لماذا على الصحفي أن يكتب نصا جميلا من مشهد مأساوي أقل ما يقال عنه أنه يقطع الفؤاد تقطيعا؟ لماذا علىّ أن أكتب عن نساء رملتهن الحرب، وهجرتهن عن بيوتهن واحبابهن وعن أبنائهن.. وعن أطفال أحرقت الشمس وجوههم حتى تغيرت كل معالمهم وحولتهم إلى لاجئين ومشردين، قد لا يعرفون اليوم معنى أنهم “لاجئين” ومشردين من وطنهم الذي ربما خسروه إلى الأبد، ولكنهم يعرفون أنهم عادوا بدون طفولة، فقد سرق تجار الحرب براءتهم إلى الأبد، وسيكتشفون لاحقا معنى أن تخسر كل شيء وتعود لاجئا لا تملك إلا الذكريات المرة.
لكن كيف نستطيع أن نبني “تحقيقا” جميلا من مشهدا مأساوي.. وهل يحق لي أن أنتشي فرحا بعد أن انجز التحقيق، أو المقال أو أي كتابة أخرى عن مأساة إنسانية.
وهو سؤال يحاصرني كثيرا منذ زيارتي لمخيم الزعتري للاجئين السوريين وكتابتي عنه ولا أجد منه فكاكا. ما زلت أتذكر الطفل الذي رفض بشدة ان أصوره، لم يكتف بإشاحة وجهه جانبا ولكنه بدأ نوبة تشبه السب، عمر الطفل لا يزيد عن التاسعة، ولكن المخيم ضاعف وعيه كثيرا.. وكنت قد اقتنصت صورة “حقيقية” تمثل حجم معاناة الأطفال في المخيم ولكني خجلت من نفسي عندما سمعت إصراره على الرفض وحذفت الصورة سريعا وأنا أتألم مرتين: مرة على الطفل، وثانية على الصورة. متذكرا المصور العالمي الذي التقط صورة لطفل في الصومال والطيور المفترشة تنهش في لحمه ثم تحلق به عاليا.
وعي الطفل الناضج قرر أن مأساته ليست مادة للحصفيين، يفرحون بها، يكفي أنها مادة للسياسيين، والنخاسين وتجار الحرب.
كانت الأسئلة تتزاحم في ذهني على طول الطريق بين المخيم الواقع على مرمى حجر من الحدود السورية وبين العاصمة الأردنية عمّان وفي النفس أن أكتب تحقيقا “جميلا” يليق بمعاناة النساء والأطفال داخل المخيم وشوارعه حيث قضيت بعض الساعات هناك محاولا رصد المعاناة الإنسانية التي يعيشها “اللاجئ”. لكن تعليقا على عبارة كتبتها في “تويتر” عن زيارتي إلى المخيم قلبت الكثير من أفكاري، كنت قد كتبت على “تويتر” أنني زرت مخيم اللاجئين في الزعتري وآمل أن أكتب تحقيقا جميلا عن الحياة في المخيم. فرد أحدهم باستغراب فيما معناها “تحقيقا (جميلا) عن مأساة إنسانية”!!
ألا يمكن أن نكتب نصا “جميلا” عن المأساة؟ ليس كل الجمال مفرح ومضحك ويدخل في النفس السرور، ولكن الجمال الذي أقصده وأعنيه هو الرصد الحقيقي والصادق والذي يتوسل نقل المعاناة من سياقها الإنساني المعاش إلى سياق كتابي يمكن للقارئ عندما يقرأه أن يشعر بحجم تلك المعناة دون أن يراها. وكثيرا ما قرأنا روايات مأساوية نخرج منها وقد تقمصنا الشخصيات وعشنا ما تعيشه من مأساة ومن ظلم، ونقول في النهاية.. رواية جميلة، مذهلة.
عندما دخلت إلى المخيم لم أكن أرصد مشهدا سياسيا ولم أسأل عن دور اللاجئين في مخيم الزعتري في انطلاق شرارة الثورة السورية، ولا موقفهم الجديد منها، كنت أرصد مشهدا إنسانيا.. فقط. ولست معنيا هل هم مع الثورة اليوم أو ضدها، رغم أن “المكتوب واضح من عنوانه” كما يقال في الخطاب الشعبي.
إذن لست مذنبا كوني صحفيا، وليسوا مذنبين لأنهم أرادوا الحرية فقذفهم “طلابها” إلى المخيمات، فهم حتما قرأوا بيت أمير الشعراء أحمد شوقي متحدثا عن سوريا ونضالها ضد الاستعمار “وللحرية الحمراء باب.. بكل يد مضرجة يدق”.
ليس كل ما شاهدته بعيني أو سمعته من قصص في المخيم قابل للكتابة، لا لأني لا أريد كتابته ولكن لأن اللغة ليس لها قدرة على احتوائه وتكثيفه. مأساة المخيمات من أكبر المآسي التي يمكن ان تمر على الإنسان.. وأستطيع القول يقينا الآن أن البقاء تحت القصف ومواجهة الموت أسهل بكثر من حياة المخيمات ولكن الإنسان يكتشف ذلك متأخرا.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC