الأدب المقروء الذي لا يضيف لنا شيئًا لا يستحق أن يُقرأ،وإن لم يأتِ بلغة تزيل عنا غبار الرّكاكة وخشونة اللغة المجعّدة،لا يستحق الأرف في مكتباتنا الخاصة.
ما يُدهشني جدًا و يوجبُ عليّ كلّ فروضِ الذهول كيف أن الشاعر بإمكانه الصعود على أكتافِ عثرات البعض وعثراته،واستغلالها كي تكون سلمًا إبداعيًا يرتقي به إلى لمعانٍ يبهر القارئ ويبقى معه،وكيف باستطاعته جعل القصيدة رواية معبّرة عن الحالة كاملة،ولعلّ تلك القدرة وهي تصطفي الشاعر إنما كانت تصبو إلى الوقوع على أواصر الانتساب بين اللّحظة الجماليّة الّتي حفّزت الفاعليّة الشعريّة على الإبداع، وبين بنيّة ما أنتج بتأثير من تلك اللّحظة، ومدى قدرة الخطاب الشعريّ على التّعبير عن أوفر قسط من محفزات تلك اللّحظة، وانعكاس ذلك كله أسلوبياً.في حين نعجز نحن البسطاء عن التعبير عما نشعر به ولو بكلمة .
“رُجوع“
أجيئكِ مستلفًا
جهةً غير قلبي
فيفضحني الماءُ
ما بين نهديكِ
شوكًا وأحجارَ
دربٍ قديم
أجيئكِ من
عفويةِ أهل القرى
ظالمًا لغتي
فاتحًا لجراحي الخريف
كافرًا بالتراب
على شفتي
مثل هذه الّلوحات الفنّية ذوات الطابع البدوي أو القروي في لغة بليغة تضعنا في محك مع الرّغبة العارمة في التّعرف إلى أهل تلكم القرى واختبار الحياة البدويّة عن قرب،بشراستها وشراهة الأحاسيس ،عنفوانها عفويّتها،كمن تزاحمه مشاعر كثيرة وكلامًا أكبر مما قيل.
جمع الكاتب بين البنية الأسلوبيّة والبنية الفكريّة محدّدًا أبعاد نصوصه تحديدًا أسلوبيًّا في جزالة الّلفظ واستقامته،واصابة الوصف في المقاربة والتّشبيه،ومن اجتماع هذه الاسباب والتحام أجزاء النظم والتئامها بلذيذ الوزن ،ومناسبة المستعار منه للمستعار له ، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدّة اقتضائهما للقافية، وهب لوحاته جمالية فائقة الّلذة، فهذه عناصر تفتح أبواب الشعر والفهم الثاقب،وعيار اللفظ السّليم.
قطرة ماء تسقط على الفقير
أَفي الأرض
كل هذه الفاقة؟
قطرة ماء تسقط على رضيع
أهناك أمٌّ أحن من السحابة؟
قطرة ماء تسقط على الرصيف
كيف لهذي الخطى
أن تعرف قصدها
نلحظ أن الماء لم يكن لمجرد دلالة على الحياة وكذلك ليس دلالة على الجزء الأكبر من تكوين الأرض والإنسان،المثير للدّهشة في هذه اللّوحات حالة نفسيّة استثنائية تطغى عليها حالة عاطفيّة قويّة و الماء فيها يصنع الدّموع،يمكن بالتالي أن نميّز جيدًا بين عدة أنواع من الماء، “قطرة ماء تسقط على رضيع””قطرة ماء تسقط على الرصيف”الماء الحليب،الماء الدمع، أوترضعنا السحابة.!
لا شيء يجعل الأمر أكثر قبولًا لفهم تقنيّة الماء في ديوان الشاعر عوض اللويهي “المياه تخون البرك” إلا قراءة متوازية للحالة النّفسية للكاتب والإنكشاف على تضاريسه الجغرافيّة لندرك حكمته حول طبيعة الماء البدائية.
يلتقي عوض المتميز وعنوانه “المياه تخون البرك”بعلامات حسيّة واضحة جدًا في كل نصّ من نصوصه بحيث أنه يمنحها حياة أخرى وضمائر أخرى، هذه التّقنية الّتي يوظفها الشاعر، وتقنيّة الحوار في بناء النّص الشعريّ منحته مسافة مما جعل القصيدة حالة فنيّة كاملة.
هكذا تنمو الصور عند الشاعر،فهو أولًا يشتمل السدرة والأم ،ثم هو في ذكرى والأمل ليتحقق في العودة الطبيعة “إلى البحر”
الشاعر عوض اللويهي من أجمل الشعراء الذين قرأت لهم حتّى اللحظة،صورة لحنًا،نحتًا،ويتقن إلى حدّ بعيد المقاربة في التشبيه،والتحام أجزاء النظم والتئامها بلذيذ الوزن. لستُ نادمة أبدًا على سرقة ديوانه من دار فضاءات،ولو قيل لي الآن أن له عشرة دواوين لسارعت في شرائها.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC