أثير- مكتب أثير في تونس
أجرى الحوار: محمد الهادي الجزيري
بعد أن تفضّل الأستاذ الصافي سعيد بشرح مفهوم الدولة الوطنية وتميّز سلطنة عُمان وبعض الدول الأخرى باستمرارية الدولة، وعدم السقوط في قطيعة مع جذورها الوطنية، وبعد وقوفه على بعض نقاط التشابه بين المغرب وعُمان في نظام الحكم، وما تتفوّق به السلطنة على دول أخرى في مجالات بحرية وتجارية ..، وما تنفرد به عُمان من سياسة حياديّة، بعد هذا التوسّع في تاريخها ..، يواصل الأستاذ القدير الصافي سعيد حديثه في مواضيع أخرى مثل انتشار المذهب الإباضي ووصوله إلى مناطق نائية مثل جزيرة جربة في السواحل التونسية، والتطرّق إلى جديده ..، فزنا منه بسبق صحفي.. ونلنا حديثا عن كتابه الجديد ” تاريخ المغرب العربي ” ولا يسعنا إلا أن نشكره على تخصيص الوقت لنا ..ودماثة أخلاقه وسعة علمه وخبرته الكبيرة ..، حقيقة شكرا له على الاحتفاء بنا وتسجيل هذا الحوار معنا …
ـ كيف انتشر الإسلام عبر التجارة البرية والبحرية؟ والرغبة في التوسّع والمشكل الديمغرافي الذي يحدّ هذا الطموح ؟
توجد ثلاث أو أربع دول عربيّة قامت بنشر الإسلام، ليست تونس، ولا مصر، رغم الأزهر ورغم الزيتونة، وليست الجزائر..، من قاموا بنشر الإسلام في إفريقيا هم ليبيا، باعتبار قربها من إفريقيا، وكانت بها دعوى اسمها السنوسيّة، وهي دعوى صوفيّة نشرت الإسلام في التشاد والنيجر، والمغاربة في غرب إفريقيا أي في السنغال وغينيا وبوركينا فاسو ومالي، وسلطنة عُمان في ساحل إفريقيا.. كلّ هذه الدّول نشرت الإسلام عبر التّجارة، لم يكن هناك لا فتح ولا عنف..، تمّ نشر إسلام سِمح مُتسامح وتجاري، الآن أصبح الإسلام والإرهاب أسلحة من أسلحة الدّول والحروب والحروب المثلثّة والحروب التي تُخاض بوساطةٍ، لكن في نشر الإسلام في إفريقيا لم يوجد أيّ شيء من هذا.
عمان دولة بحريّة عندها خبرة كبيرة في البحر، وربّما نقطة ضعفها الكبيرة تاريخيّا هو أنّها لم يكن لديها شعب كبير من حيث العدد الديمغرافي، وهي مشكلة واجهت كلّ العرب الذين أرادوا الخروج والامتداد جغرافيّا، دائما يجدون الميزان الديمغرافي ضدّهم، الجغرافيا كبيرة والديمغرافيا قليلة..، اللّيبيّون عندهم مليونا كيلومتر مربّع على سبعة ملايين، والقدّافي أراد تغيير العالم بأكمله..، لا يستطيع القيام بذلك بشعب صغير ديمغرافيّا.. فرنسا مثلا، كان عندها أكبر عدد سكّان في أوروبا في القرن الثامن عشر/ التاسع عشر، كان عندها 25 مليون في حين لبريطانيا 5 أو 6 ملايين..، عندما تجمع عدد كلّ سكّان أوروبا لا تجدهم مُساوين لعدد سكّان فرنسا في ذلك الوقت…
محمّد علي باشا في مصر كان يُسمّي أحد سلاطين عمان البوسعيد الأوائل، أظنّ أنّه سعيد الجدّ، كان يُسمّيه زعيم القوميّة العربيّة، لأنّه محمّد علي باشا كان يريد أن يكون هو زعيم القوميّة العربيّة، لكنّه لم يجد بدوره شعبا، فعدد سكّان مصر في ذلك الوقت حوالي مليونين ونصف، كان يريد أن يغيّر ويدخل للشّام ويحتلّ إسطنبول، لكنّه لا يستطيع، لأنّ القوّة تعتمد أيضا على المقاتلين وعلى البشر عموما..، عندما كانت الدّولة العثمانيّة تدخل في حرب مع روسيا ومع الآخرين، كانت تجمع المقاتلين من شمال إفريقيا، تونس والجزائر وليبيا، وتُشكّل بهم جيوشا.. حتّى الآن، العديد من الدّول لا تملك جنودا، حتّى في أمريكا، وذلك لعدّة أسباب، على سبيل المثال لا يكون للأسرة إلّا طفل واحد، فتمتنع عن تقديمه للحرب.. روسيا أيضا الشيء نفسه، واليوم هي تعاني من عدم امتلاك جنود رغم كبرها كدولة ضخمة ممتدّة..، لهذا السّبب بدأوا يشكّلون جيوش المرتزقة من جديد..، أمريكا لديها جيش مرتزقة، وروسيا وتركيا، وغيرهم..، لأنّهم لم يعودوا قادرين على أخذ طفل العائلة الوحيد، في العائلة الأوروبيّة خاصّة نجد أنّ العائلات في أغلب الحالات تكتفي بالمولود الواحد. وهذه المشكلة، المرتبطة بالديمغرافيا، تكرّرت معنا كثيرا نحن في العالم العربيّ.
