شاب ثري غريب يحب فتاة فقيرة ، ويفوز بحبها لكنه يصطدم بالتقاليد ، قصة سمعناها كثيرا ،وشاهدناها في الكثير من الافلام والاعمال الدرامية ،كيف يستطيع مخرج أن يتناول هذه الحكاية البسيطة في فيلم سينمائي يحقق حضورا مميزا ؟
هذا تحدٍ كبير ، وعلى من يدخله أن يتحلى بشجاعة ، وثقة عالية بأدواته السينمائية ، فالقصة ، والسرد الحكائي من أهمّ ركائز الفيلم السينمائي ،و غالباً مايكون سبباً لنجاحه ،وهذا يفسر إرتماء أهم السينمائيين في العالم بأحضان الروايات الشهيرة ،والمؤثرة “فهي مادة جاهزة وناضة ودانية قطوفها ، لكن في فيلم “يوم من العمر ” يدخل مخرجه ، وكاتبة “سالم بهوان” معركة الحضور السينمائي مُجرداً “او بمعنى اصح مُجرِّداً نفسه من هذا السلاح” فهل سينجح في ذلك ؟
الفيلم ثاني تجربة اخراجية لهذا الفنان بعد فيلم ” البحث عن مستحيل ” لكنه هذه المرة يُضاعف من جرعة التحدي ، فيكتب ، ويخرج ، وينتج فيلمه هذا ، ومع المشاهد الأولى للفيلم ، وبعد إنسياب جميل للقطات ، يشعر المُشاهد بالاسترخاء ، فهو يراقب طبيعة ساحرة ، وموسيقى متناغمة مع تلك الطبيعة الخضراء البكر، وتكوينات صورية جميلة ، وزوايا تصوير وحركة كاميرا تحكي الكثير ، تعرف حينها انك تشاهد فيلماً يراهن على جماليات الصورة ، والتقنيات الحديثة في التصوير “فقد استخدم المخرج فريق عمل محترف من بوليوود بقيادة مدير التصوير أتيش بارمر ،وهذا أعطى تميزاً للفيلم بتلك الصورة الجميلة التي كانت من أهم ركائز نجاح الفيلم ،خصوصا إن فريق التصوير عمل على تقنيات كاميرات سينمائية حديثة جدا” ، فكان جمال الصورة ينثال في تناغم ايقاعي جميل مع الصوت الذي اختار المخرج أن يكون لأغان بلغة جبلية قديمة تدعى “بالمهريّة ” ليتدرج الهرم الايقاعي للصوت الى عزف آلة الساكسفون الغربية فيتنقل ، خلال أحداث الفيلم، من القديم الموغل في الاصالة الى الجديد التغريبي ، فالثري الشاب القادم من مسقط ، الهاوي للتصوير ، والعزف على آلة الساكسفون ، ويستخدم التقنيات الحديثة كالهاتف ، والانترنيت، تلفت نظره فتاة ترتدي الثياب الفولوكلورية لسكان الجبل ،فتشده هذه الأصالة ،ويعشقها ، وقد وظّف المخرج اللون في مشهد النظرة الأولى للفتاة ، فكانت ترتدي ملابس خضراء في تدرج لوني يتناغم مع الخضرة المنتشرة على سفوح الجبال والوديان ، فيحنّ الشاب الى تلك الأصالة ، ويحاول توثيقها بالصور لكنه مع مرور الوقت يشعر بإنجذاب من نوع آخر بعد أن يعرف إن الفتاة يتيمة ، وبكماء ، ومصابة بمرض مزمن ، فيقرر أن يرتبط بها رغم كل ذلك ، فالحب عنده هنا يتحول الى حب للأصالة التي لاتستطيع أن تعبّر عن ذاتها الا بحضورها ،وجمالها الأخّاذ ، تلك الأصالة المهددة بالانقراض بسبب الثقافة الغربية التي يشعر كاتب، ومخرج الفيلم بالقلق الحقيقي منها ، لينتهي الفيلم بالاستسلام الى حقيقة إن الأمر تعدى مرحلة القلق الى الأمر المحتوم ، فينتهي الفيلم بفجيعة الشاب بموت فتاته في يوم زفافه ، ليعود بالطائرة التي أقلته، في بداية الفيلم ، الى عالمه الهجين باستسلام وحزن شدين.
توثيق الأصالة
لكن “بهوان” لم يستسلم كما استسلم بطله ، فحاول توثيق كل ما هو أصيل في الجبل ، فاستخدم لغة أهل الجبل القديمة ،وترجمها للعربية ،والإنكليزية ،وجسد بعض العادات ،والتقاليد المتبعة في ذلك المكان ، كاللقاء بين القبائل , والقاء القصائد خلال اللقاء ترحيباً بالضيوف ، ومشاهد العرس ، وتفاصيله الدقيقة ، والتكافل الإجتماعي بين أبناء القبيلة بمساعدة العريس على تكاليف العرس بدفع مبالغ نقدية له ، وعودة الأبل ، وهو من أجمل المشاهد في الفيلم خصوصاً لقطات التصوير الجوي التي علمت من المخرج إنه صوره “بطائرة صغيرة” ، واستخدم لتصوير هذا المشهد 2000 جمل فكانت مشاهد اخّاذة حاول الكاتب ، والمخرج من خلاله ترسيخ فكرته عن ارتباطه بالجبل ، فيقول على لسان بطله “حتى الجمال تحنُّ الى الجبل”، فهي تعود إليه في موسم الخريف ، لأنها لاتستطيع أن تتسلق الجبل في مواسم أخرى ، وتبقى في الوديان ، لفترة طويلة، لكنها تعود اليه بإعداد هائلة حال تمكنها من ذلك يشدها الحنين الغريزي .
نقلة مهمة
الفيلم نقلة مهمة في تاريخ السينما العمانية الفتية ، وحتى على مستوى الخليج العربي ، والملاحظ إن المخرج استعان بوجوه شابة كـ”خميس البلوشي” الذي أدّى دور”سهيل” وهذه مغامرة منه ،فهذا اللون من الأفلام يعتمد بشكل كبير على أداء الممثل ، وكما هو معروف ان قلة الكلام تستوجب تعبيرا أدائيا يعوض تلك الشحة في الحوار، وكذلك غامر “بهوان” عندما كتب سيناريو وحوار وقام بعمليّتي الإخراج والإنتاج وهي مهمات صعبة ، وكانت بعض الشخصيات تظهر ، وتختفي كالقريب الذي اصرَّ على الزواج من البطلة، وحتى البطل الذي ترتكز عليه البنية الحكائية للفيلم أهمل النص جذوره وعائلته ونشأته “فهذه الامور تحدد الشخصية وتُزيد من معرفة المتلقي بها وبالتالي التعاطف معها “فنحن نتعاطف مع من نعرفه وكل ماعرفناه اكثر زاد تعاطفنا معه ” هذه اللمسات البسيطة تعطي واقعية وحضورا حقيقيا للشخصية ، كما انها تُجبر المُشاهد على التعاطف مع تلك الشخصية فهي ُتعطي تفسيراً ودافعاً منطقياً لما يقوم به البطل من فعل أو قول ،ربما يكون هذا بسبب رغبة المخرج بتقليل زمن الفيلم كي يشارك في مهرجانات عالمية تتطلب زمنا محددا ، للأفلام التي تعرض فيها ، هذه الأمور تحتاج الى مشاهد ، خصوصا ان مدة الفيلم ” 68 ” دقيقة .
الفيلم قفزة للسينما العمانية وبشارة خير لهذه السينما التي تخطو خطواتها الأولى منذ سنوات قليلة ، وهو ايضاً يقدم طاقة سينمائية واعدة تتمثل بالمخرج والكاتب الشاب “سالم الباهي ” الذي عرفته الاوساط العمانية ممثلاً ، فاذا كانت البدايات والخطوات الأولى بهذه الثقة ،فالقادم بالتأكيد يبشر بالخير الكثير.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC