كلمة السر الوحيدة في معيار الحكم على (تقدم الأمم ونهضة الشعوب) هي (البحث العلمي) غير أن التركيز على (إنتاج المعرفة النظرية) وإصدار (الصحف والكتب الأدبية) وتقديمها كخدمة مجانية يؤدي إلى (فجوة معرفية كبرى) ومن الإجحاف التركيز على (الآداب) واعتبارها فرض عين على الدولة ومن المغالاة مطالبتها ببسط يديها في هذا التوجه والإنفاق عليها بسخاء ومن الظلم البيِّن إلزام الدولة بوضع ثقلها في (صنعة الأدب)، وتحويل فوائض الميزانية إلى دعم (كتب المسرح والقصة والرواية والشعر والمقال) وهو مطلب يؤكد أن المثقف العربي يعيش حالة (ترف فكري)، ويسجن نفسه في (أبراج عاجية)، ولا يريد الاعتراف بأن (البحث العلمي، وإصدار الكتب والصحف) تحولت منذ قرنين ونيف في الغرب من (خدمة حكومية) إلى (صناعة ربحية)، ومن (ترف وتحليق في المثالية) إلى (تجارة استثمارية)، وهي حقيقة تؤكدها الإحصاءات ففي الوقت الذي تصدر فيه المطابع العربية (كتابا واحدا) لكل 12 ألف عربي، نجد في المقابل إنجلترا تصدر (كتابا واحدا) لكل 500 إنجليزي، وتطبع ألمانيا كتابا واحدا لكل 900 ألماني، وانتهت التقارير إلى أن العالم العربي يستخدم من 35- 40 % في صناعة أوراق التواليت ومعلبات الوجبات الجاهزة والمفروشات وكثير من الصناعات الاستهلاكية ويأتي في ذيل قائمتها الكتاب واستيراد نحو 65 % من الورق (سابق التصنيع) في واحدة من أهم الصناعات الثقافية والعلمية المرتبطة بالأمن القومي. وربما تكون الفرصة سانحة الآن– عربيا – للتحول من مصطلح (خدمات ثقافية مجانية) إلى مصطلح (صناعات علمية وثقافية ربحية)، فكرا وتطبيقا، إنتاجا، وتسويقا نظرا لما تمثله من أهمية في زيادة إيرادات الدخل الوطني وأحد متاريس الأمن القومي العربي، والاهتمام بـ(المعرفة والبحث العلمي وصناعة الثقافة) والاتكاء عليها كصناعةاستراتيجية بعد أن أصبحت تشكل ما بين (5 – 10%) من قيمة ما ينتجه العالم.
**إشكاليات وإحصاءات **
أولا – تؤكد الإحصاءات تراجعا لدى الإنسان العربي دراماتيكيا في الإقبال على القراءة بما يؤكد أن الوضع كارثي بالمقارنة مع نظيره الغربي حيث أظهر تقرير أصدرته مؤسسة الفكر العربي أن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويا بينما لا يتعدى المتوسط العربي 6 دقائق. وحسب إحصاءات منظمة اليونسكو، لا يتجاوز متوسط القراءة الحرة للطفل العربي بضع دقائق في السنة، مقابل 12 ألف دقيقة في العالم الغربي.
ثانيا – وعلى صعيد الكتب المترجمة المعطيات تؤكد التقارير والإحصاءات أن الدول العربية مجتمعة في أدنى القائمة، وبالمقارنة مع اليابان التي تترجم حوالي 30 مليون صفحة سنوياً فإن الصورة سوف تكون قاتمة لأن الأرقام لا تكذب وتؤكد أن ما يُترجمه العرب سنويا حوالي خُمس ما يترجم في اليونان. والحصيلة الكلية لما تم ترجمته إلى العربية منذ عصر المأمون إلى العصر الحالي 10.000 كتاب؛ وهي تساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة.
ثالثا – تراجع الإقبال على الكتب الأكاديمية والدراسات والبحوث الجادة ومن خلال متابعتنا لأخبار معارض الكتاب في الدول العربية، فإن ترتيب الكتب الأكثر مبيعاً هي التالي: الكتب الدينية، تليها في القائمة كتب الطبخ، وكتب الأبراج وتمثل الكتب المنشورة في العلوم والمعارف المختلفة ما نسبته 15% بينما تصل نســبة الكتب المــنشورة في الأدب والأديان والإنسانيات إلى 65 %.
رابعا – تراجع في حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية مما ينذر بحصار وانحسار اللغة العربية وتحولها إلى لغة متحفية في ظل اجتياح للغات الأجنبية وعلى رأسها الإنجليزية حيث تؤكد التقارير أن عدد الكتب التي تتم ترجمتها إلى العربية لا تتجاوز الثلاثمائة كتاب في السنة ومعظمها كتب أدبية وهي الأكثر رواجاً. في حين أن إسرائيل تترجم 3000 كتاب سنوياً، وروسيا المنهكة اقتصادياً تُترجم 40 ألف كتاب سنوياً أما أمريكا فلها النصيب الأكبر حيث تقوم بترجمة 10 آلاف كتاب ووثيقة في اليوم الواحد.