ـ لو تحدّثنا عن الدولة التونسية في مساعيها في بناء ” الدولة الوطنية ” ..؟ وما الفرق بين الدول المتماسكة تاريخيا وبين الدول المصطنعة ؟
قبل الموحّدين كانت توجد دولة اسمها دولة المرابطين..، المرابطون يمتدّون من الساقية الحمراء بموريتانيا إلى حدود طرابلس وأبعد قليلا من طرابلس…، وعندما نتحدّث عن هذا المجال، نحن نتحدّث عن جنوب الأندلس، غرناطة وتوابعها..، إذ كانت دائما تابعة للمغرب العربيّ، خصوصا في العهد الأندلسيّ المتأخّر أصبح حكّام غرناطة من المغرب..، انتهت إذا الدولة الموحديّة في القرن الثالث عشر، وأتت الدولة الحفصيّة… وبنو حفص هم كما بنو مرين في المغرب، وبنو عبد الواد أو بنو زيّان في الجزائر في تلمسان، وهم ثلاث أسر مشتقّة من الدّولة الموحديّة، مشتقّة من أبناء أو أحفاء عبد المؤمن ابن علي، القائد العسكري الكبير للدّولة الموحديّة.. هذه الأسر الثلاث، عندما انهارت الدولة الموحديّة في 1235/ 1240، خلال هذه السّنوات، قسّموا المغرب، أصبحت المغرب دولة، والجزائر دولة، وتونس دولة.. هذه هي التشكيلات الأولى للدّولة الوطنيّة.
وعندما نقول الحفصيّين، نذكر منطقة الأسواق والدواوين والأحياء والبناءات وتربة الباي وكلّ ذاك الفضاء المقسّم والمنظّم بعناية، سوق الذهب وسوق الشّواشين وما إلى ذلك…، كان عندها معمار، وسلطة مركزيّة متوارثة، لو نريد إذًا معرفة الامتداد التاريخي للدّولة التونسيّة نبدأ من الدولة الحفصيّة، لكن حدثت قطيعة في بلادنا، إذ إنّ الأتراك قد حكموا، وعندما حكموا طويلا، جاء الأتراك إلى تونس عام 1570، وقبلهم احتلّنا الإسبان، حكموا 40 عاما، ثمّة جماعة من الدّولة الحفصيّة هي من طلبت من الإسبان الحماية، ثمّ طلبت جماعة أخرى من الأتراك أن يأتوا لحمايتنا من الإسبان، وصارت الضفّة كلّها تركيّة عثمانيّة، من الجزائر حتّى سوريا، أي الضفّة الشرقيّة والجنوبيّة…، لم يدخل الجوّ العثمانيّ لا المغرب أو عُمان..، لكن حصل هذا في معظم بلدان العرب..، وهذا الفرق بين دولة عضويّة متماسكة، تاريخيّا متمركزة، وبين دول مصطنعة..، قبل مائة عام، توجد حوالي 70 دولة، اليوم ثمّة 200 دولة وأكثر..، هذه الدول الكثيرة هي الخرائط عندما تتغيّر، الشعوب عندما تتناسل، الدول عندما تُصطنع، الكيانات عندما تُخترَع.
ـ تُرى كيف انتشر المذهب الإباضي، وكيف انتقل هذا المذهب الديمقراطي الانتخابي من عُمان إلى جزيرة جربة مثلا ؟
المذهب الإباضي هو المذهب الثالث..، وفي حديثنا عن عُمان ذكرنا أنّها توجد داخل مثلّث الهنود والعرب والفرس، هي توجد أيضا داخل المثلّث السنّي الشيعي الإباضي، وهذه نقطة مهمّة جدّا..، المدوّنة الإسلاميّة كلّها قامت على صراعات هذا المثلّث، وإلى الآن هي موجودة داخل هذا الصّراع..، الإباضيّون محايدون منذ البداية، وذلك بدليل أنّ عمان مذهبها مذهب إباضي، والإمامة حكم إباضي، هي إلى الآن محايدة..، الإباضيون هم من قالوا نحن لسنا لا مع هذا ولا مع هذا، نحن مع الديمقراطيّة، نحن مع الانتخاب والنجاعة والحكمة والخبرة..، هذا الشّيء عندما أباحوا به، وجدوا معارضات ومتابعات وتقتيل وكذا، وذلك لم يعجب الدّولة المركزية، لا في الدولة العباسيّة ولا في الدّولة الأمويّة، وهكذا انتشروا، ووصلوا إلى المغرب، دائما.. المغرب يصله النّاس المقداميون والفاتحون الأوائل، كما يصله الهاربون..، من أسّس الدّولة الأندلسيّة في المغرب جاء هاربا، ومن أسّس الأندلس جاء هاربا، والفينيقيّون الذين أسّسوا تونس جاءوا هاربين من بابل ومن فرعون…، إذًا… وجد الإباضيّون تناغما في الجبال، حيث عدد النّاس أقلّ، ودائما أهل الجبال متمرّدين على السّلطة المركزيّة، والسّلطة المركزيّة دائما سنّيّة، الجبال، جبل نفوسة مثلا، وجبل في تونس يسمّى الظّاهر حسب ما أتذكّر، والإباضيّة موجودة في الجزر، جزيرة جربة، وأيضا في صحراء الجزائر، وعموما في المناطق البعيدة عن السّلطة المركزيّة…، المذهب الإباضي هو مذهب ديمقراطي، أتحدّث هنا عن البذور.
ـ حدّثتني قبل الحوار عن انشغالك بإنجاز كتاب جديد، فما هو متنه ..فنحن نطمح إلى كسب سبقٍ صحفيٍ لفائدة أثير ..؟
كتابي الجديد عن المغرب العربي.. أنا كتبت كتبا كثيرة، في السياسة في الرواية في الجيوبوليتيك في المستقبليّات، لكنّي أحسّ أنّ شيئا ما ينقصني لم أفعله، وهو الكتابة عن المغرب العربيّ..، كتابتي عن المغرب العربي قراءة أخرى، ليست تاريخيّة مائة في المائة، لكنّها قراءة بعيون المستقبل، بعيون الجغرافيا السياسيّة… من نحنُ؟ وماذا نُمثّل؟ وأين نحن ذاهبون؟ ما هو مستقبلنا؟ وإلى متى سنعيش في هذه الصّراعات والسياسات اليوميّة التافهة؟ أنا تونسي، وأعرف ليبيا بالزّيارات، ودرست بالجزائر، وعشت بالمغرب، وأعرف موريتانيا، وعندي أصدقاء في كلّ مكان، أصدقاء من ثلاثة أجيال، سياسيّون ونخب وكتّاب وما إلى ذلك، وأحسّ أنّي مُثقل بمسؤوليّة، يجبُ أن أفعل شيئا يخصّ المغرب العربي…، هذا الكتاب أعتقد أنّه كتاب من زاوية أخرى، الكتب عن التاريخ وفحص التاريخ والمباحث في القبائل وأصل القبائل وأصل السلطات والتاريخ الأمازيغي والروماني والبيزنطي موجود كثيرا، وحسب رأيي أغلب هذه البحوثات تمّت بالقصد لغرض ما، لسدّ فراغ ما في المكتبات الجامعيّة…، أنا أريد أن أكتب كتابا للمغرب، أريد أن أبحث عن معنى أن نقول المغرب العربي… هل يوجد هذا المغرب العربي أم لا؟ وما هو مستقبله؟
للاطلاع على الجزء الأول للحوار مع المفكر التونسي الصافي سعيد:
المفكّر التونسي الصافي سعيد لـ “أثير”: عُمان ضمن 4 دول استمرّت فيها السّلطة دون قطيعة