أثير- الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
هل كل قصيدة يكتبها الشاعر هي وليدة لحظتها الراهنة؟ هل ما تختزنه القصيدة من مشاعر وأحاسيس هو بالضرورة نتيجة تجربة مُعاشة؟ هل يعيش الشاعر كلَّ حالٍ يكتبها؟ أم أن للقصيدة ظروفا وطبائع أخرى غير تلك التي تتبادر إلى ذهن القارئ أو المستمع؟
طبعا لا نحكي هنا عن الشاعر النظّام، أو الشاعر الذي يكتب بناء على “ما يطلبه المستمعون”، بل نعني شاعر الحياة الذي تولد قصيدته من رحم الصدق مع الذات أولا ثم مع المتلقي سواء كان المتلقي قارئًا أو مستمعا. الشاعر الذي تتشكّل القصيدة في عقله ووجدانه مثلما يتشكّل الجنين في رحم أمه، الشاعر الذي يعاني مخاض القصيدة مثلما تعاني كل ولّادة!
ثمة شاعر يمتهن الشعر، ثمة شاعر يحيا الشعر، وشتان ما بين الشاعرين. شاعر المهنة يكتب بناء على الطلب والمناسبة، ويصير أشبه بالحرفيين الذين يصنعون حرفهم في سبيل نيل رضا الزبائن. أما شاعر الحياة فيحيا شاعرا، أي إن الشعر لديه أعمق وأسمى من أن يكون مجرد قصيدة تُكتب أو كتاب يُنشر. الشِّعر لدى هذا الشاعر نمط حياة وأسلوب عيش، وطريقة تعامل مع الوجود والكائنات.
إذا، نحن هنا نتحدث عن شاعر الحياة، الشاعر الحقيقي الذي تولد قصيدته من رحم التجربة. لكن هل من الضروري أن تكون التجربة راهنة وآنية، أم أن القصيدة تتشكل وتنمو تحت شمس النفس الداخلية، وتأخذ وقتها حتى تغدو مولودة قابلة للحياة بشكل مستقل عن شاعرها، تماما كما ينمو الأبناء ويكبرون ثم يمضون كلٌّ في سبيله. فالقصيدة متى نُشرَت بين دفتّي كتاب صارت ملكا لقارئها وما يستنبطه من أفكارها ومعانيها.
أحيانا تولد القصيدة من نظرة، من ابتسامة، من لقاء عابر، من التفاتة امرأة مسرعة إلى موعدها الأول، ثم حين يقرؤها أو يسمعها المتلقي يظنّ أنها نتاج تجربة حُبّ عاصف، كيف؟ لأن الشاعر يحتاج إلى شرارة توقد هشيمه الداخلي، وما يكتبه بفعل تلك النظرة أو الابتسامة هو مشاعر متداخلة ومتشابكة ظلت كامنة في أعماق نفسه طوال أيام وسنين حتى حانت لحظة صاعق التفجير. مرة ثانية كيف؟ تماما مثل عود الكبريت الذي رغم صغره يستطيع إشعال غابة كاملة، يمكن لنظرة، لدمعة، لابتسامة أن تفجر قصيدة كاملة الأوصاف يظنّ قارئها أنها وليدة لحظتها الراهنة.
الشِّعر أشبه بالمياه الجوفية، يتسرب ويترسّب في الأعماق السحيقة للنفس البشرية، ومثلما تحتاج المياه الجوفية إلى رعود الشتاء كي تتفجر ينابيعَ وتجري أنهارا، كذلك تحتاج الكوامن الشعرية في أعماق صاحبها إلى رعود إنسانية متنوعة، روحية ووجدانية وعاطفية وسواها، كي تتفجر على شكل قصائد حب للإنسان، للأرض، للحياة.
إذًا النظرة، الابتسامة، الدمعة، وأي موقف إنساني هو بمثابة الرعدة التي تفجر الكوامن، أو الشرارة التي تحرق الغابة. يكتب الشاعر قصيدته تحت تأثير لحظة راهنة وموقف طازج، لكن ما تتضمنه هذه القصيدة هو نتاج حالات متعددة تراكمت مفاعليها داخل الشاعر ثم تدفقت تحت تأثير اللحظة الراهنة.
الفارق بين النثر والشعر أن الأول يشترط المجاهرة والوضوح، وكلما كان أوضح كان أجمل. أما الثاني فهو أكثر ميلا إلى التلميح منه إلى التصريح. فالشعر طبقات، كلما اكتشفنا طبقة عثرنا على أخرى، لا يصلنا معنى القصيدة كاملا منذ القراءة الأولى. فالقصيدة الحقّة تمنح قارئها معنى جديدا عند كل قراءة، وكل قارئ في إمكانه إضافة معنى جديدا لما يقرأ. وكلما كان الشاعر صادقا في التعبير عن كوامنه استطاع في الوقت عينه التعبير عن كوامن الآخر. بمعنى أدقّ كلما اقترب الشاعر من ذاته اقترب من الآخر أكثر. فالمشاعر الإنسانية تتشابه وتتقارب رغم اختلاف الظروف والثقافات. جميعنا تفرحه الولادة ويحزنه الموت، يسعده الحب ويؤلمه البغض، يريحه العدل ويغضبه الظلم، وكلما عبّر الشاعر بصدق عن هذه الحالات والمشاعر الإنسانية كان أكثر قربا من قارئه، وأعمق تعبيرا عنه.
خلاصة القول؛ إن الإحاطة بكيفية ولادة القصيدة مسألة غير هينة وغير يسيرة، لكنها ليست بالضرورة ولادة راهنة أو لحظوية. الأمر أعمق وأكثر غموضا وتعقيدا. الشاعر نفسه يتساءل أحيانا، حين يعود لقراءة قصائده، كيف وُلِدت هذه القصيدة أو تلك؟ ومن أين جاءت الصور الشعرية المدهشة؟
ألم تؤمن العرب قديما بوادي عبقر؟ بلى ما يزال عبقر الشِّعر حيا يرزق، لكنه يحيا داخل الشاعر لا خارجه، وهل من وادٍ أعمق من النفس البشرية؟