خامسا – أصبح العالم العربي متخما بمؤلفات الأدب والرواية والقصة والمسرح والمذكرات واليوميات وتراجع التأليف العلمي البحت مما ينذر بوضع كارثي وتبعية طويلة الأمد للغرب المتقدم. وتؤكد الإحصاءات أن إنفاق الدول العربية (مجتمعة) على البحث العلمي والتطوير تقريبا نصف ما تنفقه إسرائيل, على الرغم من أن الناتج القومي العربي يبلغ 11ضعفا للناتج القومي في إسرائيل، والمساحة هي 649 ضعفا. وقد ارتفعت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الصين مؤخرا إلى ما يقرب من 3% بالمائة من إجمالي الإنفاق القومي، حيث بلغت ميزانية الصين للبحث العلمي ما يقرب من 145 مليار دولار، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه هذه الميزانية 30 مليار دولار فقط. أما باقي دول العالم فلا يتجاوز إنفاقهم على البحث العلمي أكثر من 116 بليون دولار. وهذا المبلغ ليس للعرب فيه سوى 535 مليون دولار ، أي ما يساوي 11 في الألف من الدخل القومي لتلك البقية من العالم أما إسرائيل فقد أنفقت على البحث العلمي حوالي 9 مليار دولار سنة 2008, وهو ما يوازي 4.7 بالمائة من إنتاجها القومي. و”تفيد المصادر بوجود حوالي 90 ألف عالم ومهندس في إسرائيل، يعملون في البحث العلمي وتصنيع التكنولوجيا المتقدمة، خاصة الإليكترونيات الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية. وتقدر تكلفة الباحث الواحد 162 ألف دولار في السنة (أي أكثر من أربعة أضعاف تكلفة الباحث العربي)”.
**عوائق وتحديات**
إن الاعتراف بوجود المشكلة يمثل جزءا من الحل والحقيقة أن (البحث العلمي والإنتاج العلمي البحت) في أسوأ حالاته عربيا فقد أظهرت إحدى الدراسات أن ما ينشر سنوياً من البحوث في الوطن العربي لا يتعدى (15) ألف بحث وهذه النتيجة المتدنية يقف وراءها العديد من المعوقات تأتي في مقدمتها:
أولا – البيروقراطية المكتبية التي تدفع الكثير من الكفاءات النادرة إلى أن تيمم وجهها شطر الغرب لتطبيق الدراسات والاستفادة ومن الامتيازات فعلى سبيل المثال هناك حوالي 10 آلاف مهاجر مصري يعملون في مواقع حساسة بالولايات المتحدة الأمريكية من بينهم 30 عالم ذرة يخدمون في مراكز الأبحاث النووية، ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الأسلحة الأمريكية الموضوعة تحت الاختبار، مثل الطائرة (ستيلث 117) والمقاتلة (ب2) و(تي 22).كما يعمل 350 باحثاً مصرياً في الوكالة الأمريكية للفضاء (ناسا) بقيادة العالم الدكتور فاروق الباز، الذي يرأس حالياً (مركز الاستشعار عن بُعد) في (جامعة بوسطن).. إضافة إلى حوالي ثلاثمائة آخرين، يعملون في المستشفيات والهيئات الفيدرالية، وأكثر من ألف متخصص بشؤون الكومبيوتر والحاسبات الآلية، خصوصاً في ولاية (نيوجرسي) التي تضم جالية عربية كبيرة
ثانيا – تقاعس دور القطاع الخاص عن المشاركة في دعم البحث العلمي وإلقاء المسؤولية على كاهل الحكومات، فهناك شح في مساهمة القطاع الخاص عربيا في دعم البحث العلمي والتي لا تشكل أكثر من (1%) في كثير من الدول العربية مقارنة مع (75%) في بعض الدول المتقدمة.
ثالثا – ضعف البنية التحتية للبحث العلمي من معامل وأجهزة وندرة الكادر البشري محليا.
رابعا – ضعف وندرة التعاون بين الجامعات ومراكز البحوث والشركات الصناعية.
**الحلول والمعالجات**
1- إلزام الشركات الكبرى على إنشاء (مراكز بحوث) تساهم في تطوير المنتجات وابتكار خدمات جديدة.
2- إعادة النظر في استراتيجيات التعليم لتخريج (علماء لا متعلمين)، ودعم التمويل الخاص بالبحث والتطوير من مصادر (محلية وخارجية) بنظام الشراكة مما يخفف العبء عن كاهل الدولة ويساهم في تطوير البنية التحتية ودعم القدرات.
3- إضافة باب في ميزانية الدولة يخصص للإنفاق على البحث العلمي بما يعادل النسب التي ترصدها الدول الكبرى.
4- إعادة النظر في منهجية (نظام الدراسة والبعثات الخارجية) والتركيز على مجالات العلوم التطبيقة والبحتة.
5- عقد اتفاقية بحث مشتركة في إطار منظومة التعاون الدولي بين الجامعات ومراكز البحوث المحلية والجامعات الأجنبية.
6- ربط منظومة البحث العلمي بسوق العمل ومجالات النشاط الاقتصادي داخل الدولة.
7- إنشاء وزارة (للذكاء والابتكار) تدعمها (بنوك للأفكار) يكون دورها ابتكار مشاريع وصناعات ووضع حلول للمشكلات تنتهي بتصدير المعرفة التطبيقية والاستثمار فيها.
8- إنشاء جائزة محلية للباحثين المحليين وإعطائهم الفرصة لمعالجة المشاكل التي تواجه الصناعة والزراعة أو لتحسين المنتجات قبل اللجوء للاستفادة من الخبرات الأجنبية.
9- إنشاء مشاريع (أوقاف) للإنفاق على المشاريع والعاملين في البحث العلمي وتمويله.
10- التركيز على تسويق مشاريع البحث العلمي للقطاع الخاص والحكومي.
11- إنشاء ضريبة جديدة تسمى (ضريبة تميل البحث العلمي) ضرائب على الشركات التي ليس لديها مراكز بحوث وتطوير.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC