التي يتولد عنها الوعي بالذات وواقع؛ هي في أصلها تعبير عن الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير، وما المخاطرة بالحياة التي يبزغ بها واقع الإنسان إلى النور؛ إلا مخاطرة من أجل إشباع تللك الرغبة؛ وبالتالي فإن أي حديث عن مصدر الوعي بالذات هو بالضرورة حديث عن معركة حياة أو موت من أجل الاعتراف والتقدير؛
ومنه نستطيع أن نؤسس فهما لا يتعارض لا مع الدين، ولا الطبيعة؛ فالحرية الإنسانية وكرامتها أساس بناء المجتمعات السياسية؛ حتى لا تستمر طفولة الجنس البشري، ويعلل فوكوياما تأسيسه على هيجل بأمرين: (الأول) أنه يزودنا بفهم لليبرالية أكثر نبلا من فهم هوبز ولوك، و(الثاني) أن فهم التاريخ باعتباره صراعا من أجل نيل الاعتراف والتقدير ينير لنا الطريق لفهم العالم، حتى لا يطغى الجانب الاقتصادي على الجوانب الإنسانية، ولم يكن قصد روسو ولوك أن تفهم عبارة (إنسان الطبيعة) على أنها تعني المفهوم التاريخي أو التجريبي عن الإنسان البدائي، وإنما هي نوع من التجربة الفكرية تجرد الشخصية الإنسانية من مظاهرها التي هي من نتاج التقاليد، حيث تسعى إلى كشف خصائص الإنسان بوصفه إنسانا مجردا دون انتماءات ثقافية أو أيدلوجية[4]، لقد بين فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية تظل المطمح السياسي الواضح الوحيد في مختلف المناطق والثقافات؛ لأن مبادئ الليبرالية في الاقتصاد (السوق الحرة) ليست غربية ولا شرقية؛ ولكنها إنسانية لا تتعارض مع دين أو ثقافة تتأس على الطبيعة الإنسانية وفهمها؛ لذلك فيمكن الإحالة في هذا السياق إلى أمارتيا صن في كتابه (التنمية حرية).
ومما يلاحظ على صاحب (الاستئناف) أن اللغة التي يوظفها في كتابه لغة منزوية في أعماق التبعية والهوية، ومصادرة الحريات، والتعدد أو نخشى أن تكون كذلك؛ بينما لغة فوكوياما (مهما وجهت إليه من نقود علمية أو منهجية) لغة أكثر إنسانية وانفتاحا؛ لذا كنت أتوقع من المحرمي أن ينفي عن كتاباته شوائب الفهم عن (العلمانية) التي تعد من المنكرات، والمحرمات في الخطاب الديني؛ بسبب اجترار فهم الشيوخ وكهنة الخطاب الديني وإلغاء لعقل الآخر المخالف؛ فإذا كانت (العلمانية) تتمثل في فصل ما هو شخصي (مبدأ الإيمان بالله) عما هو عام (الدولة)؛ فإن دعاة العلمانية دعاة الحرية، والكرامة، والعدالة، والمساواة، وكل هذه القيم تنادي بها الكتب السماوية، والفلسفات الإنسانية؛ بينما لا نجد من الخطاب الديني المعاصر سوى خطابين دينيين متباينين:
الأول: يختزل الدين في الحدود والجنايات وتطبيقها، ويتناسى القيم الكلية لللإسلام (مثلا) للحياة الكريمة والعدالة؛
الثاني: يرضخ للمؤسسة السياسية، وهو في حقيقته حينما يعزل قيم الدين الكلية في نقد الحاكم؛ فإنه يمارس أشد أنواع الفصل للدين عن الدولة؛ فيقع في المحظور الذي يتهم به دعاة العلمنة؛ بل ويمجد الاستبداد، وينأى بنفسه عن مساءلة السياسة؛ ومن هذا المنطلق فإننا نتوجه إلى القارئ الموضوعي: أيهما في هذه الحالة أحق بفرية الفصل بين الدين والدولة؟
ولقد استند المؤلف إلى الجابري في قضية نقد العلمانية؛ حيث يرى الأخير أن الإسلام قوامه علاقة مباشرة بين الفرد وربه؛ فهو لا يعترف بأي وسيط أو سلطة[5]؛ بيد أننا نود الإشارة إلى أمرين: (الأول) أن انعدام الوسيط والتفويض المباشر فكرة بسطها سبينوزا في اللاهوت والسياسة حين تناوله للدولة العبرية التي أسسها موسى عليه السلام، ولا أستبعد أن الجابري قد استقاها منه، وبسطها الصادق النيهوم في التفريق بين مبدإ الديمقراطية والشورى؛ (الثاني) أن العلاقة في الدين والإيمان تستدعي العلاقة المباشرة مع الله، وانعدام الكهنة ورجال الدين، والوعاظ، وغيرهم، ولكنها في تنظيم الدولة، وفي ظل تعقد المجتمعات الإنسانية وعلاقاتها لا يمكن أن تستقيم خارج التمثيل، والتنظيم البرلماني.
ويمكننا أن نقف على مواضع من نصوص الكتاب؛ لنضع تساؤلات حولها؛ حيث نجد المؤلف يقول: (لن نكون مبالغين إن قلنا إن ثورات الربيع العربي التي انطلقت في يناير 2011 لم تسقط الأنظمة المستبدة فحسب، بل هي في طريقها إلى إسقاط كل الأيدلوجيات العتيقة بما فيها أيديولوجيا الإسلام السياسي، وأن الفشل المحتوم للحركات الإسلامية ستتبعه ثورة فكرية ومعرفية تتجاوز السدود والموانع التي وضعها حراس هيكل التقليد)[6]، ثم يقول في الموضع نفسه: ( لا يوجد في تاريخ الإنسانية ثورة كتب لها المجد والخلود سوى تلك القائمة على تجديد الرؤى والأفكار؛ أما ما يحدث في العالم العربي الآن فهو ليس سوى ثورة شعوب ضد أنظمة سياسية يشتركون معها في ذات الثقافة والفكر والبنى المعرفية)[7] ولا أدري كيف للقارئ أن يوائم بين الفقرة السابقة والتي قبلها وسط تيار من التناقضات الغريبة؟
إنني أعتقد أن المؤلف كان عليه أن يستند إلى دارسين متعمقين لمعنى الثورة؛ إذ لا توجد ثورة خالية من معناها، ومعنى الثورة وروحها التغيير؛ فالثورة أصلا مبنية على الفكر، وصراع الفكر مع الفكر السابق؛ لذلك كانت العصور القديمة على وعي تام بالتغيير السياسي، وما يصاحب التغيير من عنف ونضال، ولا نستطيع بحال من الأحوال أن ننكر الدور الكبير الذي أدته القضية الاجتماعية في الثورات كلها؛ لأن الحياة الإنسانية متغيرة على الدوام، وخاضعة لناموس كوني لا يختل؛ إننا لا نستطيع أن نفك الارتباط بين الثروة، والحكم، وما يستتبع ذلك من مصلحة قد تكون هي القوة الدافعة وراء الخصام السياسي؛ فمسألة التمييز بين الفقراء والأغنياء، وجعل الفقر حقيقة وصيرورة حتمية في الحياة كانت وراء الثورات[8]؛ وإذا كان المؤلف ينتقد الطوباوية؛ فإنه قد وقع في شراكها حينما عزا كل تحريك وتنظير إلى المثقفين الأنبياء، تقول حنة أردنت: لم تكن الثورة الأمريكية وانشغالها بكيان سياسي جديد، وبشكل جديد من أشكال الحكومة، وإنما أمريكا القارة الجديدة، والأمريكي الإنسان الجديد، والمساواة الرائعة التي يتمتع بها الفقير مع الغني هي التي أشعلت الروح الثورية في الناس[9].لقد كان فقدان الحرية وإذلال الإنسان في الإقطاعيات محرك الثورات، ومحرك الأيدلوجيات للثورة المزدوجة في فرنسا وبريطانيا، حتى سيطر على الفكر المتنور نزعة فردية علمانية عقلانية تقدمية؛ لتحطيم الأغلال التي كبّلت الحرية الفردية[10]
ولكن المحرمي مغرم بالمثقف الرسول والحواري الذي يرسم للناس سواء السبيل؛ فيقول: (لم يعد لدى المثقف العربي أي خيار سوى النزول من برجه العاجي، وإعادة قاطرة الصعود الحضاري للأمة إلى مسارها، أو الاستقالة الأبدية من مكانته المعنوية في ضمير المجتمع (…) فهل يستطيع مثقفونا نفخ الصور وإحداث القيامة المنتظرة)[11] بهذا الأسلوب الشاعري المتحمس يعالج المحرمي قضية إعادة التشكيل للأمة! وينتقل إلى أن النظام الديمقراطي لا يعطي للفرد حق المشاركة سوى ما كان من مشاركته لاختيار ممثليه، وهذا الاختيار ما هو إلا تضليل ودعاية إعلامية، وشأن الديمقراطية في هذه القضية شأن الحكم الديني، وحاكمية الفيلسوف عند أفلاطون؛ لذلك يطرح المحرمي شكلا فسيفسائيا مبنيا بناء طموحا مجترحا إيجابيات النظريات والتجربة السياسية المتنوعة حتى تتميز عن الديمقراطية الليبرالية التي ينتقدها المؤلف في كتابه[12].
ولا أدري وإن كنت أدري؛ كيف وقع المؤلف في الخلط بين مسألة التمثيل، ومسألة المشاركة، وربما نستطيع أن نوجه تساؤلا للمؤلف إذ ينتقد الديمقراطية: هل قام جميع المسلمين باتخاذ القرارات في مشارق الأرض ومغاربها حينما تمت بيعة الشيخين أبي بكر وعمر؟ أيمكن أن نقول أن المؤلف ربما وقع في الخلط بين الديمقراطية الليبرالية، والمطلقية الديمقراطية؟
إن الأخطاء أحيانا في تطبيق نظام سياسي لا يعني خطأ ذلك النظام بقدر ما يعني الخطأ في الفهم والممارسة كما أشار فوكويوما بنفسه، وفي الوقت ذاته لا نستطيع أن نخلط بين أنظمة سياسية تنسب إلى الإسلام، وأن نجعلها صورة الإسلام بما هو نص، وقد أخطأ المؤلف في وصف العملية الانتخابية في الحكم الديني حسب تعبيره من وجهين: (الأول) أنه جعل شكل الحكم في إيران هو الحكم الإسلامي الوحيد؛ رغم أنه يسير على نظام ولاية الفقيه، وهو نظام منتقد بشدة؛ (الثاني) أن فوكوياما في كتابه بيّن تلازمَ الليبرالية والديمقراطية، ولكنه أشار إلى إمكانية الفصل بينهما؛ وضرب مثالا على الدولة الليبرالية ببريطانيا، والديمقراطية التي لا تتأسس على الليبرالية بإيران؛ إذ ليس فيها ضمانات لحرية التعبير أو الاجتماع[13]، وأعتقد أن هذه السمة الأخيرة لا علاقة لها بالإسلام بقدر علاقتها بالأيدلوجيا السياسية.
وإذا كان المؤلف ينتقد الحكم الديني باعتباره نوعا من التسلط والاستبداد الذي مارسته السلطة الدينية؛ فكيف يوفق المؤلف بين نقده السابق، وزعمه اللاحق في ترسيخ نظريته (وسطية الحكمة) ومبادئ هذه النظرية التي تتمثل في “مشاركة جميع الناس، وتقديم أهل العلم والفضل، والإخلاص، والشرف على غيرهم، وتقليص صلاحيات الحاكم”[14]، ولقد عيب على سبينوزا أنه لم يقدم وصفا للدولة الديمقراطية رغم تراثه الفلسفي الذي تركه في الفلسفة والسياسة؛ فكيف يستطيع المؤلف أن يقدم نظرية الدولة في الصفحات (103- 122)، وكأنه يقدم درسا لمادة التربية الإسلامية للصف الثامن، أو التربية الوطنية؟
وليبين لنا المحرمي من هم الحاشية الجديدة (أهلم العلم) و(الفضل) و(الإخلاص) و(الشرف)؟ وما المقاييس التي يتبين بها الإخلاص والشرف؟ أليس هذا في جوهره فكرا استبداديا تمييزيا للناس ما أنزل الله به من سلطان؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